الغُثاث من الغَثِيثَة، وهي الفساد في العقل. الغثيث: لا خير فيه.
أُمَّتُنا غنية بتراثها، وربما من أغنى الأمم، ولا يزال تُرَاثُها مَحجُوبًا عن قصد أو غيره، وتَحفِلُ مخازن متاحف الدنيا بآلاف المَخطُوطات العربية الممنوعة من رؤية النور. وأبناء الأُمَّة الأَجْهَل بتراثها وما سَطَّرَهُ أَفْذَاذُها من إِبداعٍ أَثِيل. وبسبب الجهل الفاعل في العقول والنفوس تَوَّهَمت الأجيال المُعاصِرَة بأنَّها تأتي بجديد، وهناك الأفضل منه والمُتَقَدِّم عليه في تُراثِها المَطْمُور.
والسبب الأساسي في حَجْبِ تراث الأمة عن أجيالها هو تَرسِيخ مناهج التَّبَعِيَّة والدُّونِيَّة والشعور الدائم بالانكسارية والقُنُوطِيَّة والإمعان بالعَبَثِيَّة واللاجَدوى. فترى الأجيال تَنسَاقُ وراء الآخرين، وتَستَنْسِخُ منهم وكأنَّها ورقة بيضاء يَكتُب عليها مَن يشاء ما يشاء. وفي هذا اعتداءٌ سافر على جوهر حقيقة الأمة ومَقامِها المعرفي والإنساني، ودورها الحضاري الأصيل.
وتَجِدُنا نَركُض كالحَيَارَى خلف الآخرين، ونتحَوَّل إلى أَصْدَاء لإبداعاتهم وما تُنتِجُه أقلامهم التي تَفوَّق عليها أَجْدَادُنا فِيمَا أَبْدَعُوه، ولو تَمَكَّنا من إِظهار مَخطُوطَاتِهم المُغَيَّبَة وتحقيقها ونشرها، لَذُهِلْنا من الإبداع الفائِق المَكنُوز فيها.
إنَّهم كتبوا أنواع الشعر الذي نتَصَوَّرُه والذي لا نستطيع تَصَوُّره، وقَدَّمُوا للبشرية آيات من الإبداع التي لا َمثِيلَ لها. ومن يتأمَّل نَثْرَهم الجميل وأساليبهم الكتابية المَرْمُوقَة الرائعة يَقِفُ مُتَسَمِّرًا أمام أُمَّة بهذه القدرات الفكرية والمعرفية، وحاضرها بلا إبداعات أصيلة! فما أَبْهَى شعرهم ونثرهم ولُغَتَهم وأساليبهم وأَدَبَهُم وعِلْمَهُم وثقافتهم ومعارفهم المتنوعة التي تُثرِينَا وتُغنِيَنا وتُلهِمُنا مَسارَاتٍ جديدة، وتُرْفِدُنا بتَطَلُّعات ذات قيمة حضارية مُتَمَيِّزَة.
فالذين يُسَمُّون أنفسهم حَدَاثِيُّون، وما بعدهم، وما قبلهم، ربما يَجهَلُون تراث الأمة ولا يفقهون تاريخها، ويتحَرَّكُون كالأوراق اليابسة في مَهَبِّ الريح، ويَغفَلون أنَّ الأُمَّة ذات جذور حضارية ضارِبَة بالبعيد الأَزَلِي، وليس من اللَّائِق بأجيالها أن تَغُضَّ الطَّرْفَ عن دَوْحَاتِها وأَيَائِكِهَا الوَارِفَة وأثمارها الوَافِرَة، وتبحث في الأدغال عَمّا تُسَمِّيهِ إبداعًا!
فهل جاءت الأجيال النَّاكِرَة لِتُرَاثِ أُمَّتِها بِمَا يَدْعو للفخر والحياة؟!
واقرأ أيضاً:
سلة الغذاء وبنوك الطعام / مَنْ اكتشَفَنا؟ / المعرفة والتَّحرِيف / الأجيال المُتَرَاصِفَة!