اعتذار إلى أساتذتي المرضى الطيبين، وترتيب أولويات للاستيعاب والفعل
دأبت أقلام الهواة، على وصف بعض الساسة والرؤساء الطغاة والسفاحين بصفة الجنون، وهذا وارد بالنسبة للشائع عن لفظ الجنون لعدم تصور أن يصدر كل هذا الإجرام والتبلد من شخص عاقل!!، لكن الغضب والغيظ والرفض قد استدرج بعض المختصين إلى مثل ذلك أيضا، وبناء عن طلب من الصديق أ.د. جمال التركي، وكذلك أ.د. عبد الرحمن إبراهيم، كتبت رأيي كما يلي:
أولا: لا ينبغي أن نستعمل كلمة الجنون سبابا أو قدحا، فالمجنون أساسا: أستاذ فاشل، ومبدع مجهض
ثانيـا: لا ينبغي أن نستعمل كلمة مريض نفسي إلا للمريض النفسي في إطار مساعدته، وحمايته هو وذويه وناسه من شطحات أعراض معينة (علما بأن نسبة الجرائم أكثر تواترا إحصائيا من الأسوياء).
ثالثا: لا يصح استعمال ألفاظ الأمراض في غير موقعها مهما بلغ التشابه قياسا، فلا يوصف شعب بالفصام، ولا أمة بالاكتئاب القومي...إلخ
رابعـا: لا يجوز إطلاق تسميات الأعراض والأمراض على شخص إلا في سياق طبي إكلينيكي بعد استيفاء ما يكفى من المعلومات (وقد تراجعتُ عن ذلك حتى في سياق النقد الأدبي: الشحاذ محفوظ)
خامسـا: من الوارد: لصالح التأريخ وأحيانا لصالح اتخاذ القرار الآني، محاولة فهم دوافع وتصرفات بعض الرؤساء وخاصة من الأعداء والسفاحين لحساب توقعات معينة، وذلك في إطار ما يسمى الإمراضية (السيكوباثولوجي Psychopathology) المحتملة، يقوم بذلك مختصون في علم النفس السياسي ومثله، ويكون هذا من قبيل مجرد فرض قد يساعد في فهم بعض التوقعات الواجب الحذر منها، وكل هذا ليس تشخيصا ولا هو "اتهام بالجنون"، ولكنه قد يكون أقرب إلى ما أسميته "قراءة النص البشرى"، ومن ثم احتمال "نقده"
سادســا: الخوف كل الخوف أن يترتب على وصف قاتل رئيس سفاح بالجنون نوع ضمني من تصور إعفائه من مسئولية أعماله، واستبدال ذلك بطلب علاجه، علما بأنه في الطب النفسي هناك قاعدة علمية تؤكد أن المجنون قد يكون مسئولا عن جرائمه مسئولية كاملة، فضلا عن أن المدرسة التي أنتمي إليها تقول بأن الجنون نفسه هو نوع من اختيار لهذا الحل المرضي، على مستوى أعمق من الوعي، وما بني على اختيار فهو اختيار.
سابعــا: الخوف أيضا من وصف مثل هؤلاء السفاحين بالجنون، أو بأي تشخيص، هو إثارة تعاطف ما مع هذا القاتل، هو لا يستحقه، بل وقد يجعله - بطريق غير مباشر - يتمادى في التقتيل والإبادة
ثامنـــا: إن ثمة تصرفات تصدر ممن يسمون عقلاء (جدا) ممن يملكون السلطة والسلاح والمال، هي أكثر خطرا وإبادة وقسوة من كل من عرفنا من رؤساء نستسهل وصفهم بالجنون، وهى تمارس حالا كما نجد مثلها عبر التاريخ، وهى قد تصدر بقرار معلن واع مع سبق الإصرار والترصد من مجلس وزراء معترف بدولته الديمقراطية عالميا، يصدر القرار الوزاري بالإجماع بقتل أفراد بلا محاكمة (مثل قتل الشيخ يسن)، كما أن ثمة قرارات أخرى أصعب واخطر تصدر أيضا من عقلاء رسميين لهم مؤسسات أيضا ديمقراطية، تصدر بإبادة عرقية، أو سرقة نفطية..إلخ، كل ذلك تحت عناوين عاقلة جدا، مثل "الحروب الاستباقية" أو "مكافحة الإرهاب" أو "الحيلولة دون استعمال أسلحة الدمار الشامل"، وهذه الأعمال والقرارات لا توصف عادة بالجنون (أليس كذلك؟؟!!)، برغم أن ضحاياها هي أضعاف أضعاف ضحايا أفراد نصفهم بالجنون، بل إن ثمة قرارات تصدر من منظمات دولية (وهل هناك أعقل من المنظمات الدولية!!!) تبلغ من ظلمها وقسوتها ما يترتب عليها إرساء ظلم فادح، وإبادة شعوب، وخراب دول (منظمات مثل مجلس الأمن وبيده عصا الفيتو، أو صندوق النقد الدولي وبيده مفاتيح خزائن الخراب)، ولا أحد يصفها بالجنون، ولا مؤاخذة.
تاسعــا: إن اختزال قراءة الثورات في العالم العربي، وغيره، أو عبر التاريخ، إلى شذوذ في سمات، أو أخلاق فرد واحد، مهما صدق بعض ذلك، خليق بأن يفوت علينا (مختصين وغير مختصين) الانتباه إلى العوامل الأخفى والأخطر وراء التصرفات والقرارات والتنظيمات خصوصا المعولمة منها، فالذي يدير العالم الآن، بما في ذلك تعيين الرؤساء، وإشعال الحروب، هي المافيا المالية العالمية عابرة القارات، المعلنة منها والخفية، وهى – في واقع الحال- التي تعين الرؤساء عبر العالم وتحركهم، وأغلبهم يبدون "في منتهى العقل"، (والديمقراطية!!)، كما أن نفس هذه القوى قد تحرك الثوار الشرفاء دون أن يدروا، أو على الأقل هي جاهزة لكي تستولي على ثورتهم، وتقبض ثمن دماء شهدائهم بترولا وقمحا وذهبا ودولارات، وهذا ما ينبغي البحث فيه قبل وبعد ومع البحث في أعراض شذوذ هذه الدمية أو شطح أسلحتها، أو حتى الضحك على حركاتها وأقوالها في نفس الوقت الذي تسيل فيه الدماء أنهارا، ما ذا يفيد أن نبحث الآن في اختيار اسم مرض نفسي رشيق أو شريف لنعلقه في رقبة هذه الدمية التي تحركها المافيا القادرة بالريموت كونترول دون أن ندرى.؟
عاشــرا: إن اتهام رئيس بالجنون، وهو هو نفس الشخص، يحكم بنفس التصرفات منذ واحد وأربعين عاما، هو اتهام ضمني لشعبه بأنه متخلف عقليا وبالإجماع، إذ كيف يترك هذا الشعب العظيم مثل هذا الشخص يحكمه كل هذه المدة، فرفض الاتهامين واجب لو سمحتم.
حادي عشــر: إن التوقف عند مرحلة التفسير (أو التبرير أو التشخيص)، مهما صدق ودقّ، هو من أخطر ما يمكن أن يجهض الثورات أو يفرغها من زخم دفعها، نحن أحوج ما نكون - بعد التحريك والتضحيات والمخاطر - أن نستعد للدخول فورا: أفرادا وجماعات، شعوبا وقادة جدد، أوطانا وعبر العالم، إلى مراحل الاستيعاب والفعل والإبداع، فالجنس البشرى يتعرض لخطر الانقراض فعلا!!!،
ماذا يفيد التفسير إن لم يَحُل دون التمادي في الجاري،
وماذا يفيد أن نعرف كيف تم (ويجرى) هذا من شخص كهذا أو حتى "لماذا"، دون أن ننطلق فورا إلى "إذن ماذا"؟
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر
اقرأ أيضاً:
لا تشتمونا لسنا كالقذاقي! / القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟ / الاضطراب النفسي شرف لا يستحقه / علينا أن لا نختزل العمل الإجرامي ليصبح مرضا نفسيا