في فجر الرابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط 2022؛ عاشت الرهينة (أوكرانيا) صدمة القصف الروسي على مناطق مختلفة في أنحاء البلاد؛ شمل أجزاء من كييف العاصمة؛ سبق هذا القصف اعترافًا روسيا بالمنطقتين الانفصاليتين لوهانسك ودونيتسك؛ اللتان تقعان في مدينة دونباس التاريخية الأوكرانية، ودخلت الدبابات الروسية إلى الدولتين -المعترف بهما فقط من روسيا- في 21 من شهر فبراير/ شباط 2022 بحجة حفظ السلام، الجدير بالذكر أن أوكرانيا كانت ولا تزال على مر التاريخ كالغصن الصريع الذي بالكاد ينهض ولعل روسيا كانت كثيرًا لأوكرانيا كالهَضّاض!!.
وبالرجوع إلى الورقة البحثية "أدوات تحليل النزاع"؛ سأستخدم هنا -بحول الله -أداة "شجرة النزاع" لمساعدتي على ربط الحرب الحالية بتاريخ العلاقات الروسية الأوكرانية؛ التي بدأت رسميًا في القرن التاسع الميلادي؛ حيث أقام الفايكينغ الدولة السلافية الأولى كييفان روس التي كانت عاصمتها كييف العريقة أو "العاصمة الأم"-كما يدعي الروس والتي أسست قبل موسكو بكثير-، وازدهر السلاف كثيرًا حتى أنهى المغول دولة كييفان روس في القرن الثالث عشر الميلادي، وأقاموا دولة "القبيلة الذهبية"، تلاها احتلال بولندا، ثم احتلال الدولة البولندية الليتوانية المشتركة لمعظم المناطق الغربية والشمالية الأوكرانية الحالية، بعد ذلك احتل خانات القرم معظم المناطق الجنوبية الأوكرانية الحالية في عام 1441، ثم بدأ تأسيس أوكرانيا الحديثة في منتصف القرن السابع عشر؛ عندما أقام القوازق دولة "هتمانات" في غرب أوكرانيا الحالية بعد انتفاضهم ضد الحكم البولندي.
عادت الأواصر مع روسيا من جديد باتفاقية "بيرياسلافل" حيث أصبحت منطقة القوازق تحت الحكم الروسي عام 1654 بعد معاهدة "السلام الدائم" الروسية البولندية، وفي عام 1686 تم تقسيم دولة القوازق؛ وكانت كييف مع مساحات كبيرة أوكرانية من نصيب روسيا. انضمت روسيا إلى التحالف الأوروبي المناوئ للدولة العثمانية -مع بولندا وليتوانيا ورومانيا وإمارة البندقية-، ومن بعدها قامت حملة عسكرية روسية على شبه جزيرة القرم واشتعلت الحرب بين روسيا وتركيا بين 1686 - 1700، وانتهت بمعاهدة القسطنطينية بين روسيا والعثمانيين؛ فتنازلت بموجب المعاهدة تركيا عن مساحات كبيرة من أراضي أوكرانيا التي كانت تسيطر عليها مقابل منع روسيا للقوازق من مهاجمة الدولة العثمانية، وأيضًا مقابل منع تركيا للقرم من شن هجمات على روسيا، بعد ذلك انتفض القوازق ضد سيطرة روسيا على شرق اوكرانيا في معارك "حرب الشمال العظيمة" في عام 1709، ولكن روسيا عام 1764 ألغت دولة القوازق وقامت بتأسيس إقليم "روسيا الصغرى" لتضم بعدها منطقة الشرق الأوكراني بالكامل عام 1781، ومن ثم السيطرة الكاملة على الأراضي الأوكرانية؛ حيث استولت روسيا على معظم مناطق غرب أوكرانيا بين 1772 و1795، ثم على المناطق الجنوبية في عام 1783 بعد انضمام شبه جزيرة القرم لروسيا؛ -فما أشبه الليلة بالبارحة!.
شهدت أوكرانيا ازدهارًا وطنيًا في الأدب والثقافة وتحولت غاليسيا في الجنوب الغربي الأوكراني إلى مركز سياسي وفكري للأوكرانيين وذلك بعد حظر اللغة الأوكرانية على الأراضي الروسية، قامت الثورة البلشفية وأنهت عام 1917 الحكم القيصري في روسيا؛ فانهارت الإمبراطورية الروسية، وأقيم مجلس وطني في أوكرانيا وأعلنت بعدها بعام أوكرانيا استقلالها؛ لكنها لم تفرح طويلًا؛ فعاشت حرب أهلية شجة! ... واشتاقت روسيا كثيرًا لأوكرانيا؛ حتى دخلتها مرة أخرى في عام 1921؛ فاستولى الجيش الأحمر السوفيتي على ثلثي الأراضي الأوكرانية، وأقيمت الجمهورية الأوكرانية السوفيتية الاشتراكية واستولت بولندا على الثلث الغربي الأخير لأوكرانيا، وفي 1922 تأسس الاتحاد السوفيتي وضم روسيا وأوكرانيا مع ثلاث عشرة جمهورية أخرى، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 كانت العلاقات ودية بين البلدين؛ حتى ثورة الكرامة الأوكرانية عام 2014 التى أطاحت بالرئيس يانوكوفيتش الموالي لروسيا، ومن بعدها عادت روسيا لتمارس عادتها التاريخية المفضلة بدخولها إلى أوكرانيا في مارس عام 2014؛ بحجة حماية مواطنيها ذوي القومية الروسية، واندلعت مواجهات عسكرية في القرم خلالها استولى مسلحون مجهولون على مبني برلمان القرم، وعين هذا البرلمان حكومة جديدة تطالب بتوحيد القرم مع روسيا، وأقامت تلك الحكومة استفتاء شعبيًا للتصويت على انضمام القرم لروسيا، وصوت الناخبون بأغلبية كبيرة للانضمام لروسيا؛ حتى أعلنت القرم استقلالها في 17 مارس 2014، وفي 18 مارس 2014 انضمت القرم وسيفاستوبول إلى روسيا -بعد المعاهدة التي عقدت في موسكو-، ثم في 19 مارس 2014 انسحبت جميع القوات المسلحة الأوكرانية من شبه جزيرة القرم.
وانقلبت العلاقة الروسية الأوكرانية من ودية إلى عدائية؛ حيث حدثت نزاعات عسكرية بين المتمردين المدعومين من الجيش الروسي والقوات الأوكرانية في أبريل 2014، وفشلت كل اتفاقيات وقف إطلاق النار وفُقدت الكثير من الأرواح، وفي عام 2018 أقر البرلمان الأوكراني قانونًا ينص على أن مناطق جمهوريتي لوهانسك و دونيتسك "محتلة مؤقتًا من قبل روسيا" وأقر أيضًا أن روسيا دولة "معتدية"؛ الجدير بالذكر أن العلاقات الروسية الأوكرانية عُلقت إلى أن انعدمت تمامًا في أواخر عام 2017، هذا مع استمرار الصراع من وقت لآخر في دونباس -فالنزاع الروسي الأوكراني يمكن أن ينتهي فقط في حال أن روسيا ليست روسيا وأوكرانيا ليست أوكرانيا !!!!- مخلفا عشرات القتلى، وفي أواخر عام 2021 زاد القلق من التعزيزات الروسية العسكرية على المناطق الحدودية مع أوكرانيا، والآن في يوليو 2022؛ أستطيع القول بأن تلك المخاوف كانت في محلها!.
ومن هذا أرى -ظاهرًا-أن دوافع انضمام أوكرانيا الجريحة للناتو كانت منطقية جدًا أو بالأحرى سارت الأمور كما هو مخطط لها؛ فاستنادًا إلى الورقة البحثية العراقية "الأهمية الجيوسياسية لموقع أوكرانيا الجغرافي في الصراع الروسي الأمريكي وأثره على أنابيب النفط والغاز"؛ نرى أن أوكرانيا بموقعها الجيوسياسي المتميز بين روسيا من الغرب ودول الاتحاد الأوروبي من الشرق يضعها تحت ضغط كبير في الصراعات الروسية الدولية مع أوروبا ؛حيث تسعى روسيا إلى السيطرة على أوكرانيا التي تعد محتكر الترانزيت للغاز الروسي، كما أن روسيا تستخدم سلاح النفط والغاز للضغط على الدول الأوروبية والتدخل في شؤون تلك الدول، ومن جهة أخرى؛ تسعى أمريكا إلى طرد روسيا من الساحة الدولية عن طريق إحاطة روسيا من البوابة الأوكرانية، وأيضًا كسر شوكة روسيا بإيجاد بدائل للغاز الروسي.
فهل ما نراه الآن نجاح للخطة الأمريكية؟! وهل ستتغير الخريطة الجيوسياسية الدولية قريبًا ؟!
ويتبع>>>>>: الرهينة- حرب روسيا وأوكرانيا3
واقرأ أيضاً:
باكية على حائط الطب! آه لو تدرين / بعد سنة في كلية الطب ....