أنت بطل هذه المرحلة .. حين تقف في الخطوط الأولى تواجه عدوا شرسا ليس فقط يهدد أهلك أو بلدك بل يهدد الوجود البشري كله .. وتتعرض للعدوى وربما تدفع حياتك ثمنا لأداء واجبك على الرغم من تضاؤل مرتبك وتراجع تقييمك الاجتماعي، فقد أخذ آخرون المجد والشهرة والمكانة والمال على أعمال ترفيهية أو استعراضية لا تستحق، بل بعضهم أخذ كل هذا ليفسد الشباب ويلوث الوعي، وهؤلاء جميعا يختبئون في بيوتهم أو قصورهم أو منتجعاتهم، وتقف أنت في مواجهة الوباء مقابل أجر بسيط، وبدل عدوى لا يكفي لشراء كمامة وقفاز تحمي بهما نفسك. لقد أدرك المجتمع أخيرا قيمتك، لا أقول المجتمع المحلي بل المجتمع الدولي كله، وحانت لحظة رد اعتبارك واستعادة مكانتك بل ومكانة العلم، تلك المكانة التي اهتزت في العالم كله لسنوات طويلة.
في زمن مضى كان الأطباء يفخرون بالبالطو الأبيض حتى قبل تخرجهم من كلية الطب وكانوا يحملونه على أيديهم وهم ذاهبون أو عائدون من الكلية كمصدر للفخر والكرامة، ثم أتى زمن أصبح الأطباء في المستشفيات لا يلبسون البالطو الأبيض إلا تحت إلحاح وضغط وربما عقوبات إدارة المستشفى. وكان الطبيب في الزمن الماضي إذا فتح الله عليه واشترى سيارة كان يفضل أن تكون بيضاء بلون البالطو الأبيض، وكان أول شيء يفعله بعد شرائها أن يشتري علامة الهلال الأحمر ليضعه على زجاجها الأمامي والخلفي، وكان لهذه العلامة تقديرا كبيرا، كما لصاحبها، لأنه يرعى صحة الناس وسلامتهم، والآن اختفت هذه العلامة إذ لم يعد لها قيمة أو مكانة. ولم يعد الطبيب مرحبا به إذا تقدم لخطبة فتاة، فهو كما قالت إحداهن "مجرد طبيب" يكافح طوال حياته ليحصل على شهادات تخصص، ولا يستطيع أن يوفر حياة كريمة لزوجته أو أولاده إلا في أرذل العمر.
في الماضي كان العمل في المستشفى الحكومي (الأميري) شرفا كبيرا لكل طبيب، والآن يهجره الأطباء بحثا عن لقمة عيش في مستشفى خاص، أو ربما يهجر بلده بالكامل بحثا عن راتب يسد احتياجاته الأساسية واحتياجات أسرته، ويعيش سنوات في الغربة يفقد فيها هويته وتقديره لذاته وربما انتماءه وكرامته.
وهذا ليس مبررا لك أيها الطبيب للتهاون في عملك، أو الانسحاب وقت الوباء وإيثار السلامة كما فعل الكثيرون الذين أخذوا المجد والشهرة والمكانة والمال، فأنت حين اخترت هذه المهنة كنت تعرف أنها ليست طريقا للشهرة أو المكانة أو المال (باستثناءات قليلة لبعض مشاهير الأطباء الذين يعدون على الأصابع)، وإنما طريقا للواجب تجاه المرضى والضعفاء والمعاقين، وهؤلاء ليس بأيديهم رفعك إلى المستويات الإجتماعية الأعلى، ربما يمنحونك دعوات طيبة، وقدرا من الحب والتقدير الحقيقي لحظة الشفاء والتعافي.
وكل ما ذكرناه من أحوال الأطباء ينطبق على التمريض، تلك المهنة العظيمة التي لم تجد تقديرا ماديا أو معنويا (بل ربما أصبحت وصمة في نظر البعض) فهجرها أصحابها، وأصبحت هناك أزمة شديدة في التمريض تكاد تؤدي إلى إغلاق بعض الأقسام في المستشفيات. إن من يقف الآن في الخطوط الأولى أمام الوباء هم شباب الأطباء ومعهم التمريض، وهؤلاء يواجهون خطر العدوى وخطر الموت في كل لحظة، وكثير منهم لا يستطيعون الذهاب لبيوتهم بعد انتهاء نوبتجياتهم خوفا من نقل العدوى لذويهم فيبحثون عن مأوى يقضون فيه أوقات راحتهم القليلة، هؤلاء يستحقون التقدير والرعاية الكريمة من كل المجتمعات الإنسانية التي نسيتهم وهمشتهم وأجبرت كثيرين منهم على الهجرة، أو حتى ترك المهنة بالكامل.
عزيزي الطبيب - الشاب على وجه الخصوص والواقف في الخطوط الأولى – اثبت وقاوم الوباء فهذا واجبك، وتلك لحظة ميلادك ووجودك، وإن مت فستكون إن شاء الله شهيدا عند الله، حتى ولو لم تأخذ أجر الشهادة عند الناس، وتذكر أنك تدفع البلاء عن أهلك وناسك، بل عن البشرية كلها، والعالم كله ينتظر لحظة انتصارك وانتصار العلماء القابعون في معاملهم لاكتشاف مصل أو لقاح أو علاج لهذا الفيروس وغيره، فيبدو أن الزمن القادم سيكون العدو فيه كائنات دقيقة تتوالد من بعضها وتتحور وتهاجم البشر بلا تفرقة.
إن محنة وباء كورونا أو أي وباء آخر ربما تعيد ترتيب أولويات وتقييمات وتقديرات كثيرة في المجتمع، وفي مقدمتها قيمة العلم وقيمة مهنة الطب فهما الملاذ للبشرية من مخاطر هائلة تهدد الوجود البشري حاليا ومستقبلا.
واقرأ أيضًا:
الحالة النفسية في مواجهة كورونا / خوفك وهلعك يزيد من خطورة إصابتك بالكورونا