زرت مؤخرا مدرستين: في روض الفرج، ثم في باب الشعرية. كان الأولاد أقرب وأطيب وأشجع، أما المربون الأفاضل، وبعض الأهل الكرام، فكانوا أبعد وأجهز وأحسم. قلت فيما قلت إن الوالد(ة) ليس والدا لمجرد أنه أنجب أو أنه يمول، الوالد يكون والدا حين تكون له "معالم" محددة، وأيضا حين يكون "في متناول وعي ولده" حتى لو لم يحضر جسديا، فهم الأولاد، وزام الكبار. معالم الوالد المحددة هي التي يستهدي بها الابن أو البنت قبولا أو رفضا، أما تلك الصورة المهزوزة الحالية للوالدين فهي التي تنتج هذه الكيانات الهلامية الضائعة. تصورت من ناحيتي، ومن خلال المناقشات مع الأولاد أن شيئا ما قد وصل لهم. فوجئت في الختام بالسادة الكبار يلخصون ما قلت فيما لم أقل. قالوا إنني أعني أنه: على الأولاد أن يكونوا "كويسين جدا" لأن ذلك "كويس جدا" ولأن الضيف المحاضر، (الذي هو أنا) أستاذ جدا وعالم جدا، وكاتب أيضا.. وخلاص.
في مدرسة باب الشعرية، عدلت عن البدء بإلقاء كلمة. طلبت من الأولاد أن يبدؤوا هم بطرح تصوراتهم عما ينتظرونه مني، قال أحدهم (ربما 14 سنة) بلهجة خطابية سوف تقول لنا: "إن المخدرات خطر جدا" قلت له: لكنك تعرف ذلك فما فائدة حضوري؟ تعجب الابن وعاد يقول: حضرتك سوف تقول لنا إنها خطر جدا جدا جدا، داعبته أراجعه: هل حضوري ذلك الصباح، مرورا بشارع السوق الأقل من نصف كيلو خلال حوالي ساعة، هو لمجرد إضافة اثنين "جدا"؟ فهم الابن وابتسم، ورفع الكبار حواجبهم. في نهاية اللقاء (أكثر من ساعتين). لخص أحد الكبار كل الحوار الساخن الذي دار بيني وبين الصغار في أنني قلت: "إن الشطار هم الذين يسمعون الكلام". (والله ما حصل!).
رجعت وأنا حزين أتساءل: هل وظيفة الأهل والمدرسين الآن هي تكبيل وظيفة التفكير الطبيعي الذي خلقه الله؟ هل وظيفتهم هي محو ما يحرك المخ، أولا بأول؟ هل وظيفة مجلات الأطفال وبرامج الأطفال لدينا هي غمر وعي أبنائنا وبناتنا بهذا الكم الهائل من النصح والإرشاد بهذا الشكل الفج المسطح؟ حتى الدراما عينوا لها لجنة خشيت أن تنتهي لتكون لجنة "التمثيل بالمعروف والإخراج بلا منكر". ما الحكاية بالضبط؟ إن الله خلقنا أطفالا بعقول ووعي ووجدان: كلها في حركة كشف واستطلاع وتساؤل؟ هل أصبحت كل مهمتنا أن نحشر في أدمغة صغارنا ما يحول دون أن نغامر نحن الكبار باستعادة حقنا في التفكير خشية أن نفهم ما تنازلنا عن محاولة فهمه قهرا وخوفا؟
أنا من قراء ميكي حتى الآن، أسرق من أحفادي بعض الأعداد، كما تساعدني بعض المجلدات المختبئة في أماكني البعيدة على كسر وحدتي بشكل هادئ ليس فيه اقتحام ولا مصمصة شفاة. علاقتي مع "عم دهب" علاقة وثيقة وأيضا مع زيزي، أما بطوط شخصيا فأنا أفوت له فهو لا يبهرني إلا نادرا، أفتقر في أغلب مجلات الأطفال عندنا إلى أصدقاء حقيقيين لا يخطبون. صادقت مؤخرا كل شخوص وحيوانات وطيور أحمد شوقي في ديوانه للأطفال.
"من أين نبدأ"؟ من الصغار كما خلقهم الله أم من الكبار الذين يفسدون ما خلق الله؟
مصيبة التربية والتعليم أكبر من إشكالات الثانوية العامة. قيمة الغش التي شاعت حتى كادت أن تصبح قاعدة ومدعاة للتباهي، أفهمها كأن لسان حالهم يقول: إن ما تحشرونه في أدمغتنا يا سادة لا يستأهل أن نحفظه. نحن ننقله من أصوله إلى أوراق الامتحان، غشا مباشرا، دون أن يمر بأدمغتنا، حفاظا عليها.
برغم كل ذلك فسوف يجد الأطفال (داخلنا وخارجنا) طريقهم دون إذن منا (راجع انتشار هاري بوتر)، وربما يشجعنا ذلك أن نحذو حذوهم.
نشرت في الأهرام بتاريخ 4-2-2005
اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: المجنون لا يفعل مثل هذا!!! / تعتعة نفسية: كيف تعمل العقاقير النفسية (2)