حين أعلنت الدكتورة أمينة ودود أنها ستخطب في المسلمين، وتعتلي المنبر، لتكون أول امرأة في تاريخ الإسلام تؤم الرجل خطيبة وإمامة، انبرت أقلام الفقهاء والمفكرين، وثار الجدل الكبير، بين مبيح ورافض، والكل حاول أن يتلمس له من الأدلة الشرعية ومن أقوال الفقهاء ما يسند رأيه.
وأعتبر هذا من إفرازات العولمة، فلولا ثورة الاتصالات ما سمع أحد عن أمينة ولا عن فعلها، فنحن أصبحنا في عالم إذا قام شخص بعمل فردي سلطت عليه الأضواء، وانشغل العالم كله بهذه القضية، وقد يكون من الخير أحيانا السكوت عن الشيء، وأن نفرق بين فقه الحكم، وبين فقه المآل، وألا ننخدع أو نقع في مصايد يغفل عنها كثير من مشايخنا وعلمائنا ومفكرينا، أو على الأقل أن نتكلم بوعي وحكمة فاهمين ما يراد بالفعل الصغير، فيكون الخطاب على مستوى المقصود من الفعل، لا على مستوى الفعل ذاته.
وكأننا أصبحنا في عالم المكلمة الفقهية، وانجرار الفقهاء وراء كل حدث، مهما كان صغيرا أو كبيرا، والانخراط في فقه الخلاف، والحكم على الشيء قبل وقوعه، والحكم على الشيء بعد وقوعه، وخروج الآراء دون معرفة الدافع وراء الحدث، وكأنها إحياء فتنة مقصودة على شكل مصيدة، لنسمع من يقول بما يشبه حبس المرأة، أو الدعوة إلى حرية الانحلال، الذي هو مرفوض من الرجل قبل المرأة بدعوى المساواة، وفي الحقيقة ليست هذه مساواة، بل انجرار وراء كل ناعق، ليقع المسلمون وحدهم – دون غيرهم – في هذا الهراء؛
فما سمعنا أن النصارى نصبوا امرأة لتكون مكان القسيس الذي يتقدم الناس في الصلوات، أو أن امرأة تقوم مقام حاخام من اليهود، ولكنا نسمع كل يوم أن الإسلام هو ظالم المرأة، وأنه هو الذي يمنعها، وكأن هناك أزمة بين المرأة والإسلام، وكأنه لا إشكاليات للمرأة في النصرانية واليهودية، وما نريده من علمائنا أن يفهموا، وأن يعوا أن الأمر ليس مجرد فتوى يستند فيها إلى الحكم الشرعي فقط، بل هناك دوافع مقصودة ومحاولة لتغيير الخريطة الدينية في العالم، واستخدام العولمة كأسلوب للإحداث في الشرق من الغرب، فإن المسلمين لن يسمحوا بهذه الفتنة في الشرق، فلتكن في الغرب أولا، ليجد مشعلو الفتنة صداها في بلاد الشرق.
وحسب فهمي أن الحملة الأمريكية على الإسلام كدين وعقيدة لن تنتهي، فهي تأخذ أشكالا متنوعة متعددة، ومادامت أمريكا تشعل الفتنة، فهي الكاسب الوحيد، ونحن دائما الخاسرين، ونظل في مقام الدفاع عن أن الإسلام لم يهن المرأة وأنه أعطاها كل حقوقها، وأنه ساواها بالرجل، والاختلاف بين الرجل والمرأة إنما هو في صالحها مراعاة لها، حتى لا يكلفها ما تطيق؛
ولكن هذه "سيمفونية عزف أمريكية غربية" ربما لن تنتهي حتى يفهم المسلمون ما يحاك لهم، فنحن دائما تابعون، وما يصدر منا ما هو إلا رد فعل، حتى يفهم علماؤنا ما وراء السطور، وأن يطبقوا في حياتهم ومنهجهم فقه المآل، وعدم الوقوف عند المدرسة الظاهرية والمنهج الحرفي، وخاصة أن هناك ألف داع لصرف الذهن عن مفهوم الأمر الظاهري، ولكن من الفقهاء من لا يفقهون.
والفقهاء يقولون: إن فهم النص يجب أن يسانده معرفة الملابسات المحيطة به، والدوافع لسوقه، فقيام هذا الحدث في أمريكا –على وجه التحديد-، ومن الدكتورة أمينة ودود، بوجه خاص، ومعرفة آرائها كإباحة زواج المثلية، ورفض بعض نصوص القرآن، وغيرها من الأمور التي لا يختلف الفقهاء في عدم جوازها، ومساندة بعض الجهات التي تسمي نفسها "إسلامية تقدمية"، وهي منظمتا "صحوة المسلم" و"اتحاد المسلمين التقدميين" واللتان تقفان وراء آمنة فتضمان- حسب بيان مجمع فقهاء مسلمي أمريكا الشمالية- العديد من الشخصيات مثل زياد عسلي الذي أنكر علانية في أحد مؤتمرات الجمعيات الأهلية بالأمم المتحدة حق اللاجئين الفلسطينيين أو المبعدين في العودة إلى أراضيهم، و"كمال نواش" المرتد الذي يروج على موقعه على الإنترنت أن الشريعة منافية للقرآن وأنها غير صالحة لهذا العصر.
*وبالنسبة لاتحاد المسلمين التقدميين فإنه يقول بأن "حمل القاصرات نتيجة علاقات غير شرعية ليس بمشكلة" وهو ما يروج له الأدب الذي ينشر على مواقع هاتين المنظمتين على الإنترنت، بل إن بعض القصص التي تنشرها عضوات بالجماعتين تسخر من بعض الآيات القرآنية.
ففهم هذه الدعوة النابعة من أناس يرون أنهم تقدميون، وأنهم البديل الإسلامي الذي يجب أن يسود في الغرب وأمريكا، وهو ما تسعى إليه الولايات المتحدة من تقديم الإسلامي الأمريكي، وهو –حسب فهمي- ما يوسع فجوة الاختلاف بين الشرق والغرب لسنوات عدة، لأنه يغفل معرفة الإسلام عن طريق علماء الإسلام المشهور عنهم فهمهم الصحيح له، ومن لهم احتكاك مباشر بالطبيعة الغربية ليكون أقرب إلى المرجعية الإسلامية في الغرب.
ومن أهم ما لا يلتفت إليه هؤلاء التقدميون هو توسيع الفجوة بين الرجال والنساء، فإن كانت هناك فتاوى تنادي بالفصل التام بين الرجال والنساء، درءا للفتنة، وأخذا بقاعدة "سد الذرائع"، وأن الاختلاط في ذاته محرم، فإن الدعاوى القائمة الآن ترسخ هذا المفهوم، وإن كان الرجال هم الذين كانوا يرسخون ثقافة رفض الاختلاط، فإن الدعوة النسائية هي التي تدعو إلى هذا الفصل من حيث لا يشعرون، وكأنهم داروا في فلك من رفضوا رأيهم، وإن ألبس ثياب المساواة، وهذا ما يخالف طبيعة الإسلام الذي لم تعرف هذا الفصل الكامل، بل رأى الاختلاط المنضبط بتقوى الله هو ما تقوم عليه الحياة، وأن الانسلاخ من الطبيعة الاجتماعية للإنسان، ونسيان قيام الناس في الأصل على الذكر والأنثى هو مخالفة صريحة لطبيعة المجتمع البشري قبل أن يكون تصورا غير صحيح في فهم الإنسان الذي يوافق فطرة الإنسان، وأن كل دعوى مخالفة للفطرة ستبوء بالفشل، وإن علا ضجيجها، مع التأكيد على الفطرة الاجتماعية القائمة على مراقبة الله.
ويبدو أن هذه الحادثة ليست الوحيدة ولن تكون، ففي أعقابها، قامت جماعة هولندية بافتتاح أول مسجد خاص بالنساء، وقامت " نوال السعداوي" بافتتاحه، بوصفها رمزا للحرية النسائية، ثم أعلنت بعدها "تقية جاكسون" وهي فتاة في الـ(25) من عمرها، أنها ستؤم النساء والرجال في صلاة الجمعة أيضا، ونحن نقول: إن الإسلام لم يعرف هذا التمييز الجنسي بين الرجال والنساء، فقد كان الرجال والنساء يصلون في مسجد واحد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يصلي الإمام والرجال خلفه، ثم الصبيان، ثم النساء دون حائل، وكانت المرأة تتقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتسأله في محضر من الرجال ولم ينكر عليها، بل يثني على عقلها وحكمتها، وتقلب المرأة بـ" خطيبة النساء" وهي أسماء بنت يزيد الأنصارية؛
وكان الرجال يجيئون إلى نساء النبي يسألونهن عن الأحكام الشرعية وعن الهدي النبوي في شئون الدين والحياة، ولعل تغليب التقاليد باسم الدين هي التي أحدثت مثل هذا، وما أقصد بهذا الكلام شيئا معينا، ولكنه فهم لصورة الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام كما جاءت في السنة الصحيحة، ولكن لا بأس أن يتراضى الناس وضعا ليس فيه محظور شرعي، على ألا يكون ذلك هو الدين هو لا غيره.
ونحن في حاجة إلى مراجعة ما يعيشه الناس من كونهم ارتضوا نظاما معينا، وبين ما هو واجب شرعا على الناس التزامه، وعدم الوقوف عند بيان الحكم الشرعي وحده، لأن هذا مكانه دروس العلم، أما الفتوى، فهي أكبر شأنا، فقد يفتى بخلاف القواعد، ولا يعرف هذا إلا الفقيه الحاذق، وهذا ما ندعو إليه علماءنا، وأن الدوران في فلك الأقوال الفقهية وحدها لم يكن شأن علمائنا الأقدمين، ففهم الواقع أمر لابد منه في عالم الاجتهاد، وخاصة في الزمن الأمريكي، ولعل القارئ كان يتمنى معرفة الحكم الشرعي في المسالة، وهذا ما لم أرتضه هنا، بل له مجال آخر.
اقرأ أيضاً على مجانين:
النكاح في الدبر .. الشجرة المحرمة/ على باب الله السبت 19 / 3 - المتخبطون -