توفي الدكتور / طارق أسعد أستاذ الطب النفسي البارع في مجال السيكوفارماكولوجي، وفي علم النوم، وفي علم فسيولوجيا وباثولوجيا المخ، تتلمذ على يديه الآلاف من الأطباء النفسيين والأساتذة في هذا المجال، فقد كان عميقا في هذه المجالات في الطب النفسي بحيث لا ينافسه فيها أحد، فقد كان أكثر علماء الطب النفسي تعمقا في فهم وظائف المخ وتأثيرات الاضطرابات العضوية والنفسية على المخ وتأثيرات العقاقير المختلفة على حالة المخ وعلى الحالة النفسية، ولهذا كانت محاضراته توضع في خريطة المؤتمرات في مواضع مميزة ويحظى بتقدير واحترام كبير من سائر الأطباء نظرا لدقته في اختيار مادة محاضراته بحيث تثق في كل كلمة يقولها فهو يتابع أحدث التطورات العلمية في مجال الطب النفسي، وكان يذكر في محاضراته أبحاثا صدرت في الساعات الأخيرة قبل تقديم محاضراته، وكان متفردا بهذه الخاصية، إضافة إلى تفرده في اختصار الكثير من المعلومات في صورة جداول تسهل فهم الموضوعات الصعبة وربط الأشياء ببعضها.
وقد سعدت بالسفر معه إلى الكثير من المؤتمرات الدولية، وكنت أراه منكبا في أغلب الوقت حتى في الطائرة على قراءة المجلات العلمية، أو تصفح مواقع الإنترنت لمتابعة الأحدث في تطورات العلم. ولكثرة ارتباطاته العلمية وأسفاره كانت تفوته مواعيد الطائرات لدرجة جعلت بعض أصدقائه يداعبونه بأن الطائرات التي فاتته أكثر من الطائرات التي ركبها، وقد سألته في هذا الموضوع فابتسم ابتسامته الهادئة وقال بأنه يجد صعوبة في رفض الكثير من الدعوات التي توجه إليه من منظمي المؤتمرات والفعاليات العلمية في مصر والعالم العربي، وكان هذا يضع عبئا كبيرا عليه، ولاحظت عليه علامات الإجهاد في الشهور الأخيرة وبدا أكبر سنا، وربما لم يتحمل قلبه الرقيق كل هذه الأعباء.
كنت معه في أحد المؤتمرات في إيطاليا، وذهبنا نشتري بعض المأكولات من السوبر ماركت، ولاحظت أنه يشتري أشياء قليلة، ولكنه ينتقيها بعناية، ولا يشتري شيئا قبل أن يقرأ محتوياته بدقة وعمق ويعرف فوائده وأضراره، فتعلمت منه التأني والتدقيق في الخيارات. وربما حاولت شركات الأدوية الاستفادة من مكانته العلمية بدعوته كمتحدث رئيسي في فعاليتها العلمية أو برامجها التدريبية، ولكنه لم يكن ليقول إلا الحقائق العلمية حول أي دواء، ولم يكن يخضع – كغيره – لإغواءات تلك الشركات لترويج دوائها، بل كان يستغل بذكاء شديد تلك الفعاليات لتوصيل ما لديه من علم حقيقي.
وبجانب هذه العظمة والبراعة العلمية كان الدكتور طارق أسعد محبوبا وبشدة من كل المنتمين لمهنة الطب النفسي، نظرا لتواضعه الشديد وطيبته وسماحته واحترامه للجميع وابتعاده عن الصراعات والاستقطابات والمشاحنات، فلم يكن يشغله إلا العلم في تفاصيله الدقيقة وتطوراته الأحدث، ونقل كل ذلك إلى تلاميذه وزملائه في لغة مبسطة وواضحة وعبقرية تجعل الإنصات له متعة علمية وتجعل المتابعين له في حالة إنصات عميق لعالم جليل قضى عمره في محراب علم الطب النفسي.
وربما لم يحظ الدكتور طارق أسعد بشهرة على المستوى العام حظي بها من هم أقل منه علما ويرجع ذلك إلى زهده في الأضواء، وموضوعيته التي لا تغري أصحاب البرامج الإذاعية أو التليفزيونية، فلم يكن يداهن المستمع أو المشاهد ولم يكن يسعى للإبهار بغرائب الآراء أو المعلومات ذات الجاذبية الجماهيرية، فلم يكن ينطق إلا علما مجردا قائما على الدليل. ولهذا لم نجد اهتماما في المجال العام بوفاته المفاجئة، وهذا ربما يعكس وجود أزمة كبيرة في تقديرنا كمجتمع للعلماء الحقيقيين خاصة إذا قارنا ذلك بالاحتفاء العام بوفاة بعض الفنانين أو حتى ذكرى وفاتهم بعد سنوات طويلة. وقد يعوض هذا الاهتمام الكبير الذي أبداه أهل التخصص مع أستاذهم وزميلهم حين فوجئوا بخبر وفاته، وشعروا بافتقادهم لهذه القيمة العلمية التي تعتبر رافدا هاما في تشكيل منظومتهم العلمية النقية والعميقة والحديثة والرشيقة.
يرحمه الله كان زاهدا في المناصب، وآخرها منصب رئيس قسم الطب النفسي في جامعة عين شمس، وهو منصب رفيع في قسم متميز وفي جامعة مرموقة، وحين استحقه الدكتور طارق أسعد رفضه ليكون متفرغا لنشاطه العلمي المجرد، ولولا ضغط بعض أصدقائه المقربين ما قبل هذا المنصب والذي لم يمكث فيه أكثر من بضعة أسابيع.
ولم يكن تأثير الدكتور طارق أسعد مصريا فقط بل هو معروف في كل الدول العربية كقيمة علمية عربية رفيعة، ونعاه الكثيرون على مستوى الوطن العربي وتألموا كثيرا لفقده.
رحم الله ذلك العالم العظيم الدقيق العميق الموضوعي المتواضع السمح الطيب.
واقرأ أيضًا:
في ذمة الله أحمد الموجي مستشار مجانين / التربية السلطوية في المجتمعات العربية