تمويت العقل العربي هدف عملت بموجبه كافة الأنظمة السياسية، بأحزابها وفئاتها وتكتلاتها منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم، وقد بلغ ذروته عندما اجتاحت الواقع الأحزاب المتاجرة بالدين، وأرادت أن تقيم رؤيتها التي تؤمن بأنها اليقين وغيرها الأفك المبين.
ويبدو أن الأمر مقصود وحقق المنشود، بإزاحته للعقل من الوجود، والدفع به إلى التغرب والهجرة والعطاء في بلادٍ تجيد احتضان العقول، ورعايتها وتوظيفها لبناء قوتها وتقدمها.
والدليل على أن التمويت العقلي هدف ما تغير بل تطور، أن أساليب التعليم تركّدت والتزمت بثوابت تدميرية، يمكن تلخيصها بالتلقين والحفظ والتذكر، ومنع العقل من التفكير والسؤال والبحث والنظر والاستنتاج العلمي.
ويبدو أن للتجارة الدينية دورها في تعزيز آليات التلقين، وترسيخ المفاهيم الجامدة في العقول، وإيهامها بأن الجواب جاهز ولا تحتاج للتفكير، وأوجدت العديد من أساليب منع التفكير وتعطيل أي رأي أو وجهة نظر، وغلفت الرؤوس بالمحرمات والممنوعات، وأحلت ما يروّج لبضاعتها، ويديم نفوذها ومقامها، وتسلطها على الناس.
فمناهج التعليم تلقينية، وإياك أن تفكر وتتدبر وتتأمل، وإن أردت أن تقول شيئا جديدا فعليك بالشعر والأدب، للتعبير عن استسلامك وإذعانك، وتلذذك بالتشكي والتظلم والرثاء الذاتي والموضوعي، فاذرف الدموع وتغنى بالقصائد العصماء والأدب الجميل، العاجز عن السؤال والتغيير.
وهذه المناهج تدفعك للحفظ والتعبير عن ببغاوية هامدة نكراء، يتحول فيها العقل إلى ورقة يُكتب عليها وحسب، ويُنظر للعقل على أنه لوحة جامدة جاهزة للخط عليها، وصار الذكاء أن تحفظ، والمعرفة أن تكنز في رأسك ما يُملى عليك، وحذاري أن تفكر بما وضع في رأسك، لأنك ستكون من الكافرين، وستقترف إثما وستأتي بحرام مشين، فالمطلوب السمع والطاعة، وما يقوله فلان وعلان من الأدعياء هو العلم والمعرفة والدين.
أما المعرفة الحقيقية وفقا لهذه الثلاثية فهي تذكر ما تلقنت وحفظت، فأنت متميز ورائع، لأنك تتذكر المحشو في رأسك من الأباطيل والأوهام والخرافات، وتستحضرها عن ظهر قلب.
هكذا هو التعليم وغيره ليس بتعليم، ووفقا لمناهجه صار المجتمع تلقينيا عاطل العقل، ويخشى إجهاد الفكر ويرعبه السؤال، مما أوجب عليه أن يتبع ويقبع ويقول لبيك يا أنت لبيك، فعقلي ملك بين يديك، وأنا بضاعتك التي تغنيك، فافنيني لكي تغنى وتتقوى وتسود.
فهل من مراجعة معاصرة لمناهج التعليم، وجرأة على تحفيز العقل وانتشاله من رقدة العدم؟!!
اقرأ أيضاً:
هل تنتحر الحضارات؟!! / مسرحيات وتضحيات!!