"إياكَ والفَرْط في الأمر"
أفرَط في الأمر أي جاوز فيه الحد والاسم منه الفَرْط. وفرَط عليه بالقول أي أسرف بالكلام. و"إنا نخاف أن يفرُط علينا" أي يطغى، والفُرط تعني الظلم والاعتداء. وفي الحديث "لا يُرى الجاهل إلا مُفرِطاً أو مُفرّطا" الأولى تعني المسرف في العمل والثانية المقصر فيه. والإفراط باختصار تعني الإكثار والإسراف وتجاوز القدر.
وما زاد عن حده انقلب ضده.
ونحن قوم مفرطون، نتميز في تجاوز الحد في كل شيء.
فنفرط في الحب والكرم والضيافة والغيرة والحمية والكراهية والغضب وسفك الدماء والانتقام واستخدام القوة بغير مواضعها، كما نفرط في ديننا ونميل في أغلب سلوكنا إلى حيث لا يفعل الآخرون.
ومن حقنا أن نتساءل عن هذا الإفراط، ولماذا تطفح أوانينا، ولماذا لا نضع في الوعاء ما يمكنه أن يستوعبه وحسب.
قيل أن أحدهم زار كاهنا هنديا ليتعلم منه بعض الدروس فقدم له شايا، ووضع الكاهن قدحا صغيرا أمام ضيفه ومضى يصب الشاي من القوري، حتى طفح القدح وفاض الشاي في الماعون والصينية وانسكب على الأرض، والضيف في دهشة وحيرة وهو ينادي لقد طفح القدح، لقد طفح القدح، والكاهن مصر على مواصلة صب الشاي في القدح الصغير. وحسب الضيف أنه أمام رجل مألوس فارتعش وارتعب وتملكه الخوف والقلق.
وعندما انتهى الكاهن من إفراغ ما في القوري قال لضيفه، هذا أول درس في الحكمة أريدك أن تتعلمه. واحتار الضيف فهو لا يعرف الجواب والكاهن يعيد عليه، هل فهمت الدرس؟ وظل الضيف واجما مذهولا لا ينطق بشيء، وكل ما فيه يغريه بالهروب، فقال الكاهن أخرج من هنا، فأنت لست أهلا لفهم الدروس.
خرج الضيف من خيمة الكاهن مذعورا، وقد حسبه مجنونا، ولا يمكنه أن يفهم لغة المجانين، لكن الكاهن حسبه مخلوقا محشوا بالأوبئة النفسية السيئة التي تجلب الشرور عليه وعلى الذين من حوله من الناس، وأعطاه وثيقة فشل واندحار.
وأصبح غاضبا يريد الانتقام من الكاهن الذي طرده!
وخلاصة ما كان يريد قوله الكاهن هو أن عليك أن لا تفرط بالمقدار، وأن تعطي بقدر، وتتكلم بقدر، وتستجيب بقدر، وتحكم بأصول فإذا تمكنت من الانضباط ومعرفة حدود ما حولك وما فيك وعندك تكون صائبا وناجحا وحكيما.
فهو قد أفرط في صب الشاي في القدح الصغير، ليقول لضيفه هذه نتائج الإفراط، انقلاب ضد الغايات وإشاعة للمشاعر السلبية التي تؤذيك وتدفعك إلى بذل جهود كبيرة قد لا تكون مفيدة أو نافعة وتساهم في بناء تصورات خاطئة تؤدي إلى تنمية الضرر وتثمير الأخطار.
وأراد أن يقول له بوضوح بأنك لا تصلح لأية مسؤولية إن لم تعرف أن لكل شيء مقدار، وأن عليك أن تعطي بقدر حجم الوعاء الذي أنت بصدده.
لا تفرط أيها الضيف...
لأن الإفراط يعني انقلاب الرغبات وسيادة النفس الأمارة بالسوء، وإعلان التوحش والتعبير عن دستور الغاب، فعندما نفرط نهبط إلى أدنى درجات التفاعل مع التراب, وتظهر الدوافع السوداء المختبئة في أعماقك وتستشري فتكون عنصرا ضار في الحياة.
وهكذا فأن الإفراط من أخطر أنواع السلوك حيث تترتب عليه نتائج وخيمة وظالمة. خذ على سبيل المثال الإفراط في حب المال وجمعه وتنامي الشراهة الدونية نحوه، حتى ترى الشخص قد صار ماكينة صماء لا تفهم إلا كيف تزيد من المال والممتلكات والأرصدة، وفي ذلك تبليد للمشاعر والأحاسيس وإدمان على الظلم والفساد، وهذا ما يتحقق في الدول الفاسدة، لأن كل مسؤول قد أصابه داء الإفراط والنهم الشديد الذي سيقتله ويخزيه، لأنه سيغص ذات يوم بعظمة مساوئه ويموت.
ويبدو أن أهم أسباب الويلات هو الإفراط في السلوك أيا كان نوعه ومذهبه.
وقد حذرت منه الكتب السماوية والحكماء ولكن البشر يبقى ضحية وعبدا للإفراط وموطنا له ويميل إليه ميلا شديدا برغم القوانين التي تحاول ضبطه، مما يشير إلى أن فيه نوازع وحشية يصعب لجمها والسيطرة على جماحها، لكن الوعي الجماعي لظاهرة الإفراط في السلوك البشري، وتوفير المنابر الحرة لرصده، يحقق القدرة على محاصرته وترويضه وتهذيبه والأخذ به إلى ناصية المعاصرة والشعور بالآخرين، وحقوقهم في التمتع بنعمة الحياة وما فيها وأن تتقلص مساحة الأنانية المفرطة المضرة بالجميع.
"...وهم لا يفرطون" الأنعام 61
اقرأ أيضاً:
مدوّنات الحياطين!! / خمر القوة والفساد!!