نعم.. إنها معركة غير متكافئة بين ذلك الفيروس المتناهى في الصغر وبين كل احتياطات البشر واجتهادات العلماء وأدعية الشيوخ وابتهالات القسيسين والكهنة، معركة لم تحسم بعد، في ظل تلك المراوغة والمكابرة في أن ندرك معنى تلك الهوة التي باتت شاسعة بين ما كانت عليه ذواتنا وما آلت إليه والتي لولا صوت الموت ورائحته التي ملأت العالم ما كان أحدنا قد انتبه إليها.
نعم إنها تذكرة بالحياة كما كنا نعيشها في ظل أحلام وآمال وحب وإرادة وقدرات وتحقق، وما صارت عليه من عزلة عن كل ذلك بدعاوى كثيرة تبدأ بضيق الوقت وتنتهي بضيق الأفق مرورا بانحسار الهمة ووهن العزيمة.
نعم.. لقد أنقذتنا عزلة الجسد من عزلة الروح، فها نحن أمام أنفسنا وجها لوجه.. فهل نستعيد تلك المعاني كدوافع وحيدة ومضمونة للحياة كما ينبغي أن تكون؟!
هذا ما حاولت المرأة الخليجية أن تفعله فكان التحليق في فضاء النفس والروح والقلب والعقل غير عابئة بمحدودية المكان، وكانت تجربة كتاب (حديث العزلة.. بأقلامهن) الصادر عن المكتب الثقافي الإعلامي بالمجلس الأعلى لشئون الأسرة بالشارقة في تجربته الثانية في التأليف الجماعي.
والذي بدأته الناقدة البحرينية الدكتورة انتصار البناء بكلمات جان بول سارتر (إذا كنت تشعر بالوحدة وأنت وحدك فاعلم أنك مع رفقة سيئة)، والتي اعتبرتها كطوق نجاة في مقاومة ذلك الانطفاء الذي ألم بروحها والذي اكتشفته بعد ما شاهدت الكثير من الأفلام والمسلسلات وقرأت ما كان مؤجلا من روايات، فلم تستشعر المتعة ذاتها وهي تسرق الوقت وتعاني من الإرهاق وتراكم الالتزامات عند ممارسة الأشياء نفسها.
فكان قرارها بأن تعمل على مصاحبة نفسها، تحاورها، تعتني بها، بل وتدللها ليعودا صديقين حميميين، فتتوقد شعلتها من ذاتها ولتصبح على يقين أنها ليست وحدها وهي وحدها.
من رحم النهايات المرتقبة قد نولد من جديد، صحيح أنه ليس دائما لكنها تلك الأحيان التي تبدو فيها الثقافة كفعل مقاومة بالدرجة الأولى، ذلك ما استخلصته د.ضياء عبدالله أستاذ مساعد في النقد الأدبي الحديث بجامعة البحرين، خاصة حين آلامها وأبكاها ذلك العبور الرهيب لآلاف الإيطاليين وهم في طريقهم للحرق الجنائزي، فما كان عليها إلا أن تحاصر ذاتها بين تواريخ مختلفة لتلك العزلة مع انتشار الأوبئة، ما بين رواية (الطاعون) لـ "ألبير كامي" إلى روايات (العمى) لـ "جوزيه ساراماغو" و (الحب في زمن الكوليرا) و (مائة عام من العزلة) لـ "غابريل غارسيا ماركيز" و (القلعة البيضاء) لـ "أورهان باموق"، وتقول: "مئات السرديات جعلتني أتأكد أن كورونا مسار تاريخي فارق كي نتوقف عن الضجيج وننصت بعمق إلى أصوات الشغف في أعماقنا، ولتنتصر للحياة بفعل تلك الثقافة".
كم نجحنا في أن نكون أنفسنا فيما مر علينا من العمر؟، هل كنا أحرارا بما يكفي للتحليق في سماء الفكر المتجاوز والمختلف؟.. هكذا وضعت العزلة الكاتبة الإماراتية فتحية النمر أمام تساؤلات مثلت لديها أبرز تجليات العزلة، وتجيب: "من جهتي.. ما كنت نفسي على الأغلب ولم أنعم بالحرية كما ينبغي على امتداد عمري الزاحف نحو تخوم لا أحبذها ولا تطيب لها نفسي أنا أو بنات جنسي جميعا، فلطالما كنا لغيرنا لا لأنفسنا نحترق كالشموع لنكون كما يشاءون ونرتدي ما فصله المجتمع لنا من أثواب، فخسرنا أجمل ما فينا من صفات الخصوصية والبصمة المميزة في مغامرة كارثية لم يكن لها أن تتوقف عند حد لولا دخولنا العزلة التي منحتنا مساحة نلونها بما في نفوسنا من قوس قزح الأحلام والتطلعات المستقبلية".
حقا إن العزلة جميلة متى ما عقدنا معها صداقة حقيقية مؤمنين معها بقدراتنا على تجاوز الحواجز، هكذا أكدت الشاعرة الإماراتية شيخة محمد الجابري وتقول: "من خلال عزلتك الذاتية يمكنك استنطاق ذاتك والولوج الى سرك الداخلي ومحادثتك وصنع حوار خاص معك ومراجعة حساباتك القديمة، فحديث النفس للنفس هو أعظم ما يمكن أن تخرج به من هذه الإقامة مع ذاتك، وهو فرصتك لتستعيد أحلامك وأيامك التي أخذها منك الزمن، أما ماضيك فاقرأه بعناية، خذك إليك، ما أجمل المشهد حينما تعود لك، تكون معك في رحلة نحو الذات بعيدا عن ضجيج الأمكنة الملوثة بما اندس فيها من ميكروبات بشرية وطبيعية".
ترى هل سيقسم التاريخ العالم إلى ما قبل وما بعد كورونا؟، بل هل سننجو من تداعيات شيوعها؟، هكذا تساءلت الكاتبة السعودية د.فاطمة عاشور وتقول: "الإجابة وجدتها في كتاب الله بالتأكيد على أن الأيام دول وأن الدوائر إن تم إغلاقها حتى سمع صرير أقفالها جاءت المفاتيح من لدن رحيم، ولذلك إن انتهاء الغمة يقوم على أضلاع ثلاثة قاعدته تضرع وإنابة، أحد أضلاعه تدابير واحترازات واجتهاد علمي والآخر قبه من تفاؤل وزاوية منفرجة من أمل".
دواؤك فيك وما تشعر ودواؤك منك وما تبصر.. وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر .. تأكيدا على كلمات علي بن أبي طالب تلك قالت د. زينب الياسي أستاذة الأدب في جامعة الإمارات: "لعل أهم ما يفيد المرء في هذه العزلة أن عالمه الأكبر موجود بداخله وأن داءه ودواءه موجودان بداخله.. فهل يحسن إدارتهما فيدير دفة الخير التي في صميمه ويجتث جذور الشر التي عالقتها الأيام والأعوام، فهل يمكن للعزلة أن تكون نداء الذات الأعمق للعودة إلى رحم إنسانيتنا البكر؟، أظن أنها لحظتنا الحقيقية وفوزنا الأكبر".
نعم... إنه حدث جلل استطاع أن يفجر معنى مهما لطالما سعت إليه الإنسانية على مدى عصورها المنقضية ألا وهو التوحد في الآلام والآمال وفي صيغة التوجه إلى الله، هذا ما لفت نظر الروائية العمانية د.عزيزة الطائي وتقول: "وأخيرا أصبحت أهدافنا واحدة وأحلامنا واحدة ومعاناتنا واحدة وحربنا واحدة، وعدنا إلى ما كنا عليه كبشرية خلقت من لحم ودم وكلنا من آدم وحواء وكأن الله أراد لنظام هذا الكون أن يتحول في كل أصعدته السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية والاجتماعية، فالحياة فجأة انقلبت رأسا على عقب وتساوت الشعوب والأجناس والطوائف مع الوباء الذي هز العالم بأسره".
وانطلاقا من أن العزلة في رأيها هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك تساءلت الروائية الإماراتية نادية النجار عما إذا كانت قادرة مثل شاعرها المفضل محمود درويش على عقد صداقة مع العزلة؟ معتقدة في البداية أن الأمر سهل خاصة في ظل حاجتها لقراءة كتبها المكدسة، وكتابة حكاياتها المؤجلة، بل وسباحتها في بحر من الأشعار والقصائد، وتقول: "ما ظننت أن الوقت ككل الأشياء الأخرى إن فاض يتعب المرء ويشعره بالتخمة".
وتتساءل سعاد العنزي أستاذ النقد الأدبي الحديث في جامعة الكويت: هل رأيتم كاتبا عميقا أنتج عمله الشهير من دون عزلة؟ ألم يكن "جبران" صناعة الغربة والعزلة في مدينة نيويورك؟ وهل كان بإمكان محمود درويش أن يكتب روائعه الخالدة التي أدخلته في مملكة الخلود إن لم يكن قد اعتزل فردوسه المفقود في باريس الثمانينيات حيث يقطف ثمار الفلسفة الأوروبية ويتعرف إلى روادها "لاكان وودريدا" "هايدجر" ويطلق روائعه (ليس للكردي إلا الريح) و(خطبة الهندي ما قبل الأخيرة)؟!.
وتجيب: " لم ألتق بذاتي وأعرفها كما في سنوات غربتي، والتي لم تكن عزلة قدر ما كانت رحلة إلى النور وإلى نهر المعرفة المتجدد الذي لا ينضب، إنها عزلة مليئة بالشغف والانبهار والرغبة في الانبعاث من جديد".
في محاولة لإظهار التباين بين عزلة الواقع وواقع العزلة، قالت الكاتبة والشاعرة الكويتية سعدية المفرح: "راقني حديث العزلة وضرورتها للكتاب والمبدعين وهو الحديث الذي يتداوله هؤلاء وكأنه الترف الذي لابد منه لتكتمل الصورة التقليدية لهم وهم قابعون في عزلتهم، لكن وبعد أيام قليلة من تكراره صار مملا حتى وأنا أكتب عنها الآن في محاولة لتأصيلها أجدني قد شعرت بالملل قبل وضع النقطة في نهاية السطر الأخير".
أما من وسيلة لشعورنا بقيمة الأشياء إلا أن تغيب أو يغيب من يصطحبها؟.. هكذا تساءلت الناقدة والكاتبة الإماراتية صالحة عبيد غابش، ثم وجهت حديثها إلى الشمس وهي ما كانت تعنيها: "هل تعلمين أنني أشتاق إليك، فقد اعتاد نظري عليك كما اعتاد كل شيء في غرفتي فما لي في هذه الأيام أجري إليك كل صباح كطفلة كي أرى الشارع وأطمئن على الشمس وأستقبل نسائم جديدة علها تطرق تفكيري بأمل جديد، ها أنا أعيد اكتشافك وأراك أجمل لوحة على جدار غرفتي".
بين ليلة وضحاها تغير كل شيء ولا يبقى سوى مخاوف ووساوس من سوء المصير، هذا ما لفت نظر الناقدة الإماراتية آمنة عبيد وتقول: "شعرت في الآونة الأخيرة بمعنى الوطن بشكل مغاير مختلف عما كنت أعرف، أن يصير الوطن الولد الذي نفتقد والأم التي نشتاق والأب الذي غاب والأهل الذين فارقوا".
وتضيف: "اشتقنا إلى الوطن ونحن مزروعون فيه، وإلى الطرقات ونحن نخشى عليها من طرق خطواتنا عليها".
واقرأ أيضا:
الحب وجنون الحب / السعادة ممكنة..رحابة النص / السعادة ممكنة - متى يصبح المفعول به فاعلا؟!