أثر الصوم في نفس المؤمن 1
3. "فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء"
روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخلت مع عَلْقَمَة والأسودِ على عبد الله، فقال عبد الله: كُنّا مع النبيّ ﷺ شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله ﷺ: "يا معشرَ الشَّباب، من استطاع الباءَةَ فليتزوج، فإنَّهُ أًغَضُّ للبصر، وَأَحْصَنُ للفرجِ، ومن لم يستطعْ فعليه بالصومِ فإنّهُ له وجاءٌ" (ورواه مسلم أيضاً في صحيحه).
إن تفوق الإنسان على جميع الحيوانات التي خلقت قبله يكمن في تحرره من الغرائز إلى حد كبير يكاد يكون تاماً، والرغبة الجنسية لدى الإنسان تنبني على أساس عضوي مرتبط بالهرمون الذكري الذي يزيد هذه الرغبة عند الرجال وعند النساء على السواء، وإن كانت النساء تحتاج إلى مقدار العشر مما يحتاج إليه الرجال من الهرمون الذكري لهذا الغرض، كما يرتبط بنشاط النواقل العصبية في المخ مع أهمية خاصة للناقل المسمى "الدوبامين"، وتنبني هذه الرغبة أيضاً على خبرات الحياة منذ الطفولة وطيلة العمر، وعلى مشاعر أخرى حيث يمكن أن يعبر اللقاء الجنسي عن قمة المودة أو على النقيض يمكن أن يعبر عن أشد العداوة والبغضاء.
والصوم وِجاء لمن لا يستطيع الباءة، أي لا يملك القدرة المالية على الزواج، وكثيرون يظنون أن الصوم يضعف الرغبة الجنسية من خلال إضعافه للجسد عموماً بتجويعه وتعطيشه، لكن هذا ليس صحيحاً، فالصوم وجاءٌ حتى لو تسحر الصائم سحوراً طيباً بحيث لا ينقص من غذائه ذلك اليوم شيئاً، والصوم وجاء حتى لو أفطر الصائم متعجلاً للفطر على أشهى الطعام وأفضله من حيث القيمة الغذائية.. والصوم لا يقتل الرغبة الجنسية عند الصائم، فقد كان الجماع محرماً في شهر الصوم حتى في الليل فوقع كثير من الصحابة في المخالفة لعدم قدرتهم على منع أنفسهم فقال تعالى لهم: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..) [البقرة: 187].
إن الزواج بما يتيحه من فرصة لإشباع الرغبة الجنسية عند الرجل والمرأة يجعل من اليسير عليهما أن يغضا البصر عن الحرام وأن يحصنا الفرج عن الزنا، لكن الإحباط الذي تتعرض له هذه الشهوة الفطرية عند الأعزب والعزباء اللذين لا يقعان في الحرام، هذا الحرمان والإحباط مع ما في أبدانهما من عنفوان وهرمونات خلقت لتحث الناس في عمر الشباب على الانجذاب والتزاوج ليستمر التناسل والتكاثر ولتتعمق المودة بين الزوجين، هذا كله يمكن أن يسبب للشاب أو الفتاة انشغالاً وسواسياً للفكر بهذه الشهوة، يجدان صعوبة بالغة في إيقافه والتحرر منه كي يتفرغا إلى ما يريدان من درس أو تحصيل أو عمل أو عبادة.. إن هذا الانشغال الوسواسي بالشهوة الجنسية يشبه انشغال فكر العاشق بمعشوقه، وانشغال فكر الجائع المحروم بالطعام حتى إنه يحلم في نومه بوجبات شهية ويكثر حديثه عن المأكولات كما بينت ذلك الدراسات النفسية، وكما يلاحظ الموظفون عند اقتراب الدوام من نهايته حيث من السهولة توريطهم بحديث لا يكاد ينتهي عن الطعام وأصنافه.
والصوم وجاء من حيث قدرته على إيقاف هذا الانشغال الوسواسي بالشهوة الجنسية، وقد لا يظهر أثره من أول يوم صيام لكن مع مرور بضعة أيام يشعر الشاب والفتاة أن بمقدورهما إبعاد الموضوع عن الذهن والتركيز على ما لديهما من مهمات، إذ لم تعد الخيالات الجنسية تقتحم عليهما الذهن والخاطر، هذا بشرط أن يترافق الصوم مع الابتعاد عن المثيرات الجنسية، إذ إن وجد المثير وجدت الشهوة حتى في حال الصوم، وهذا ما يجعل عامة الناس لا يحبذون زواج الشباب قبيل رمضان أو خلاله لصعوبة ضبط النفس مع وجود المثير وعدم وصول هذين الشابين إلى قدر من الإشباع الذي يتمتع به المتزوجون عادة، أما الآلية التي يقوم الصوم من خلالها بتأثيره هذا فما زالت تنتظر الباحثين المسلمين كي يكتشفوها.
ثم إن الصوم وجاء من حيث هو عبادة مستمرة من الفجر إلى الغروب، إن نسي الصائم أنه متلبس بها للحظات، ما يلبث أن يتذكر ليعود إلى جو العبادة وغض البصر وحفظ اللسان. ويبقى للزواج الأفضلية، إذ لم يخلق الله فينا الشهوة ليعذبنا بها، لكنه أمرنا أن لا نشبعها بالحرام.. فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجـــاء.
4. "فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِم"
قال رسول الله ﷺ: "كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ لهُ، إلَّا الصُّومُ، فإنَّهُ لي، وأنا أَجْزِي بهِ، والصِّيامُ جُنَّةٌ، فإِذَا كان يومُ صِيامِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّهُ أحدٌ أوْ قاتَلهُ فَلْيَقُلْ: إِنِي صائِمٌ.." (متفق عليه).
لقد كتب الله علينا الصيام في رمضان ليدربنا على التقوى ويجعلنا نجربها ونتذوقها، فننطلق من رمضان في رحلة تقوى تستمر طيلة العمر عاماً بعد عام، وفي كل عام نزداد تقوى لله من خلال صيامنا رمضان آخر.. ولا تكتمل تقوى المؤمن إلاّ بكظم الغيظ، إذ به يتجلى التحكم بالنفس وضبطها في جانب آخر غير الطعام والشراب والشهوة الجنسية، إنها شهوة الانتقام للنفس عند تعرضها لجهل الجاهلين واعتداء المعتدين، وهي شهوة مشروعة طالما بقي المؤمن عادلاً يعاقب بمثل ما عوقب به، فلا ينتقم ممن اعتدى عليه انتقاماً يفوق الإساءة التي تعرض لها فيصبح هو ظالماً لمن بدأه بالعدوان.. ولكننا في الصيام نمتنع عما أحل الله لنا من طعام وشراب وشهوة، ونمتنع معها عما أحل الله لنا من انتقام عادل لأنفسنا، وهو وإن كان امتناعاً مؤقتاً من الفجر إلى الغروب، لكنه يزيدنا قدرة على الامتناع الدائم عما حرم الله علينا من شهوات فيها الإثم والضرر.
وفي رمضان يزداد المتقون حسن خلق، ويكظمون غيظهم فيكون صومهم أقرب ما يكون إلى الكمال، إذ لا قيمة للامتناع عن الطعام والشراب ما لم يرافقه حسن الخلق والامتناع عما يغضب الله من قول أو عمل، فقد قال النبي ﷺ: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ" (رواه البخاري). لكن المؤسف أن البعض يزداد سوء خلق إذا صام في رمضان، ويقل صبره على أهله أو الناس الذين يتعامل معهم في عمله، ويحتج بأنه صائم وليس مستعداً لأن يتحمل أحداً.. إنه لا يصبر على مسبة أو مقاتلة، بل يثور في وجه من قد يلح عليه إلحاحاً بسيطاً طالباً منه حاجته، وصاحب الحاجة أرعن كما يقولون بحكم حرصه على حاجته.. ولو صح أن الصوم عن الطعام والشراب يؤدي إلى سوء الخلق لما كتبه الله علينا ليعلمنا التقوى من خلاله، ولو صح أن الجوع والعطش يجعلان الإنسان سيئ الخلق، لكنا قبلنا ذلك آخر النهار لا أوله، فالموظف الذي يسيء معاملة مراجعيه منذ الصباح الباكر مُتَعَلِّلاً بأنه صائم، لا يمكن أن يكون الجوع والعطش سبباً لسوء خلقه وبخاصة إن كان قد تسحر كما يفعل أكثر الصائمين.
قد يكون لدى البعض أسباب للعصبية في الصيام، لكن البعض الآخر يستفيد من رمضان كي يعطي نفسه هواها ويظهر غضبه وسوء خلقه مطمئناً إلى أن الصيام عذر مقبول، حيث يتسامح الناس معه على سوء خلقه أولاً لأنهم خير منه، فقد صـاموا عن الغضب وسوء الخلق مثلما صاموا عن الطعام والشراب، وثانياً لأنهم يحسنون الظن به ويصدقون أنه معذور حقاً في أن يكون سيئ الخلق بسبب الصيام، وهو لسوء خلقه المتأصل فيه يستغل هذه الفرصة ويظهر قلة أدبه.. ومثل هذا المؤمن الذي لم يكتمل إيمانه بعد مدعو لمراجعة نفسه والتذكر أن من الخير له أن يرضي ربه ويحسن خلقه ليدخل في عداد المتقين الذين تنتظرهم جنة عرضها السماوات والأرض.
من كتاب سكينة الإيمان ط2
تأليف الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في مركز
كيور كير في جدة في السعودية
ويتبع: أثر الصوم في نفس المؤمن 3
واقرأ أيضا:
الهُوال_2 PTSD: / سيكلوجية الإيمان والكفر9