في العادة، نُسلم لك أيها الطبيب أجسادَنا، لكي تتفحصها، فتُشخِّص عللَها وتنفحنا بالعلاج الناجع، فهل لك أن تُسلِمنا هذه المرة عقلَك وروحَك، فتسمع منَّا ما عساه يشخِّص عللَك، وربما ظفرت ببعض العلاج الناجع أيضاً؟. في هذا النص الصغير، سأرص جملة من الملاحظات التراكمية حيالك أنت أيها الطبيب، من جهة تكوينك النفسي والعلمي والمجتمعي، ومن جهة أنماط تفكيرك ومشاعرك وسلوكك. هذه الملاحظات هي خليط، فبعضها ينتمي لذخائري التراكمية الخاصة، وبعضها الآخر استقيتها من جملة من الأصدقاء الذين راكموا ملاحظات جديرة، ولا أحسب أنه يهمك في شيء أن تميز بين ملاحظاتي الذاتية وملاحظات غيري، فهي جميعها تعكس نوعاً من رجع الصدى المجتمعي (=صورة ذهنية Perceptions) تجاهك أنت أيها الطبيب، على أنني هنا لا أمارس البتة التعميم في الملاحظات التي سأوردها، فالتعميم دوماً خطيئة، وتختلف نسب تورط الأطباء بها، وهو ما يحتاج إلى دراسات تشخيصية ومسحية لكي نصل إلى نتائج علمية دقيقة. عموماً، سأنثر الملاحظات دون ترتيب مُصطنع، لكي ننعتق من إسار الطرح الجاف، وذلك عبر عناوين فرعية:
غطرسة الطبيب
قبل أزيد من عشرين سنة، ذكر لي صديقٌ نابهٌ يعمل في القطاع الصحي هذه القصة، حيث يقول: كنتُ في حوار مع طبيب، وفي خضم الحديث التفتَ إليَّ الطبيبُ قائلاً: IQ (أي الذكاء) لديك مرتفع، وحينما أفصحتُ له بأنني قد درستُ نحو سنتين في كلية الطب، متحولاً بعدها إلى كلية الطب التطبيقية، فقال الطبيب لي: آه، إذن عرفتُ الآن سر ذكائك! ثمة قصص كثيرة سمعتُها بنفسي من قبل أصدقاء وزملاء وعابرين في مجالس شتى، وحدثتْ لي شخصياً قصصٌ عديدة أيضاً، وخلاصتها أنك أيها الطبيب “متكبر” أو قريب من التكبر. ثمة دراسات علمية عديدة خلصت إلى مثل هذه النتيجة (منها دراسة بعنوان: Arrogance among physicians [2]). ومن شيوع ذلك عنك أيها الطبيب، نجد أن البعض بات يصوغ نصائح للتعامل معك من قبيل: [2] Tips for Talking to Arrogant Doctors. هل تعرف لماذا تورطتَ بهذه السمة السلبية الخطيرة؟ ربما لم تفكر بمثل هذه المسألة من قبل، وقد يكون سبق لك أن فكرتَ أو دخلتَ في نقاش حولها.
على كل، يبدو لي أن المسألة هنا مركبة، حيث تدخل عوامل عديدة في بناء هضبة الغرور لديك، ولعل من أهمها، التغذية العائلية والمجتمعية حينما كنتَ طفلاً صغيراً في التعليم العام من قبيل أنك “ذكي” و”متفوق” و”متميز”، مع نيلك لبعض التكريم الرسمي والمجتمعي نظير تفوقك الدراسي، وهنا تجد بذرة الغرور فرصة لأن تنبتْ في وجدانك، ثم تتلقفُك كليةُ الطب، المترعة بمنْ سبقك من “المغرورين”، فيكرسون لديكم أنكم أفضل الطلاب في الجامعة!، وبأنكم الأذكى والأكثر تحصيلاً وجدية وما إلى ذلك من “النفخ”. وهنا تتخلق “هُوية مُختالة” لديك أيها الطبيب. في هذه السياقات، فاتك للأسف الحقيقة العلمية أن الذكاء متنوع (وفق نظرية “الذكاءات المتعددة” كما هو معلوم). لا تغضب أيها الطبيب المتواضع أو السويّ، فلستُ أخاطبك، وإنما أخاطب منْ بجوارك، نعم من بجوارك بالضبط! هل ينهض المنظّرون في المؤسسات التكوينية الطبية للتحقق من هذا الافتراض أو لنقل الزعم، ويقومون بتشخيصه وبلورة العلاج الملائم له؟
انعزالية الطبيب
التكوين العلمي والمهني يستلزم عملاً مكثفاً في الدراسة والتدريب والاختبارات والقراءة المستمرة، فضلاً عن فترات عمل هي الأخرى مكثفة. هذا جزء من طبيعة عمل الطبيب، ونحن نقدر كل هذا العناء الطويل ونقدره ونثمنه عالياً، مما يجعلنا نحبُ الطبيبَ ونحترمه، وأنت أيها الطبيب تعرف أننا نحبك ونحترمك، ولكن هذا لا يعني أننا لا نمارس نقداً تُجاهك. هذه المرة، النقد هو لصالحك أنت. يسوء الوضع كثيراً كثيراً، إذا كان الطبيب قد استحال إلى “مكنة توليد أموال”، حيث يعمل ساعات طويلة في مشفى واحد أو أكثر، سراً أو علانية، من أجل كسب أكبر قدر ممكن من الثروة، وقد يوهم البعض نفسه بأنه إنما يعمل ذلك من أجل “خدمة الإنسان” والسهر على صحته ورفاهيته و”جماله”. أدرك بأن ثمة من يعمل هذا لا من أجل المال بل من أجل تغطية النقص في المشافي، ولكن هؤلاء لا يمثلون نسبة كبيرة للأسف في الآونة الأخيرة، حيث تحولت نسبة معتبرة من الأطباء إلى “كائنات دولارية”، لدرجة أنني حينما أرى بعضهم، فإن “شرارة الدولار” تنقدح من أعينهم، تماماً مثل أفلام الكرتون التي كنَّا نشاهدها قديماً!
هذا العمل المكثف، يُوجد نوعاً من العزلة الرهيبة وفقدان التوازن في الحياة، وقد يؤدي بالطبيب إلى نوع أو آخر من الاغتراب، فلا يتفهم كينونتَه، ولا يتعرف على ذاته، ولا يُشبع احتياجاته النفسية أو الجسدية أو الاجتماعية أو الدينية أو الرياضية أو الترفيهية أو الجمالية، وقد لا يُشبع شيئاً منها بقدر كافٍ، وهنا تجد نفسَك أيها الطبيب، وقد استحلتَ إلى برغي حقير في مكنة كبيرة، تهدر ليل نهار من أجل ثروة، لا تستمتعُ بها أنتَ ولا منْ حولك، وبخاصة إذا كنتَ نزِقاً في تعاملك، بخيلاً في أموالك، أنانياً في نظرتك! ترى، كيف تجد سبيلاً إلى تعويض ما فاتك؟
جمود الطبيب
بعض العوامل السابقة الخاصة بتكوينك العلمي والمهني، فضلاً عن جوعك لتكديس الثروة، يقودك أيها الطبيب إلى مأساة أخرى، وهي الجمود على تخصصك، فلا تكاد تنخرط بفعالية في “الهم العام”، فهو لا يعنيك في قليل ولا كثير، وربما لا يمكنك مجرد الانخراط بسلاسة في أحاديث ثقافية ومجتمعية، فبضاعتك مزجاة في كثير من الموضوعات، وقراءاتك – إن وجدتْ- مفككة مشتتة مع تصنع بالمعرفة مشوب بتعالٍ بغيض أحياناً، وقد لا تكون قادراً على العزف على وتر اللغة والتغني بجمالها، فحديثك في الغالب تقليدي، ولغتك مكرورة وأساليبك مرتبكة وتراكيبك مملة. وقد لا تكتفي بهذا، فتجمع مع هذا سمة “الثقل” أيضاً، فلا يكاد يُضحكك شيءُ، ولا تحسن صناعة النكتة ولا تعليب الفكاهة، حينها يشعر منْ حولك بأنك “كائن رتيب” تبعث على السأم وتنتج أكواماً من الضجر. كيف يسعك أيها الطبيب حل هذه المشكلة؟
وصفة علاج!
لعلي أكتفي بهذه الملاحظات، حتى لا أكون ثقيلاً على أحبتي الأطباء وما أكثرهم، على أنني سأذكر في نهاية هذا النص الصغير، جملة من المقترحات العلاجية على الصعيدين الشخصي والمؤسسي:
الصعيد الشخصي: تحتاج أيها الطبيب أن تتقن فن التفكير الاستبصاري Insightful، إذ به تتجاوز مجرد التفكير في الموضوعات والأشخاص والمواقف في محيطك المهني والمجتمعي، لتفكر في طريقة تفكيرك بهذه الأشياء. نعم، إنه فن التفكير في طريقة التفكير، إذ ستتمكن حينها من التعرف على الثقوب والثغرات ونقاط الضعف في تفكيرك، وستكون قادراً من ثمَّ على استعادة التوازن إلى عقلك وجسدك وروحك، وأحسب أنك ستجد نكهة مختلفة لحياتك وذاتك.
الصعيد المؤسسي: من المهم أن تقوم كليات الطب بتشخيص مختلف الأبعاد التكوينية النفسية والمجتمعية بما في ذلك طرائق التفكير وأنماط الشخضية وسبل التنشئة الاجتماعية ونحوها، للتعرف الدقيق على العلل التي يعاني منها الطلاب في هذه الكليات، وليكون ذلك التشخيص مهاداً لبلورة علاجات مناسبة، وأحسب أن ذلك يتطلب السعي إلى:
أ- إعادة النظر في طرائق التدريس، من جهة التعبئة النفسية حيال مسائل تميز طلاب الطب ونحو ذلك، والتأكيد على فكرة الذكاءات المتعددة، وأنهم ليسوا بأذكى من غيرهم.
ب- إدماج منهج “التفكير الفعال” ضمن البرنامج الدراسي، وتدريبهم على طرائق متنوعة في التفكير، بحيث يمارسون أساليب التفكير التحليلي والمنطقي والفلسفي والنقدي والتركيبي (الإبداعي)، في توليفة تكاملية ملائمة، تستجيب للمواقف وتتناغم مع متطلباتها.
ج- إدماج منهج “فن الحياة” ضمن البرنامج الدراسي، بحيث يسهم في تنويرهم بطرائق الحياة الجادة من جهة والحياة المرحة من جهة أخرى مكملة للأولى، في معادلة متوازنة، تبعث على مزيد من “الإنتاج البهيج”، أو “البهجة المنتجة”.
هل تتقبل أيها الطبيب نتائج فحصنا لك؟ بغض النظر عن مدى موافقتك على هذه الملاحظات بعينها التي أوردناها، أنصحك بأن تقوم بتفحص ذاتك بقدر كافٍ من الشجاعة والمصداقية والشفافية، على أن يكون ذلك بمنهجية علمية وأداوت تشخصية دقيقة. أرجو ألا تغضب مني أيضاً، إن أخبرتك بأنك بحاجة إلى علماء بارزين في العلوم الاجتماعية والإنسانية لإجراء مثل هذا التشخيص الذاتي والتطوير المؤسسي المنشودين عبر دراسات عابرة للتخصصات. أرجو أن تسهم هذه المكاشفة الجرئية في تحريك المياه الراكدة، على أنني أجدد شكري وتقديري للأطباء الرائعين الذين يقدمون لنا الكثير والكثير بأقدار باذخة من الإنسانية والجمال والأناقة، ممن أعرف من الأصدقاء والزملاء، وممن لا أعرف، في كل بلد وتحت كل سماء.
واقرأ أيضًا:
الجواب في الوجود جوابان! / الإسلامُ بوصفه مُحرِّكاً للعلم ومُثوِّراً له!