البشرية مَرَّت بمراحل تَنَوَّعت فيها الحروب من القوة البشرية إلى النَّارِيَّة، فالجَوِّيَّة، ومن ثَمَّ النفسية بعد أن تطوَّرَت النظريات واكتشفنا خفايا النفوس وما يتحكم بالأدمغة من آليات ذات تأثيرات سلوكية واضحة وفادِحَة.
وتَجِدُنا اليوم _خصوصًا بعد أن تطًوَّرت وسائل التواصل والاتَّصال_ أمام حُرُوبٍ مُرَوِّعَة ذات نتائج تَدْمِيرِيَّة كبيرة وبخسائر قليلة، وخلاصتها التركيز على الإعلام الفاقد للضمير، وتعزيز الأكاذيب وتطويرها لِتَطْمِس الحقائق وتَدُوسَها. وبمُوجَبِهَا يتمُّ استهداف أيَّ نشاط والوصول إلى الهدف بسهولة غير مسبوقة، وذلك بتحويل البشر إلى دُمَى مُفَرَّغَة من الإرادة والضمير والرؤية التي انطلقت منها. ولهذا يتم القضاء على أي نشاط جماهيري مهما كان واسعًا، وتدمير أي تظاهرة وتَحجِيمِها، وذلك بتمزيق ما فيها من الطاقات والقدرات، وتَشتِيتِهَا وتحويلها إلى حالات مُتصارِعَة مع بعضها حتى يَعُمَّ اليأس ويَسُود الإفلاس وتتساقط رُمُوزها في قِيعان الخَيٍبَات والندم الشديد.
وهذه الحرب الشَّرِسَة المَدسُوسَة التي يَغفَلُها المُستهدَف هي السائدة في الدنيا، ولها مراكزها وهيئاتها التي تُخَطِّط لها وتتفاعل عبر وسائل الإعلام لِبَثّ إرادتها التدمِيرِيَّة القادرة على تحويل الهدف إلى قوة قاضية على ذاته وموضوعه، فالهدف يتَحَوَّل إلى آلِيَّة لتوليد القدرات المُعادِيَة له، فيَتَفَتَّت ويتصارع ما فيه باندفاعية مَحْمُومَة تُفضِي إلى وَيْلات وتَدَاعِيَات فَتَّاكة.
ومع هذا المستوى الغير مسبوق من الحروب المُعاصرَة بدأت حرب جديدة ذات تأثيرات كبيرة تُلقِي بِظِلَالها على الواقع وتُؤثر فيه بقوة وتَتَسَبَّب بخسائر هائلة، وهي الحروب الإلكترونية التي يمكن إدارتها عن بُعد وبِسِرِّيَّة تامَّة وتَسَتُّر واختفاء وفقًا لبَرْمَجات ذات قدرات تَعطِيلِيَّة لمُرتَكَزَات الحياة في أي بقعة أرضية مهما بَعُدَت أو قَرُبت.
فالحروب ما عادت تقليدية وكما مَضت عليها البشرية لقُرونٍ متواصلة. إنَّها حُروب خَفِيَّة وقَوِيَّة تَمْحَقُ الهدف بلا خسائر من الطرف الفاعل أو المُهاجِم، وتضع المُستهدَف في زاوية دِفَاعِيَّة قد تتَسَبَّب بإهلاكه واستنزاف طاقاته. ووِفقًا لهذه المفاهيم العُدوانِيَّة الفاعِلَة بين الأُمَم والشعوب فإنَّ المجتمعات المُتَمَسِّكَة بديناميكيات الحروب المُنقَرِضَة ستكون من أسهل الأهداف لأنَّ توظيف السلوك العدواني بآليات قديمة يترَتَّب عليه خسائر أَفظَع وانهيارات مُتَوَاصِلَة ومُتَرَاكِمَة في معارك الحرب التي تقودها قدرات خَفِيَّة وتترجمها كَيْنُونات هَمَجِيَّة تتَبَخْتَر في سَوْح مصيرها المَشؤُوم!
فهل من يقَظَة ونهضة وإبصار يا أُمة "اقرأ"؟!
واقرأ أيضاً:
المُفَكِّرُون يُنَظِّرُون! / العَبَثِيَّة طَبعُنا! / العرب ونظام الحكم المفقود