قد أرسل لي الدكتور وائل كي أكتب شيئا عن الميلاد الرابع عشر لموقع مجانين، بسبب انشغاله، ولم أستطع أن أكتب شيئا ننشره يوم الأحد 13 من غُشت، لكني لم أرد تفويت الفرصة لأكتب شيئا بخصوص المناسبة، حتى لا أخذل ظن الدكتور ولا أردّ طلبه، وأيضا لأنني أحب أن أشاطر خواطري عن الموقع. مع أني آخر فروع هذه الشجرة المباركة تبرعُما، ولم أعِش لحظات تطور الموقع لحظة بلحظة كما عاشها مؤسسه الدكتور وائل وثلة من زملائه الأوائل مثل الدكتور أحمد عبد الله والدكتور سداد التميمي وآخرون. ورغم أني قرأت المقال الذي كتبه الدكتور التميمي بخصوص المناسبة والذي نُشر في الموقع، لم يطو عزمي، وقلت في نفسي لا بأس أن يُنشر مقال بعد أيام في مناسبة سنوية، ولن يشتكي الموقع مثلما سيشتكي إنسان من تفويت يوم ميلاده.
موقع مجانين. ربما أول شيء يرنّ في الأذن هو هذا الاسم الذي طالما عارضه بعض المتابعين، ودارت نقاشات كثيرة قرأتُ بعضها، يدافع فيها الدكتور وائل ومستشارو الموقع عن التسمية، مقابل عدم تقبل المتابعين لها. ومع كثرة الاعتراضات، لم تزد مؤسسَ الموقع إلا إصرارا على التسمية. مع أن تغيير الاسم في واجهة الموقع سهل عكس تغيير اسم الموقع في الشبكة (يعني رابط الموقع نفسه url). ولعل هذا الاسم المستفز له جانب إبداعي يحرص عليه د. وائل أشد الحرص لحبّه الأدب والإبداعات، ولعدم احتكامه إلى النماذج النمطية، التي قد توحي بشيء من "prestige ". فقد فضّل أن يجعل موقعه باللغة العربية، رادا لها الاعتبار بغيرته عليها (1)، وهذا ما يغيب في أوساط الطب النفسي ! وقد اختار اسم "مجانين" وكان بإمكانه اختيار اسم علمي رنّان، مثل: الموقع العربي للسيكولوجيا، أو عنوانا مثيرا وترويجيا مثل: البوابة العربية للثقافة النفسية، أو حتى عنوانا أقرب للتنمية البشرية: طريقك للراحة النفسية !! لكنه لم يفعل.
ولعل ما قاله د. سداد التميمي حول معنى الجنون الذي يعتري كل فرد منا، له وجاهته، فليس المجنون فقط من يكلم نفسه أو يرى هلاوسَ أو يعتقد بأن الكائنات الفضائية اختطفته. أليس من الجنون أن يحب أحدٌ شخصا لن يرتبط به أبدا ؟ ! أليس من الجنون أن تثق امرأة برجل لدرجة تكتب له كل ممتلكاتها؟ ! أليس من الجنون أن يتحرّق الآباء لإنجاب أطفال ثم يكرهونهم ويذيقونهم مرارة الحياة قبل الحياة نفسها ؟ ! أليس من الجنون أن يدرس الطالب لدرجة يفقد صلته بالواقع ويحطم نفسيته وحياته؟ ! أليس من الجنون أن تخاطر عاشقة بإرسال صورها لغريب فتعيش في رعبِ وخزي الفضيحة ما حيِيَت؟ !... إلخ... كل هذا يقع لنا ولأسرنا ولأصدقائنا. ومع ذلك نتخيل أنفسنا في منآى عن الجنون !
هذا فضلا عن تداخلات الأعراض مع الحالات النفسية حتى يشتكي الإنسان من إحساس المجنون نفسه، ويشعر فعلا أنّه فقد عقله. وكأن ذلك الألم النفسي والتقلبات الذهنية والمزاجية، مثلها مثل تقلبات الجسد، إلا أنّ إدراكنا عندما تطالُه تلك الأعراض نفزع من فكرة أننا فقدنا السيطرة، مع أنها قد تكون حالة عابرة طفيفة أقل خطورة من شلل عضوي أو نصفي مثلا. ويبقى المشلول أكثر "كرامة" من ذاك الذي تشوّه إدراكُه !
ووصمة العار هذه، هي التي حاربها د. وائل بهذه التسمية. فكأنما يقدم الموقع كل ما يحتاجه الإنسان لفهم نفسه وفهم الظواهر النفسية والاجتماعية من حوله، تحت مسمى "مجانين" حتى يكسّر علاقة العار تلك بين مجال الطب النفسي الذي يعتبره الناس خاصا بالجنون فقط، أو ضربا من "الإلحاد المادي" ! لا يلجأ له إلا من جهل الأسرار الصوفية وفوائد العبادات ! وبين مختلف خلفيات المجتمع العربيّ ومرجعياتهم. فيستفيد القارئ والمتابع وينبهر من كم الفائدة في الموقع، فتتلاشى تلك الدفاعات الزائفة اتجاه "عالم المجانين".
وربما الفائدة الأخرى من تسمية غير معتادة كهاته، هي تدريب الناس على ترك الأحكام المسبقة بمجرد النظر "للمسميات والأغلفة والمظاهر". وتحفيزهم للتأكد والصبر على ما تكرهه النفوس من الإقدام على أمر وُضع مسبقا في رفّ "التفاهات" أو "المكروهات". حتى إن ضغط على نفسه وتجاوز حُكمه ليكتشف محتوى الموقع، علم بشكل قطعي تعارض المسميات بشكل عكسي أحيانا كثيرة، فما عند "مجانين" هو عين العقل، وما عند أصحاب التسميات الرنانة والمظاهر الخلابة، هو عين السّفه والزيف ! كما نرى في بعض المواقع.
وتدريب الناس على ترك الأحكام المسبقة والمغلوطة، من أكبر مهمات الموقع، فلا يمكن نشر ثقافة نفسية علمية سليمة، إلا بتكسير هذه الأحكام والأفكار النمطية عن الطب النفسي، عن تصورنا لعلاقة الدين بالعلاج النفسي، عن رأينا في العيادات النفسية ودور الأخصائيين، ووظيفة علم النفس، وحُكمنا عن المستشير أو المريض الذي يزور الأخصائي. وترفعّنا الوضيع عن الاضطرابات، والتحقير من أثرها واحتقار المصابين بها ونحن غارقون فيها، وعن مثالياتنا، عن الحاجيات العاطفية والجنسية... والقائمة تطول...
تلك الأحكام نفسها هي ما تمنع المستشيرين من الذهاب لطبيب نفسي أو أخصائي نفسي وبعضهم يطالب بدواء عبر الموقع ! ليبقى المتنفّس الوحيد لآلاف الأنّات المختنقة... فكانت المفارقة العجيبة، أنّ الموقع يحيى ويتقوى بتلك الأفكار النمطية، وبها تكون الحاجة إليه أكثر إلحاحا. فالحمد لله مدبّر الأمر.
وبعيدا عن التسمية والحكمة المخبّئة فيها، موقع مجانين للصحة النفسية قد جمع من المواد ما يجعل منه "كنزا حقيقيا" دون مبالغة، فضلا على أنه مجانيّ (جعل ذلك في ميزان حسنات العاملين فيه). إضافة إلى الاستشارات الذي اشتهر بها، ففيه ملفات علمية وتثقيفية ومقالات كثيرة، في قطاعات مختلفة وحول مواضيع متنوعة وغنية. فقد كُنتُ أتصفحه منذ سنوات خلتْ واستفدتّ منه بقراءتي بعض الاستشارات. وتعجبت من كسلنا عن قراءة ما أتيح لنا ووُضع بين أيدينا.. ثم مرّت السنوات فصرتُ فيه مستشارا بعد قبول الدكتور وائل مشكورا لطلبي، في اختبار "مهارات وتميّز" في المقام الأول، أما الشهادات فلم تكن في الصدارة.
ولولا أنّ استهلاك المعرفة مُتعب، لكان الموقع أفضل هدية للمقبلين على الزواج أو المتزوجين عوض كؤوس الشاي والأواني الفاخرة التي توضع ولا تبرح مكانها أبدا ! مع أني لستُ ضد الهدايا مطلقا. ولكن عندما تنهار البيوت وهي عامرة بها، نتساءل عن أهمية ونفع تلك الهدايا ! وأتصور فرح الناس بها، وغضبهم اتجاه منْ قدّم لهم "كتابا أو موقعا" كهدية حتى لا ينهار البيتُ بغياب مهارات كثيرة وحضور تصورات خاطئة !
وربما يشتكي البعض كما أشتكي أحيانا، من بعض المشاكل في الموقع وصيانته، مع أنه تمّ تجديده وتغيير شكله، وما لا يعرفه الناس أن الموقع تحت نفقة تطوعية، ليبقى المحتوى مجانيا. وإذا عُرف السبب بطل العجب.
وتبقى خاطرة أخيرة بخصوص المواضيع الجنسية، التي يوحي عدد القراءات فيها بحجم المرتادين لها (2) ، رغم اعتراض الكثيرين عليها. لا شك أن دوافع القرّاء مختلفة، فمنهم من يبحث عن الإثارة، وآخر يبحث عن الحلول، وثالث يريد أن يفهم نفسه، أو يفهم هذا الموضوع الذي أرّق البشرية ولا زالت تذوق منه المسرّات والويلات... ومنهم من جمع ذلك كلّه. وعلى أيّة حال لا يُمكن للموقع تجاهل مواضيع الجنس تفاديا لعقليات تستغل ما يُنشر، أو إرضاء لنزواتٍ محافظة اعتادتْ أن تعالج مثل هذه المواضيع بالسكوت عنها و تجاهلها، أو تركها للتقادم وعوامل "الحثّ والاستحاثة النفسية"، في سلبية تتسربل بالفضيلة والتدين ! مع أنّ الدين غايته رفع الحرج وحلّ معضلات البشرية في إطار علمي بعيدا عن الابتذال. ولعلّ الخلط بين الوقاية التي تقتضي سد الذرائع، وبين العلاج الذي يتطلّب فتح الجرح وتطهيره، هو ما أخرج لنا عقلية سلبية محافظة اختلط عليها التدين من ناحية الوقاية، فكرهت تطهير الجُرح !
المواضيع الجنسية مثلها مثل أي مشكل (اللهم إلا في حساسيتها)، يشكل حيزا من حياة الناس، وتطالها التشوهات والأساطير، والابتزازات والحماقات وأيضا الجهل والحق في التعلم ! وشئنا أم كرهنا يشكل الجانب الجنسي جزء منّا كبار وصغارا، محترمين وماجنين، ولكلٌ طريقته في السعي لها. لكنّه هاجس من الأفضل عقلنته وليس التغاضي عنه حتى يصير غولا وكومة من الأساطير والعقد النفسية.
وأخيرا أشكر الدكتور وائل على تأسيسه هذا الموقع الرائع، وأشكر العاملين فيه من الدكاترة والأساتذة والتقنيين، وأشكر المتابعين ومن وضعوا ثقتهم في مستشاريه. والحمد لله أولا وآخرا. وعيد ميلاد سعيد أيّها "المجنون" معلّمِ الناسَ التعقّل والعلوم.
(1) وقد كان الإحسان إليها شرطا من شروط قبولي في الموقع، وهذا ما يعكس غيرته على لغتنا العربية.
(2) دائما ما تحصد أعلى نسبة في عدد القراءات، ولا أعتقد أن العدد يستثني المحافظين ! إن لم يكونوا هم الأغلبية، لغياب ذلك من أوساطهم، نقاشا أو مغامرة. وفكرة أن الموقع ينشرها عمدا لجلب القراء والزائرين، فكرة مبنية على مغالطة، فما يجعل السائلين والقراء في المواضيع الجنسية كُثر، هو الحاجة عندهم، وليست حاجة الموقع للشهرة ! فالتأثير عكسي، فالموقع أكثر مما استكثر منه المجتمع والأفراد، ولم يستكثر على الناس شيئا سعيا للشهرة !
واقرأ أيضاً:
عيد ميلاد مجانين الرابع م1 / عيد ميلاد مجانين 13 -8 -2007 / عيد ميلاد مجانين الرابع عشر