كلنا دعاة إلى الله تأكيد الذات مشاركة4
الفصل الثالث عشر
تُعد الأبيات التالية من أجمل ما قرأته في دفع الاستغلال والظلم، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الشعوب؛ فقائلها وهو محمود سامي البارودي، رب السيف والقلم كما يُطلق عليه، وكان قد وصل لأرقى الوظائف في عهد الخديو توفيق والي مصر من قبل السلطان العثماني، لكن البارودي باع ذل المنصب، واشترى ذاته وعزة نفسه، فناصر أحمد عرابي في وقفته ضد الخديو وضد دخول الإنجليز واحتلالهم لمصر، وكان بعد ذلك الحكم الظالم عليهما بالنفي إلى جزيرة سيلان والحرمان من الأهل والولد!.
لذا تجدها أبيات نابعة من مشاعر رجل ذاق مرارة الظلم بعد أن قال "لا" للاستغلال، ولا للاحتلال، ولا للاستعمار، ولا لأهل التسلط والظلم والعدوان، وكان نصيبه بعد ذلك الحرمان والنفي، وهذا المآل أفضل عند البارودي وزملائه الأحرار من مناصبهم الوزارية!، فما قيمة الوزارة المتسلطة على خلق الله بالظلم؟!، وما قيمة الوزارة التي تحركها يد المحتل الخبيث؟!؛ إنها كالحيوان الأجرب؟!؛ يتحاشاها الناس، بل ولها الوعيد من الله يوم الحساب، لقد ذهبت وزارات الاحتلال البريطاني في مصر وغيرها من الدول المُستعمَرة المحتلة إلى مزابل التاريخ وبقي أحمد عرابي والبارودي وغيرهما من الشرفاء الأعزاء الأحرار نبراسا يُهتدى به، وقدوة لا لشعوبهم فحسب بل لشعوب العالم أجمع. والآن فلنقرأ سويا بتمعن تلك الأبيات، والتي توضح فلسفة صاحبها في رفض الظلم والظالمين:
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
وأقتل داء رؤية المرء ظالمــــاً يُسيء وُيتلى في المحافل حمده
علام يعيش المرء في الدهر خامـلاً أيفرح في الدنيا بيوم يعـــده
يرى الضيم يغشاه فيلتذ وقعـــه كذي جرب يلتذ بالحك جلــده
هذا الحديث على مستوى قادة الشعوب، والآن دعنا نتحدث عن الظلم والاستغلال بصورة مخففة، وأقصد على مستوى الأفراد الأكفاء، مثل معاملات الزملاء والجيران والأقارب مع بعضهم البعض.
إن الأشخاص المستغلين يستطيعون غزو حيز شخصيتك في أي مجال ينشأ عن العلاقات الشخصية، إذا كنت الآن (أو كنت من قبل) ضحية لأحد هؤلاء، فأنت تعرف بدافع الخبرة الشخصية المؤلمة أن الاستسلام والخضوع لسيطرته سوف يعملان فقط على تقوية حالة الاختناق العاطفي التي تقع في أسرها.
بمجرد أن تصبح عملية السيطرة والاستغلال قيد التشغيل، فإنها سوف تكتسب قوة في كل مرة تستسلم فيها أو تذعن لإرادة الطرف الآخر، ومع عدم تعرضه لأي تحد، فإنه سوف يقهر ويخضع حريتك واستقلاليتك وسلامتك، بل وحتى احترامك وتقديرك لذاتك.
إن الطبيعة الماكرة لمحاولات السيطرة والاستغلال تولد في نفس الضحية مشاعر العجز وفقدان السيطرة والتبعية، ومن هناك يتحتم عليك أن تقوم بعزل هذه المشاعر القاهرة للذات وتصنيفها على أنها مجرد مشاعر، وليست حقائق.
والحقيقة هي أنك لا تفتقر إلى القوة في هذه العلاقة، حتى إن كنت أنت الضحية المستهدفة بالاستغلال، وما سوف تتعلمه بعد قليل من أساليب للمقاومة سوف تعطل وتعوق وفي النهاية سوف تقضي على قدرة الشخص المستغل من السيطرة عليك، هذه الأساليب المجربة سوف تزودك بالوسائل والطرق اللازمة لممارسة السيطرة المضادة على هذا الشخص.
ولا داعي لأن تقلق بشأن الكيفية التي يمكنك بها تغيير هذا الشخص مباشرة، فالقيام بذلك لا يقع ضمن نطاق سيطرتك، وهو كذلك خطأ شائع يرتكبه هؤلاء الذين تعبوا من وقوعهم فريسة لمحاولات السيطرة والاستغلال من جانب الآخرين، وفر قوتك، فلن يفلح هذا الأمر فقط ركز على أن تغير من نفسك، فهذا شيء يقع داخل نطاق سيطرتك بالفعل. تذكر دائما أن محاولات السيطرة والاستغلال يتم استخدامها لأنها تحقق النجاح؛ فأكثر الطرق قوة وفعالية لمقاومة الشخص المستغل هي أن تقوم أنت بتغيير استجاباتك، ومن ثم تتعطل فعالية أساليب الشخص المستغل.
إن قوتك تكمن في قدرتك على مقاومة الضغوط وعلى إحباط وهزيمة براعة ودهاء أهداف وأغراض الشخص المخادع المستغل، لقد حان الوقت الآن لكي تضع نهاية لتآمرك على نفسك فيما تتعرض له من سيطرة واستغلال من جانب الآخرين!!.
تقاوم أو تنهي العلاقة، ذلك هو السؤال؟!
إذا كنت في الوقت الحاضر واقعا في شباك علاقة تهدف إلى السيطرة عليك واستغلالك؛ فهدفك الحالي هو أن تتوقف عن الاشتراك في هذه العلاقة كضحية خاضعة تستسلم للضغوط وتذعن لأساليب السيطرة الماكرة والإجبارية والظالمة، وهناك طريقتان لتحقيق هذا الهـــــدف:
(1) المقاومة و/أو
(2) إنهاء العلاقة كلية، وكلتا الطريقتين تشكل السيطرة المضادة التي سوف تقوم الآن بممارستها على الشخص الذي يقوم بخداعك واستغلالك.
المقاومة
كلما زاد ما تستخدمه من أساليب المقاومة، أدى ذلك إلى تعطيل فاعليات محاولات السيطرة والاستغلال، وإلى وضع حد لتلك المحاولات في نهاية الأمر، وفور مواجهة المقاومة الفعالة من جانبك، ربما يحاول الشخص الذي يتلاعب بك ويستغلك في البداية أن يزيد من ضغوطه عليك، ويستمر ذلك الشخص المستغل في ضغوطه عليك حتى يتمكن من إحكام شبكة خيوط سيطرته عليك، ومع ذلك، فعندما لا تستسلم لتلك الضغوط المتزايدة –والتي سوف تتعلم كيف تقاومها– فلن يبقى أمامه إلا خياران قابلان للتطبيق: بمقدوره أن يتكيف مع التغييرات التي قمت بإجرائها؛ وذلك بأن يتبنى أشكالا للتعامل والتأثير أكثر مسالمة واحتراما وتوازنا، على الأقل معك، و/ أو من الجائز ببساطة أن يتعب من المقاومة ويختار بدلا من ذلك أن يستغل ضحية أخرى يجد في إخضاعها والسيطرة عليها صعوبة أقل بكثير مما يجدها معك.
عندما تقاوم بنجاح ما يمارسه عليك هذا الشخص من ضغوط بهدف استغلالك والسيطرة عليك، فأنت بذلك تقوم بعملية إعادة معايرة لتوازن القوى في العلاقة. ويجب عليك أن تدرك أن هذا التحول في ميزان القوة سوف يؤدي بشكل حتمي إلى تغيير العلاقة وتغيير سلوك طرفيها، ومن هنا، فلا يجب عليك أن تخشى هذا التغيير.
وبما أنك ستكون البادئ في إحداث التغييرات وسوف تثبت على موقفك، فسوف يتعين على الطرف الآخر إما أن يتكيف مع مبادرتك هذه، وإما أن يظل متمسكا باستراتيجيته التي لم تعد تعمل بنجاح، على الأقل بقدر ما تحقق له علاقتك به من مكاسب. يجب أن تظل مركزا بصرك على هدفك: عن طريق البقاء في حالة من الإدراك الواضح –أن الطرق الخادعة المستغلة القديمة لن يمكنها بعد الآن أن تعمل بفعالية للسيطرة عليك– يكون بمقدورك أن تستعيد حريتك واستقلاليتك واحترامك وتقديرك لذاتك وسلامتك، من المؤكد أن هذه معركة تستحق أن خوضها وتحقق فيها النصر.
ولكن عليك أن تدرك أن هذه الفترة التي ستعمد فيها إلى إحداث هذه التغييرات ربما تكون فترة مخيفة ومثيرة للانفعالات بالنسبة لكليكما. وحتى إذا ما نجحت أساليب مقاومتك في توليد مجموعة جديدة من الاستجابات السليمة والسوية لدى الطرف الآخر، فمن المرجح أن تكون هناك فترة تكيف كثيرة الصعاب، فعندما يحدث ذلك التغيير –حتى إن كان هذا التغيير للأفضل وبصورة كبيرة– فإن فترة التكيف هذه من الممكن أن تكون صعبة إلى حد ما. ولكن عزاءك في هذا الأمر هو أن هذه الصعوبة سوف تؤدي في النهاية إلى حالة أكثر صحة وتوازنا.
وهناك في واقع الأمر بعض القيود على استخدام المقاومة. ماذا لو لم تحدث أساليب المقاومة تغييرات يمكن التكيف معها في سلوك هذا الشخص تجاهك؟، إن بعض العلاقات التي تكون مبنية على استغلال أحد الطرفين للآخر تكون متأصلة وعميقة للغاية وفي منتهى الخطورة، بل وتكون أحيانا مؤذية بدرجة كبيرة يصعب معها تصحيحها. كذلك فالكثير من الشخصيات المخادعة المستغلة –وخصوصا تلك التي يعاني أصحابها من اضطرابات مفرطة في الشخصية، وبالذات الشخصيات النرجسية– لا ولن تتغير ببساطة!!.
إن محاولة استغلال الآخرين والسيطرة عليهم هي طريقة العمل المألوفة والثابتة لتلك الشخصيات. وعندما تعلن عن تحررك من السيطرة والاستغلال عن طريق المقاومة الفعالة للتسلط والضغوط، فربما تكون استجابة الطرف الآخر ببساطة هي أن يغير أنماطه ويواصل أساليبه. تذكر أن هؤلاء الأشخاص يسيطرون على الآخرين ويستغلونهم لأنهم يحققون النجاح على أكتافهم.
إنهاء العلاقة
بعد قليل من التفكير والتروي، ربما تكون أنت من يقرر أن أفضل وأسلم شيء تفعله هو أن تنفصل عن العلاقة كلية، فربما يكون الضرر العاطفي الذي لحق بك من جراء تعرضك للاستغلال والسيطرة في هذه العلاقة قد تجاوز المرحلة التي يمكن عندها إصلاحه، وسواء قمت بعملية إعادة المعايرة التي تكلمنا عنها من قبل أو لا، فربما لا تكون العلاقة قيمة أو مفيدة بالقدر الكافي الذي يبرر ما سوف تبذله من جهد في المقاومة.
في مثل هذه الحالات، يكون إنهاء العلاقة كلية هو الحل الناجع المفيد، إن قطع أي علاقة –حتى إن كانت علاقة ضارة– هي مسألة ربما تغلفها مشاعر الحزن وغير ذلك من المشاعر المؤلمة. ولكن، عندما تكون شروط هذه العلاقة تقتضي منك أن تظل على حالتك كضحية خاضعة لسيطرة واستغلال الطرف الآخر، فإن الألم الناتج عن إنهائها يتضاءل إلى حد كبير.
من الواضح أن العلاقة التي تتطلب منك أن تصل إلى حل وسط فيما يتعلق باحترامك لذاتك وحريتك وسلامتك هي علاقة لا تسير في خط متواز مع مصلحتك الخاصة. وأيا كانت الصلة المزعومة بينك وبين الطرف الآخر –سواء كان فردا من أفراد الأسرة أو صديقا أو رئيسا في العمل أو شـريكة الحياة– فإن اشتراكك المستمر في علاقة تسمح له باستغلالك وإخضاعك ليس أمرا جيدا ومستحباً بالنسبة لك.
ومن نتائج استمرار بعض تلك العلاقات القائمة على الاستغلال ما يكون أسوأ بكثير من التخلي عنها و خسرانها كلية. من المؤكد أن خسارة نفسك في ضباب ما تتعرض له من سيطرة واستغلال وفقدانك لهويتك الحقيقية أحياناً لمن النتائج الأليمة والقاسية على نفسك. إن بقاءك ضحية لما تتعرض له من سيطرة واستغلال، والتقليل من شأنك، وخسارة احترامك لذاتك وسلامتك، كل هذا يعد ثمنا باهظا للغاية تدفعه في مقابل التمسك بالأمن المحير والخادع الذي ربما توفره لك مثل هذه العلاقة المبنية على الاستغلال.
فإذا كنت مستعداً للتعرض للسيطرة والاستغلال فإن ذلك سوف يكلفك عدم احترامك لذاتك وضياع حقوقك وشعورك بأنك من المُستضعفين في الأرض، فاسأل نفسك أي علاقة تكون تلك؟!، وما الذي قد جنيته منها في المقام الأول؟
جهود بسيطة
إذا لم تكن العلاقة المستغلة –أو الطرف المستغل في العلاقة– على استعداد للتكيف مع التغييرات السليمة التي قمت بإجرائها على سلوكك، أو إذا كانت هذه العلاقة ببساطة لا تستحق أن تحافظ عليها، فالانسحاب منها أو إنهاؤها كما قلنا ربما يكون هو أفضل طريقة لوضع حد لدورك فيما تتعرض له من سيطرة واستغلال.
غير أن هناك من العلاقات ما تكون حدود سيطرتك المضادة فيها مسألة تفرضها الظروف. ففي حالات معينة، على سبيل المثال، كعلاقات القرابة الشديدة، حيث تكون خياراتك المتعلقة بحياتك المهنية على المدى الطويل على المحك، ربما لا يكون الانسحاب من العلاقة معقولا أو محتملا، على الأقل على المدى القريب!!.
عندما لا يكون التخلي عن العلاقة خيارا مطروحا، ويكون من غير المتوقع كذلك حدوث تغير هائل في شخصية الطرف الآخر، فربما تكون بحاجة إلى أن تركز مقاومتك على القيام ببعض الجهود الصغيرة من جانبك. في مثل هذه الظروف، سوف تتم استعادة استقلاليتك واحترامك لذاتك بصورة متزايدة تقاس بخطى صغيرة واحتجاجات هادئة أو حتى صامتة وانتصارات بسيطة في كل مرة. لأن الانسحاب من مثل أولئك العلاقات الخاصة ربما لا يكون ممكنا أو مرغوبا فيه إلى حد كبير، فإن قرارك بالتخلص التام من تلك العلاقة التي تتعرض فيها للاستغلال لربما يتعين عليك تأجيله لبعض الوقت. ولكن تذكر القول التالي جيدا: "من أساء إليك واستغلك فمستقبلاً لن يستطيع مسامحتك!!"
إحدى مريضاتي كانت في علاقة مستغلة ماكرة تتعرض فيها للسيطرة والاستغلال من جانب أمها، وقد فشلت كل ما قامت به من محاولات للكلام مع أمها في هذا الموضوع بالعقل والمنطق. كانت هذه المريضة أما شابة لثلاثة أطفال، ولكن والدتها لم تتوقف أبدا عن معاملتهــــــا -واستغلالها والسيطرة عليها- كطفلة رغم أن عمرها قد تجاوز الثلاثين عاما!!.
في هذه الحالة، لم يكن الانسحاب الكامل من العلاقة خيارا مطروحا. ولكن، من خلال تعلم وتطبيق أساليب أساسية للمقاومة، استطاعت هذه المريضة أن تعيد تعريف العلاقة وبالتالي كانت محاولات السيطرة عليها واستغلالها تفشل –رغم استمرارها وعدم توقفها– في إحداث الأثر المطلوب في معظم الأوقات؛ باستخدام أساليب المقاومة التي سوف أقوم بتعليمها لك بعد قليل، استطاعت هذه المريضة أن تجعل الكثير من محاولات السيطرة عليها واستغلالها تنحرف في طريق جعل هذه المحاولات تصبح عقيمة بشكل أساسي.
لقد ظلت الأم تحاول استغلال ابنتها والسيطرة عليها –وفي بعض الأحيان اختارت الابنة أن تخضع لها– ولكن كل محاولة أصبحت بالنسبة لهذه الأم أكثر صعوبة مما كان عليه الحال في السابق. وسرعان ما قل تكرار تلك المحاولات، رغم أنها لم تتوقف أبدا، ولكن هذه المريضة قد قامت بإعادة تعريف العلاقة بطريقة استطاعت أن تتكيف معها.
عندما أرادت أم سيدنا سعد بن أبي وقاص أن تبتزه عاطفيا
عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أنه نزلت في سعد رضي الله عنه وأرضاه آيات من القرآن، قال: حلفت أم سعد لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل، ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة، فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله هذه الآية: "ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون" [العنكبوت: 8]، وفي رواية أخرى أن سيدنا سعد قال لأمه بعد أن مكثت ثلاثة أيام من غير طعام وشراب -وكان من المعروف عنه بره وحبه الشديد لأمه– فقال لها: "و الله يا أمي لو أن لك مائة نفس خرجت أمامي نفسا نفسا، على أن أرجع عن ديني هذا مارجعت!!". وبعد هذا الموقف منه رضي الله عنه أكلت أمه وشربت.
ويتبع >>>>>>>>>>> مقاومة محاولات السيطرة(1)