وصلتني هذه الرسالة من أرملة طلبت مني نشرها على أوسع نطاق أستطيعه لعلها تصل إلى من يهمه الأمر (فعلا):
"ما أعجب هذا المجتمع يا سيدي، إنه يعطي تصاريح مختلفة: تصريحا بالذبح وتصريحا بالدفن.... ولكنه يحرم الحلال ويرفض أن يعطي تصريحا بالزواج لمن هنّ في حاجة إليه!!.... ولقد كان الصحابة الأوائل يعرضون بناتهن، خاصة إن توفي عنهن الزوج، بل فعل ذلك الرسول الكريم، وفعلها عمر بن الخطاب، حين قال عليه السلام: "يتزوج حفصة من هو خير من عثمان.
ويتزوج عثمان من هو خير من حفصة"، وذلك حين عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان ليتزوجها، فسكت عثمان رضي الله عنه لعلمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، وأنه كان يرغب في زواجه من بنته رقية!!، وحدث ذلك كله بروح رياضية نفتقر إليها نحن حاليا رغم وصولنا إلى القمر وما بعده!!... فلا قال أحد:
عيب، أو ربنا يخلي الأولاد، والبركة فيهم، وما شابه من صنوف العبارات التي تطرح على الساحة في مثل هذه المواقف، والتي هي في مجملها استمرار لوأد البنات والنساء، ولكنه هنا وأد اجتماعي نفسي، لعله أشد لهيبا من الوأد الجسدي الذي مورس في الجاهلية!!
ولقد تحدثت إلى نفسي بهذه الأفكار، ولكن حدث منذ أيام ما جعلني أشد إيمانا بها. فلنا جارة قد جاوزت الأربعين، ولقد توفي زوجها منذ كانت في العشرين من عمرها، ولكن كرامة العائلة وأشياء كثيرة أخرى حالت دون أن تعيد تجربة الزواج رغم أنه لم يمنحها سوى ابنة واحدة. ثم تزوجت الابنة وخلت المرأة إلى نفسها، ونظرت في المرآة وكأنها تكتشف نفسها لأول مرة، فإذا بها غادة هيفاء تسر الناظرين (أو هكذا زين لها)، وإذا عيناها تشعان ببريق الحياة، وتدب في جسدها الحرارة شيئا فشيئا، حرارة كانت تعرفها جيدا ولكنها نسيتها من سنوات، وتشتعل جذوة العاطفة في صدرها؛
ولكنها رغم ذلك كانت قد افتقرت إلى لغة التخاطب مع الجنس الآخر، وما لبثت أن تسرب اليأس إليها رويدا رويدا حتى انتبهت إلى أن أي محاولة تجاه الجنس الآخر لن تجني منها إلا أن توصم بأنها العجوز المتصابية الحمقاء، ثم دققت النظر في المرآة فشعرت أن المرآة رجعت هي الأخرى في رأيها، وأن وجهها قد امتلأ شحوبا وتجاعيد، بل إن المرآة تكاد تخرج لها لسانها، وهكذا شيئا فشيئا حتى قنعت بأن لها دورا واحدا في الحياة وهو أن تقبع خلف نافذتها ترقب المارة ذهابا وإيابا!!.
ومن حين لآخر تستيقظ جذوة خمدت فتتلفت يمينا ويسارا خلف نافذتها، ويرشح لها شيطانها أحد هؤلاء، ولكنها تخشى الفضيحة، ليست فضيحتها هي، ولكن فضيحة إخوتها الرجال، وهم سادة وكبار البلد، فأما الزواج فلا مجال لذكره أو التفكير فيه!!. وهكذا ظلت أياما وشهورا خلف نافذتها ترقب الرائح والغادي، وهي في هذا وذاك تتحول إلى قناص متربص، ومن هو الضحية؟!!.... إن ذلك هو أعجب ما في الأمر، هل وجدتم صيادا يخشى الفريسة، أجل، هي تخشى الرجال، تخشى غدرهم، أما الحلال فقد ضرب بينها وبينه حجاب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، وأما الحرام فلسان حال المجتمع يقول لها في حياء: لا بأس، ولكن إذا بليتم فاستتروا!!
وحتى الستر، هي لا تأمن فيه هؤلاء الرجال!!
وهكذا ظلت حدقتاها تدوران حتى وجدت ضالتها المنشودة!!... إنه ذلك الشاب المعتوه!!... أجل، ولم لا؟ إن معه تصريحا بالدخول إلى جميع بيوت القرية لأخذ كسرة خبز من هنا، أو جرعة ماء من هناك!!... وهي لن تكتفي بإعطائه كسرة الخبز، بل جلبت له صنفا من الحلوى يسيل له اللعاب!!. وقضى المعتوه ليلة ما عايش مثلها أبدا!!... وفي الصباح أسدلت المرأة الستار، وهي تواسي نفسها بأن قليلا متاحا خير من كثير غير مباح، ثم ظنت أنها طوت ذلك إلى الأبد.
وكلما ارتفعت الشمس إلى كبد السماء اشتد حر ضميرها، حتى غدا يلسعها بشواظ من نار، ووجدت أن عذاب الخطيئة أشد هولا مما استشعرته من قبل وما زالت حتى أسدل الليل ستاره، فدعت الله بأن يغفر لها، وأن يعفو عن زلتها حتى تسكن جوارحها، فما راعها إلا والمعتوه أسفل النافذة يصرخ في صوت سمعه القاصي والداني: افتحي الباب يا حاجّه، حتى نفعل ما فعلناه بالأمس!!!!"
بعد أن قرأت الرسالة بدأت تتداعى في وعيي قصص من عايشتهم من الأرامل قصة وراء قصة فقررت أن أترك تلك القصص تتداعى لعلها تكمل صورة الترمل في مجتمعنا العصري:
مدام "س" انشغلت عن الحزن على زوجها بكم هائل من المشكلات المالية خلفها وراءه حيث كان يخفي عنها كل أموره المادية فضاعت الكثير من أمواله بين شركائه وعملائه، وهي تجري هنا وهناك تبحث في الظلام عن ثروته التي تعرف أنها كبيرة (حيث كان طبيبا مشهورا ورجل أعمال في ذات الوقت) ولكن لا تدري أين هي، ولا تجد أوراقا تثبت حقها وحق أبنائها وبناتها في هذه الثروة، وتنتابها مشاعر الغضب بجوار مشاعر الحزن تجاه فقيدها ليس فقط على الثروة الموجودة والمفقودة معا وإنما على علاقته بها والتي اتسمت بالإهمال والتجاهل، فلم يكن يهتم بها إلا وقت الفراش، ولم يكن يخبرها شيئا عن أحواله وأسراره، فقد كان لديه اعتقاد بأن معرفة المرأة بهذا تفسد الحياة.
وربما لهذا ولأسباب أخرى تصر مدام "س" على الزواج بعد فترة وجيزة من موت زوجها، وقد أعلنت ذلك بلا تردد أمام أبنائها وبناتها، فصدموا جميعا وأحسوا بأن أمهم تخون ذكرى أبيهم الذي لم يمض على وفاته أكثر من سبعة شهور، وهم يعتقدون أن أباهم كان أفضل أب لهم وأفضل زوج لها، فكيف تفكر في الزواج من بعده؟، وأي رجل يمكن أن يدخل حياتهم فيقلبها رأسا على عقب؟، وأي أنانية لدى هذه الأم التي لا تستحي فتطلب الزواج لنفسها بدلا من أن تدبر أمر زواج أبنائها وبناتها وقد بلغوا سن الزواج فعلا؟، وأسرعوا إلى جدهم وجدتهم ليخبراهما بهذا "الجنون" الذي أصاب أمهم على حد تعبيرهم.
ولم يقصر الجد والجدة في لوم وتقريع ابنتهما التي لا تراعي سنها (فقد بلغت الخمسين من عمرها) ولا تراعي مصلحة أبنائها (ولدين تخرجا من الجامعة وابنتين في الثانوية العامة)، ولكنها لم تعر لذلك أي اهتمام وما زالت في رحلة البحث عن عريس تعوض معه ما فاتها مع زوجها، فهي لم تشعر طوال سنين زواجها أنها كانت امرأة، ولا يهمها رضى أبنائها أو أبويها، فهي –كما تقول– لا تفعل شيئا محرما بل ستتزوج على سنة الله ورسوله، وذلك أفضل من أن تنظر هنا وهناك أو أن تكون مطمعا للرجال (على حد قولها) خاصة وأنها جميلة وجذابة (هكذا تعتقد).
ومع هذه الرغبة القوية والمؤكدة في الزواج إلا أنها لم تنجح حتى الآن في تنفيذ هذه الخطوة رغم تقدم أكثر من رجل لها، فهي ما زالت مترددة إذ تخشى أن تخسر من حولها من أجل رجل لا تعرف مدى إخلاصه لها خاصة وأنها ستكون الزوجة الثانية –غالبا– لرجل متزوج (هكذا الفرص المتاحة لمن في مثل ظروفها)، أو أنه يطمع فيما تبقى لديها من ثروة زوجها، كما أنها تخشى أن ينبذها أبناؤها من حياتهم إن هي تزوجت، ولكن يبدو أن شعورها بالحرية في مسألة الزواج يريحها ويجعلها تشعر بأنها مازالت قادرة على مواصلة الحياة وأنها ليست فقط "زوجة المرحوم" أو "أرملة المرحوم" أو "أم الأيتام" أو "أم العيال".
ومما يزيد من إصرارها معرفتها بما كان لزوجها من علاقات وصلت إلى حد الزواج العرفي ربما لأكثر من مرة، وهي لا تريد أن تبوح لأحد بما عرفته حتى لا تحطم صورة الأب في عيون أبنائه ولا تشمت بها أعدائها.
قصة أخرى لأرملة شابة تركها زوجها وهي في منتصف العشرينات من عمرها عاشت كل لحظات الأسى والحزن على فقد الحبيب المخلص الوفي، وقررت أن لا تنكشف على رجل غيره مهما كانت الظروف، وقاومت كل الضغوط العائلية والاجتماعية عليها لتتزوج، وقاومت كل محاولات التعرض والتحرش، وتعلمت كيف تصد أيدي الرجال الطامعين وكيف تتحاشى عيونهم، واكتفت بأن تعيش لتريبية ابنها الوحيد.
لقد عانت ليال سوداء كانت فيها وحيدة تجتر أحزانها وذكرياتها مع الحبيب الغائب، وتقاوم في ذات الوقت احتياجاتها العاطفية والجسدية، وكانت راضية بكل هذا، ما دامت مع ابنها الذي هو امتداد لزوجها المفقود الحاضر في ذات الوقت.
وتركزت كل مشاعرها في ابنها، ولم تسمح لأحد من العائلة بأن يتدخل في تربيته، وقامت بدور الأب والأم معا، حتى كبر ابنها، ولكنها صدمت منه حين سمعته بالصدفة يشكو لأحد أصدقائه بأن أمه تخنقه بمتابعتها له واهتمامها الزائد به، وأنه يفكر في العمل بإحدى دول الخليج حتى يهرب منها ومن متابعتها، وأنه حين يتزوج سينتقل إلى أبعد مكان ممكن حتى لا تنغص عليه حياته بتحكماتها، لأن زوجته لن تقبل بما تفعله.
هنا شعرت الأم بالأرض تضيع من تحت أقدامها، فلم تتخيل يوما أن تفرغها لرعاية ابنها سيتحول إلى شيء يخنق أحب مخلوق لديها، ولكنها حتى بعد هذا الموقف، لم تستطع التوقف عن غمره بمشاعرها الفيّاضة، فذلك شيء أصبح خارجا عن إرادتها، إذ ليس لها في الحياة ما تهتم به غيره أو تحبه سواه، وهكذا أدركت بعد فوات الأوان أنها تورطت بكل مشاعرها في حب الابن الوحيد حتى صار كل أمله الخلاص من قيود هذا الحب الخانق، وتذكرت كلمات أحد الأطباء لها حين حذرها من توجيه كل مشاعرها نحو ابنها وخطورة ذلك عليه وعليها؛
وتذكرت أيضا كلمات عائلتها وعائلة زوجها بأنها دللت ابنها أكثر من اللازم حتى أصبح أنانيا لا يحب إلا نفسه ونرجسيا لا يرى إلا ذاته، وتألمت لما وصل إليه ابنها من قسوة تجاهها على الرغم من كل ما بذلته من أجله...... يكفي أنه لا يحضر لها هدية في عيد الأم كما يفعل سائر الأبناء مع أمهاتهم، فهو لا يدرك معاناتها، ولا يهتم بآلامها، ودائما يطالبها بتحقيق ما يريد، وهو يريد كل شيء، ويشعر في النهاية بأنها حرمته من كل شيء!!!.... أي جحود هذا؟.... وأي قسوة هذه؟..... ولكنه في النهاية ابنها... حبيبها!!!.
هكذا انتهت بعض القصص لنبدأ في فتح ملف الأرامل وما يعايشنه من صراعات نفسية، فالأرملة تألمت لفقد الحبيب، وتألمت لأسئلة الصغار عن أبيهم (بابا اتأخر ليه... مش يمكن زعلان مني ياماما.. قولي له يرجع وأنا ما عنتش هاعمل حاجه تزعله... طب خليني اكلمه في التليفون.... بابا وحشني قوي ياماما..... هو هاييجي في العيد؟؟.... عربيته راحت فين؟؟.... بابا نسي موبايله وساعته في الدولاب.... انتوا ليه شحتّوا هدوم بابا للناس الغلبانين...... هو صحيح راح عند ربنا؟؟..... طب انا عايز اروح له عند ربنا...... أنت ليه كدبت علينا أنت ونينه وقلتوا هو مسافر؟؟..... ليه أصحابي باباهم بييجي ياخدهم من الحضانة وأنا ماليش بابا ييجي ياخدني زيّهم؟؟.... فيه ولد أكبر مني بيضربني وعايز بابا ييجي يضربه)؛
وتألمت لطمع الأقارب في الميراث، وتألمت لتحكمات أهل زوجها فيها، وتألمت للمحاذير التي وضعتها أسرتها حولها حتى لا يتكلم عنها الناس، وتألمت لابتعاد صديقاتها عنها وخوفهن على أزواجهن منها، وتألمت وهي تسمعهن يقلن عنها سرا "الأرملة الطروب"، وتألمت لتعرضها للمجتمع بلا غطاء من الزوج، وتألمت في إنهاء إجراءات الميراث والمعاش والوصاية، وتألمت وهي تتسلم شهادة الوفاة وقد كتب اسم زوجها لأول مرة مسبوقا بكلمة المرحوم، وتألمت وهي ترى نظرات الشفقة في أعين زملائه وزميلاته في العمل حين حضروا لعزائها، وتتألم كل يوم مع أي شيء يذكرها بزوجها، وكل شيء حولها وداخلها يذكرها به.
ومضت سنوات انشغلت فيها بلملمة شمل الأسرة ورعاية مصالح الأبناء حتى كبروا وانشغلوا عنها بدراستهم وأصدقائهم، وأصبحت تجلس أغلب أوقاتها وحيدة، وتحرك بداخلها شوق يزداد شيئا فشيئا ولكنها تحاول إنكاره واستبعاده من وعيها، ولكنه يعاود الظهور ويزداد إلحاحا، إنها في حاجة لمن يؤنس وحدتها، هي تخاف الزمن وتخشى ذلك الوقت الذي يمضي فيه أبناؤها مع زوجاتهم ويتركونها وحيدة، أو يدعونها للعيش معهم ولكنها تكره أن تكون ضيفا ثقيلا على أسرة حتى ولو كانت أسرة أحد أبنائها.
يكاد الأمر يخرج من يدها، ويكاد لسانها ينطق به لمن حولها، ويزداد الإلحاح وتزداد القناعة كلما ازداد الأبناء انشغالا بحياتهم خارج البيت، وكلما بدا جحودهم لتضحيتها من أجلهم. وفي أحد الأيام قررت أن تزور طبيبا نفسيا وأن تلقي إليه بكل أحاسيسها، وهي مطمئنة لحفظ سرها لديه، وفعلا ذهبت وتكلمت، وأخرجت مشاعر مدفونة من سنين، وبكت، وتنهدت، وتذكرت، وتألمت، وقرب نهاية الجلسة نظر إليها الطبيب وقال: ولم لا تتزوجين؟؟... فخافت وارتجفت (أو تظاهرت بذلك)، وردت بتردد وتلعثم واستنكار مصطنع:
كيف تقول هذا يا دكتور، وأترك أبنائي وحدهم، أو أجلب لهم رجلا غريبا مكان أبيهم الذي يقدسونه؟؟؟.... وماذا سيقول عني الناس، وكيف أواجه المجتمع؟؟... وهل تظنني أنانية لهذا الحد أفكر في سعادتي على حساب سعادة أبنائي؟؟؟.... وإذا تركنا كل هذا أأخون ذكرى المرحوم زوجي الذي عشت معه أجمل سنين حياتي؟؟... وهل سيرضى بهذا وهو في قبره؟؟ وماذا أقول له حين ألقاه بعد موتي؟؟... ومع من أكون في الجنة إذا قدر الله لي أن أدخلها أأكون مع زوجي الأول وأبنائنا، أم مع زوجي الثاني وأبنائي منه؟؟... وكيف أنكشف على رجل ثان؟.... لقد وجدت صعوبة شديدة في أول زواجي حيث كانت بالنسبة لي كارثة أن أخلع ثيابي في وجود رجل حتى ولو كان زوجي، وظللت شهورا حتى تعودت على هذا الأمر مع زوجي يرحمه الله!!!!.
وتركها الطبيب تسترسل في الاعتراضات والتساؤلات، والاستفهامات، والاحتجاجات دون أن يرد، ثم أخبرها بأن وقت الجلسة قد انتهى، وأنه سيراها في الأسبوع المقبل. وفي الموعد المحدد حضرت للجلسة الثانية مع الطبيب، وفاجأته برغبتها الملحة في الزواج، وبدأت تناقشه في المشاكل المحتملة وكيفية مواجهتها، وكانت تؤيد فكرتها من وقت لآخر بنصوص دينية تبين أهمية الزواج للمرأة والرجل، وأن الزواج حصن من الفتن، وأنه سنة الله في خلقه، واستشهدت بعصر النبوة حيث كانت هناك مرونة في الزواج للأبكار والمطلقات والأرامل، ولم تكن هناك أي تعقيدات في الزواج، ولم يعرفوا هذه الحساسيات والمحاذير التي نضعها الآن في طريق الأرامل والمطلقات، بل وأحيانا البنات.
واختفت عدة شهور، ثم ظهرت وقد بدا عليها تغير كبير في مظهرها وفي جوهرها، فسألها الطبيب عن سر ذلك التغير فردت بابتسامة واثقة:
- لقد تزوجت؟
0 مبروك، الحمد لله
- ولكني أعاني معاناة من نوع جديد
0 كيف؟
- أرى زوجي الأول في أحلامي كثيرا، وهذا ما جعلني أحضر إليك اليوم، أتعذب كثيرا من هذا الأمر، أحيانا أراه راضيا ومطمئنا بما فعلت حتى لا أعاني مرارة الوحدة بعد زواج أبنائي، وأحيانا أراه غاضبا ثائرا وناقما عليّ، وأحيانا أرى علامات الغيرة الشديدة التي أعرفها لديه، وفي أحد المرات رأيته يتصارع مع زوجي الجديد يحاول أن يقتله ولكن زوجي قتله وقتلني بعده، وفي أحد المرات جاء يأخذ مني أبنائي...... كل هذا مؤلم ولكنه محتمل إلى حد ما، ولكن ما لا أستطيع احتماله هو ذلك الشعور بالخيانة الذي يملأ نفسي، فأنا أشعر أنني أخون ذكرى المرحوم حين أكون مع زوجي الجديد، وإذا رأيت زوجي الأول في منامي في أوضاع حميمية أو حتى في لقاءات عادية فإنني أشعر بأنني أخون زوجي الثاني،........
باختصار أنا أشعر بالذنب تجاه الاثنين، وهذا يعكر صفو حياتي. ذهبت إلى شيخ كبير لأستشيره فيما فعلته فبارك فعلي وطمأنني إلى أنني اتبعت السنة حين تزوجت، وحين صارحته بأحلامي طمأنني بأن الأحلام ليس لنا عليها سلطان، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأنني لم أخن الزوج الأول بزواجي من ثان، ولم أخن الزوج الثاني بأحلامي مع الأول..... ورغم أن كلمات الشيخ طمأنتني بعض الوقت إلا أن الشكوك والمخاوف مازالت تطاردني!!.
0 هذه مرحلة وستنتهي، وأرجو فقط تصحيح الوصف، فزواجك –كما قال لك الشيخ- ليس خيانة للمرحوم بل هو استجابة لتعاليم الشرع ولقوانين الحياة، كما أن أحلامك ليست بإرادتك فكونك تلقين زوجك الأول على أي شكل ليس خيانة لزوجك الثاني بل هو إخلاص لا شعوري لزوجك الأول، وهي ليست بالضرورة رسائل حقيقية من العالم الآخر، وإنما هي بالأحرى أفكارك ومشاعرك الداخلية المتناقضة تتبدى لك في أحلامك.
- ولكنني أتعذب بكل هذا
0 حاولي الآن في الجلسة أن تتحدثي عن أفكارك ومشاعرك المتناقضة والمتصارعة بين الزوج الأول والزوج الثاني لكي يصل الأمر بداخلك إلى حالة من الاستقرار النسبي، وسوف أساعدك في هذه الرحلة الإستكشافية حتى نصل معا إلى ترسيم الحدود في تلك العلاقات القديمة والحديثة وإعادة تنظيم للأفكار والمشاعر.
وقد كانت رحلة شاقة، حيث اتضح أن للزوج المتوفى مساحات هائلة داخل نفسها، فقد كان أول حب لها، وأول رجل تفتح له قلبها، وتمنحه نفسها، وكانت قد رتبت حياتها على أنه الرجل الوحيد في حياتها، ليس فقط في الحياة بل أيضا في الآخرة، وكثيرا ما كانا يتحدثان في هذا الأمر في لحظات الصفاء، وتذكر أنها كانت تغار من فكرة وجود الحور العين لزوجها في الجنة فقد اعتادت أنه لها وحدها، وأنها له وحده. يضاف إلى ذلك ذكريات هائلة بينهما، ففي كل مكان تذهب إليه تتذكر لحظات ومواقف معه، وتسمع كلماته وهو يصف شيئا أو يعلق على شيء.
حتى مواقف الخلاف بينهما تذكرها بتفاصيلها، وتذكر لحظات الصلح بعدها، وما أجملها من لحظات.... لقد كان حقا يملأ قلبها وعقلها ووعيها وصحوها ونومها، لقد تسلل إلى كل خلاياها بسماح كامل منها ثم اختفى فجأة وترك آثاره تحتل كيانها دون أن تدري.
وعلى الرغم من محاولة تجنبها المقارنة بين الزوج الأول والثاني إلا أن شيئا يحدث تلقائيا بداخلها يجعلها تقارن أوتوماتيكيا بين الأول والثاني في كل موقف وفي كل كلمة، وهذا يعكر صفو حياتها فسواء كانت الغلبة للأول أو للثاني فهي تتألم للمغلوب، وكأن هناك رجلان يتنافسان بداخلها وهي تحب كلا منهما، ولا تدري أيهما تناصر، فزوجها الثاني رجل فاضل وهو يحترمها ويحترم إخلاصها لزوجها الأول وإن كانا يتجنبان الخوض في هذا الأمر، وهو رجل صالح بمعنى الكلمة.
وقد يحسن بنا أن نختم هذا المقال بذكر السيدة أسماء بنت عميس فقد ترملت أربع مرات وتزوجت خمس زيجات، فكان زوجها الأول حمزة بن عبد المطلب، وحين مات تزوجت شداد بن الهاد، وحين مات تزوجت جعفر بن أبي طالب، وحين مات تزوجت أبو بكر الصديق، وحين مات تزوجت على بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وهي بهذا تعطي مثلا للأرملة بجواز الزواج بعد الترمل حتى لو تكرر ذلك عدة مرات، وحتى لو كان الزوج المتوفى في عظمة حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيد الشهداء، وحتى لو كان الزوج المتوفى جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيار، قائد وشهيد غزوة مؤتة، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم)، وحتى ولو كان الزوج المتوفى أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعكس حياتها حالة من المرونة والتقبل الاجتماعي للأرملة، وتعكس حالتها حالة من الحيوية والحركية داخل المجتمع؛
فها هي تتزوج بخيرة أهل عصرها، ولا يجد أحد في ذلك حرجا أو خجلا، ولم يقل لها أحد تبتلي وانقطعي لخدمة أولادك، أو احرمي نفسك من احتياجاتك الفطرية، أو عيشي على ذكرى المرحوم، ولم يقل لها أحد كيف تخونين ذكرى حمزة بن عبد المطلب أو شداد بن الهاد أو جعفر بن أبي طالب أو أبو بكر الصديق، وكلهم من الأعلام المعدودين ومن الرجال البارزين الذين ربما كفت ذكراهم أي امرأة فخرا وعزا، ولكنها الاستجابة للفطرة الإنسانية واحتياجاتها، واستجابة لاستحباب الزواج للأعزب والمطلقة والأرملة، وأن مشكلات زواج الأرملة النفسية والعائلية والاجتماعية أقل بكثير من إغلاق قلبها ووحشة روحها وشكوك مجتمعها وتعنت أهلها.
واقرأ أيضًا:
أسباب فشل الحياة الزوجية / سيكولوجية الرجل / الزوج المسافر(4) / الشخبطة السياسية / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي )