الذين يتهمون التأريخ العربي بالدموية والوحشية، يجهلون أو يتجاهلون حقائق موضوعية سلوكية لها علاقة بالبشر منذ الأزل. ومنها أن السلطة في المجتمعات البشرية تخضع لقوانين الغاب، ولم تتمكن من البدء بتهذيبها إلا بعد الثورة الفرنسية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر.
ومنذ ذلك الوقت والبشرية تسعى للتحرر من شرائع الغاب الكرسوية، ولا زال العديد منها في قبضتها. وعندما نقرأ التأريخ العربي في وعائه المكاني والزماني، نجده أكثر إشراقا ونصوعا من سلوكيات الأمم الأخرى آنذاك.
فالعرب أقل دموية ووحشية من شعوب الدنيا الأخرى، وما قتله العرب من البشر العربي وغير العربي، لا يمكن مقارنته بما قتلته وأبادته شعوب أخرى من بعضها البعض. فتجدنا نتحدث عن حرب داحس والغبراء، وهي بين بضعة قبائل واستمرت لأربعين سنة في ذلك الزمان، وأخمدها حكيمان عربيان خلدهما زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة، التي فيها خلاصة الموقف العربي من الحرب.
بينما حرب المئة عام (1337 - 1453) بين فرنسا وإنكلترا، والتي دامت (116)، لا يتحدثون عنها، وحرب داحس والغبراء التي حصلت قبل (1500) سنة، وقتِل فيها بضعة عشرات أو مئات، لا زلنا نتكلم عنها، ونحسبها مثلبة سلوكية عربية وتمثل الطبع العربي.
وهذا مَثل من القراءات الغير موضوعية للتأريخ، والإنجراف نحو السلوك الصَدَوي، الذي يُراد لنا القيام به لتمرير إرادة الطامعين بالأمة. فتجد العديد من المغفلين يتكلمون بلغة عدوانية عن العرب، ويغضون الطرف عن مساوئ الآخرين، ويحسبون تأريخ الأمم والشعوب الأخرى ملائكي، وتأريخنا شيطاني، ومترع بالشرور.
انظروا ما يجري في الزمن المعاصر، وما يُكتب عنه بمداد اليأس والإحباط والانكسار، والتدمير الذاتي والموضوعي، فيقدمونه على أن شعوب الأرض لم تشهد حروبا أهلية، ولا طائفية ولا عنصرية، بينما القرن العشرون يزخر بالملايين التي أبيدت في الحروب الأهلية، إذ قتلت (54) مليون من البشر في العديد من شعوب العالم، وفي الحربين العالميتين قُتِل (75) مليون إنسان!!
وما تقدم ليس تبريرا لما جرى ويجري في مجتمعاتنا، وإنما لتوضيح الصورة، فعلينا أن نعيد النظر بقراءاتنا المنحرفة لتأريخنا!!
واقرأ أيضاً:
الأمة ومدرسة الديمقراطية!! / الاقتدار المنهار!! / الكراسي المعوَّقة لغويا!!