الأرض في مسيرة انتقالية تواصلية تفاعلية ذات تداخلات متسارِعة، وامتزاجات فائقة، وتحوُّلات مُتوَثِّبة نحو صيرورة إنسانية واحدة ووطن واحد اسمه الأرض أو الإمبراطورية الأرضية أو الدولة الأرضية وغيرها من المسميات التي ستكتسبها حتمًا في مراحلها القادمة وهي تتطلع للتواصل مع جمهوريات كونية وإمبراطوريات فضائية صارت قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف وسائل الاتصال معها عبر شبكات كهرومغناطيسية ذات طاقات اندماجية عالية، حتى لَيَبدو الكون للأجيال القادمة على أنه فضاء يزدحم بالحضارات والإمبراطوريات الثاقبة الامتدادات.
ويبدو أن الأرض قد آوَت في دائرة قَصِيَّة فرضت عليها عزلة قاسية، وتسببت باستنقاع ما فيها، وحوَّلتها إلى تفاعلات سلبية ذات إرادات بقائِيَّة محكومة بقوة الدوران وقبضة الجاذبية.
لكن المخلوقات الأرضية وعبر مسيرتها الأزلية الأبدِيَّة قد تمكَّنت من الانتصار على واقعها الانعزالي، وابتدأت مشوارها التفاعلي الامتزاجي في وعائها الدوّار، وأخذت معالمه تتجسَّد في بدايات هذا القرن حتى تحوَّلت المجتمعات إلى خليط من جميع الأجناس والأعراق والثقافات، وهذا يعني أن الأرض قد بلغت سن الرشد، واكتسبت حكمة ذات قيمة حضارية تُنافِسُ بها حضارات كونية أخرى، ذلك أن المجتمعات الكونية واحدة في كينوناتها المطلقة لأنها امتلكت قدرات التواصل منذ نشأتها، أما المخلوقات الأرضية فإنها عاشت في عزلة شديدة على مدى المسيرة القاسية لمخلوقاتها، وما أن أزف هذا القرن حتى استيقظت على ثورات تكنولوجية فاعلت مخلوقاتها على شاشة صغيرة.
وهذا يعني أن الموجودات الأرضية صارت تجري نحو بعضها، وتسعى للاختلاط والذوبان في كياناتها لإنجاب أجيال ذات انتماءٍ أرضي أصيل، مما سيؤدي إلى فشل المشاريع الانعزالية والإمبراطورية الحالمة بإقامة حالات داستها سَنابِك القرون ومحقتها، فما عاد هناك فرصة لإمبراطوريات وفئويات ومذهبيات ودول حزبية ودينية وقومية وغيرها من التصورات والأوهام التي عبثت بمصير المخلوقات، وفتكت بالبشر والعمران، وأحرقت وأَتلَفَت وأبادت وارتكبت أفظع الجرائم بحق البشرية جمعاء.
هذه النزعات والتَّوجُّهات أصبحت في عداد الموتى، وفي مقبرة الماضي العتيد، فلن تنجح الجهود الهادفة لإقامة إمبراطورية أيًّا كان نوعها، ولن تُفلِح المشاريع الانعزالية والفئوية والتحزبية لأنها خارج العصر وضد تيار التاريخ الجاري بتوثُّبٍ عنيف.
وما يجري في العديد من المجتمعات المُتَمَحِّنة بتصوراتها الخائبة ورُؤَاها السالبة سببه عدم توافق إيقاع خطواتها مع خطوات التاريخ، وما يدور من حروب أهلية وصراعات طائفية ومذهبية ما هي إلَّا علامات لفظ الأنفاس الأخيرة للأفكار البائدة المتعارضة مع قوانين التأريخ الصارمة، فالأرض تدور وتريد أن تمزج ما على ظهرها وفيها، وقد نجحت وتأكدت إرادتها الدورانية، وكل وعاء يدور يمتزج ما فيه، وبعض ما فيه يأبى الامتزاج فيتعرض لقُوَّة دورانية طاردة تُلقِي به على الأطراف كما تُلقِي الأنهار ما فيها من الشوائب والفضلات على الجرف أو الضفاف، وهذا ما يحصل فعلًا وواقعًا في عصرنا الامتزاجي الفعّال.
أي أن هذه الصراعات عبارة عن فُقَّاعات تلفظ أنفاسها الأخيرة على جرف هارئ يحتشد بالوعيد، ولن يبقى إلا ما ينفع الناس، أما الزَّبَدُ فيذهب جفاءً، وتلك حقيقة شمّاء، والذي سيُبقِي على زَخَم نَزَقِه الإمبراطوري سيندحر وستُذهِب ريحَه أعاصير الامتزاج العولمي التُّسُونامِيَّة الطباع والتفاعلات!.
واقرأ أيضاً:
الأم تلم / الأمّة صارت أمّة / الطعام إمام!!