الوسواس بمغزاه السلوكي يبدو حميدا إن لم يتجاوز حدوده ويصبح اضطرابا خبيثا، وهذا يتحقق بنسبة واحد بالمائة عند الناس، ويتباين بشدته وتأثيراته المعوقة للنشاطات اليومية المعتادة. والوسواس الحميد له دوره وقوته وديناميكيته الفاعلة في حياة الشعوب والأفراد والجماعات، ويساهم ببلوغ أعلى درجات الإتقان والتمام والكمال الإنجازي، فالوسواس الحميد مهم وضروري للمسؤولين الإداريين، ولمهن متنوعة أخرى كالطب والهندسة وغيرها من النشاطات البشرية، التي تتمخض عنها نتائج قد تكون خطيرة وقاسية.
والمجتمعات والشعوب تختلف في وسْوَساتها، فالمجتمع الصيني لديه وسوسة بالطعام والجنس والابتكار والإنتاج، والمجتمع الياباني تطغى عليه وسوسة النظام والوقت والنظافة والجمال، بل لديه وسوسة واضحة بالأشجار وزراعة الشاي الأخضر. والمجتمعات العربية تطغى عليها الوساوس الدينية بأنواعها حتى تصل إلى درجة الوسواس الخبيث، مما يتسبب بتداعيات وتفاعلات خطيرة ومدمرة للبلاد والعباد.
وما يحصل في الواقع الحزين ربما سببه تفاقم واستفحال الوسوسة الدينية وتخبيثها، والاستثمار فيها من قبل المتاجرين بالدين، الذين يؤكدون رغباتهم ومطامعهم ومشاريع أهوائهم، فيغذون الوساوس الخبيثة بما يفاقمها ويؤدي بالشخص إلى الوقوع ضحية لها، فيكون عبدا ذليلا وتابعا بليدا للمتاجرين بمصيره والسارقين لوجوده ومجهوده. فبدلا من الوسوسة الحميدة الصالحة للبناء والبلاء في العطاء والإبداع والنماء، يتسيّد الوسواس الخبيث الذي يعرقل ويعوق ويدمر ويهلك، ويصيب المجتمع بالخسران، ويعزل الإنسان عن الحياة، ويجعلها تبدو وكأنها أمرا لا يعنيه ولا يتصل به، مما ينجم عنه تقهقر وضعف وتبلد سلوكي وخسائر اقتصادية وحضارية وعمرانية مروعة.
ومن الواضح في مجتمعاتنا هيمنة الوسواس الديني الخبيث، والذي قد يفسر التناقضات الصارخة ما بين فحوى الدين وجوهره وما يتحقق في الواقع الحياتي للناس، فالدين من جوهره النظافة، وترى أصحابه ينطمرون بالنفايات، وكأن الأمر لا يعنيهم، ومن جوهر الدين النزاهة السلوك القويم، وترى المجتمع ينخره الفساد وينتشر فيه الظلم والإجحاف. ولا يمكن تحقيق السلوك الصالح والمجتمع القوي الراجح، إذا بقيَ الناس ضحايا للوسواس الديني الخبيث، الذي تحفزه وتديمه العمائم واللحى المستفيدة من ضحاياها المرهونة بوسواس الضياع والخراب والتبعية والهوان.
فهل من وسوسة في الزراعة والنظافة والصناعة والجمال والبناء والعمران، بدلا من وسوسات دينية خائبة تسعى لاستعباد العقل وتعطيله وعقر البشر في خنادق الغابرات؟!!
واقرأ أيضاً:
نكتب ولا نقرأ؟!! / تعددت الآراء والإعلام قائد!! / التنافس والترافس!! / أين قيمة الحياة؟ يا عرب!! / إيران بين العقيدة والواقع!!