تعسكر: تجمّع
تعسكر فيه: تجمّع فيه
العسكرة: التجميع، التحشيد، وتأتي بمعنى الشدّة أيضا.
ومصطلح العسكرة ليس جديدا وهو قديم في المجتمعات البشرية.
فالمخلوقات المفترسة تتعسكر للانقضاض على فرائسها، والجيوش تتعسكر للهجوم على هدفها، وكل خطوة جماعية نحو غاية ما هي عسكرة.
فالعسكرة تعني تحشيد القِوى والقدرات والطاقات للوصول إلى هدف معلوم.
وبالعسكرة تعمل مجتمعات الدنيا التي وصلت إلى مستويات متقدمة من الرقاء الحضاري المعاصر.
فالعسكرة مفهوم شامل يستوعب المنطلقات والتصورات والغايات، ولا يمكن حصره بالتعريف السائد في مجتمعاتنا، والمقرون بالجيش أو القوة العسكرية.
أول مواجهتي مع هذا المصطلح كان منذ عقود عندما كنت أدرس في مكتبة تابعة للجامعة، وتعرفت على طالب كوري جنوبي، وذات يوم اتفقنا أن نذهب سوية للتبضع من إحدى الأسواق المعروفة، وتبضعت بوقت قصير وأخذت ما أريد، لكنني وجدته يبحث في الرفوف وينقب، ولا يزال لم يضع إلا قليلا جدا في عربته، فسألته عماذا يبحث: فقال أريد شراء قلم!!
قلت: وهذه عشرات الأنواع من الأقلام أمامك!!
حدّجني بقوة وثقة وقال: أبحث عن قلم مصنوع في بلادي!!
فاستيقظت وتنبهت، فلا يوجد في السوق أي شيء من صُنع بلادي!!
ويبدو أنه قد لاحظ بعض الحزن والألم على وجهي، فأضاف: نحن مُعَسكرون منذ الطفولة على ذلك!!
قلت: ماذا تقصد؟
قال: أفكارنا ونفوسنا وعقولنا موجهة نحو هدف واحد هو التقدم والقوة والوطنية، فأنا أدرس هنا لأعود لبلادي وأنقل ما تعلمته وأجد له مكانا في مسيرة العسكرة الذاتية.
وبدى وكأنه مفكر أو من أعضاء حزب أو تنظيم وفي درجة متقدمة.
وبعد أن وجد ما أراد، راح يحدثني عن معنى العسكرة، وكيف يكون التعليم في بلاده، وآليات إعداد الأجيال لذات الهدف والغاية، وختم مبتسما إنها قوانين خلية النحل!! ثم أخذ يردد كلمات، تجميع، تحشيد، ضم، تفعيل، تثوير، تحرير!!
وفكرت بكلماته في حينها وكتبت عنها، وربما حُسِبَت نوع من التخريف أو الهذيان، وقد تذكرته وأنا أتابع مقابلة مع أستاذ متخصص حول العسكرة السلوكية، وكان عليه أن يوضّح ما يقصده بها لا أن يتركها تُدرَك على أنها تدريب الأطفال على السلاح والقتال وهم في سن الثالثة من العمر، كان عليه أن يقول إنها تحشيد وتجميع وتفعيل وضم الطاقات البشرية في المجتمع، وتوجيهها منذ الطفولة نحو هدف مشترك يحقق الإرادة الوطنية والحضارية والمعاصرة السلوكية بأنواعها.
وفي واقع الأمر المرير ما تحتاجه مجتمعاتنا هو "العسكرة"، بمعنى التحشيد والتجميع للوصول إلى هدف واضح منشود.
وهو مفهوم يرتكز عليه جوهر الديمقراطية، التي بدون التحشيد والضم والتفاعل الإيجابي لا يمكنها أن تقدم خيرا للمجتمع، وهذا واضح في تداعيات التشظي التي ألمت بالدول التي توهمت بها وحسبتها منهجَ وسلوكَ أرقص كما تشاء.
وبغياب العسكرة الوطنية والفكرية والثقافية والنفسية، فأي مجتمع يتمزق ويتفرق ما فيه، وتداهمه النوازل وتطغى عليه الويلات، فلا نصر من غير تحشيد وتفعيل، ولا إنجاز لبشر متناحر متنابز بالبهتان والضلال.
وبخصوص العسكرة النفسية والسلوكية، المطلوب منا العمل الجاد على نشر ثقافة علم النفس الإيجابي، اللازم لتأمين القدرات الكفيلة بتحشيد الطاقات والوصول بها إلى إنجاز نافع سليم.
فلا بد من برامج تفاعلية ذات قدرات إطلاقية للطاقات البشرية والاستثمار الحضاري المعاصر فيها، وأن تنطلق من رياض الأطفال وحتى أعلى المراحل الجامعية، وهذا ما تقوم به مجتمعات الدنيا المتقدمة علينا، لأنها تعلمت مهارات الاستثمار بالبشر، عقلا ونفسا وروحا وجهدا.
فهل من عسكرة نهضوية عربية على كافة المستويات؟!!
واقرأ أيضاً:
شاعر الجندول!! / الشعوب العجينة!!