يمكنُ تعريفُ هذا الاضطراب بوجهٍ عامٍ بأنهُ الأكلُ المستمرُّ بإفراطٍ، إلى جانب الانخراط في نوبات الدقر أحيانًا، دونَ اللجوءِ إلى السلوكيات المعدلة الموجودة في مرضى النهام، وهناكَ من يعرفونهُ بأنهُ إدمانُ الأكل، إذ نرى المرضى يستخدمونَ الأكلَ للتعاملِ مع مشاعر الضيق والملل والخواء التي يعانونَ منها إما بصورةٍ مزمنةٍ أو على شكل نوبات، وكأنهم يملئونَ بالطعامَ فراغهم النفسيَّ العاطفيَّ أو يعتبرونهُ بمثابةِ التعويض أو الثأرِ، وهم عادةً يستخدمونَ الأغذيةَ السهلةَ الطريةَ والتافهةَ من ناحيةِ قيمتها الغذائيةِ وإن احتوتْ على سعراتٍ حراريةٍ عاليةٍ بسببِ ما فيها من السكريات والدهون، ويبدو الشخصُ وكأنهُ يتجنبُ مواجهةَ مشاعره، فيلهي نفسهُ بالأكل، مواجهًا به الغضبَ أو الحزنَ أو الإحباط، ومعظم مرضى القشم القهري يعانونَ من البدانة لكنَّ هذا لا يعني أن كل بدينٍ يعاني من القشم القهري.
والتفريقُ بينَ إدمان الأكل أو اضطراب القشم القهري Compulsive Overeating Disorder واضطراب نوبات الدقر Binge Eating Disorder ، ليسَ واضحًا في الأبحاث المنشورة حتى الآن، وهناكَ من يستخدمونَ تعبيرَ القشم القهري وتعبيرَ نوبات الدقر وكأنهما اسمان مختلفان لاضطرابٍ واحد (Davis,1999) في حينِ أن هناكَ من يصفُ هذين الاضطرابين على أنهما اضطرابان مختلفان (Lisa,2002)، كما أن هناكَ من يعتبرُ أن القشم القهري هو الاسمُ القديمُ الذي كانَ يطلقُ على مرضى اضطراب نوبات الدقر قبل أن يسمَّى بهذا الاسم، ونظرًا لوجود بعض الاختلاف في وصف أعراض هذين الاضطرابين ورغم معرفتنا بإمكانية رجوع ذلك إلى كوننا نتكلمُ عن اضطرابات لم يكتمل فهمنا لها بعد، إلا أننا فضلنا تقديم وصفٍ منفصلٍ لاضطراب القشم القهري، خاصةً لوجود من يرجعون إدمان الأكل الآن إلى وجود الحساسية تجاه صنفٍ معينٍ من الأطعمة كما بينا في مقال إدمان الأكل (Food Addiction). ولننظر أولاً إلى التاريخ المرضي التالي والذي سيبين لنا أننا قد نحتاج لافتة تشخيصية جديدة.
"حديقة المانجو"
لم يكن سلطانُ يرى أنه يحتاجُ إلى استشارة طبيبٍ نفسي، فهو رجلٌ ناجحٌ في عمله موفور الرزق ومرموقٌ من الناحية الاجتماعية، لكنها زوجته هي التي كانت تشكو من بدانته! وكانت قد سمعت في إحدى الفضائيات برنامجًا عن نوبات الأكل الشره وهو ما تراه في زوجها منذ تزوجته، وقد أشارت مقدمة البرنامج وأكد الضيوف أن الأمر له علاقةٌ بالنواحي النفسية لا سيما الاكتئاب وأن عواقبه الجسدية والنفسية خطيرة جدا، ولما كانت تحبُّ زوجها ولا تعرفُ لها سندًا في الدنيا سواه فقد أصرت على اصطحابه للطبيب النفسي.
وعندما بدأ الطبيب النفسي حواره مع سلطان سألهُ عن ما تسميه زوجته بنوبات الشره، فقال سلطان: لا أستطيع اعتبارها نوبات فأنا هكذا دائمًا آكلُ كثيرًا، صحيحٌ أنني أمام إغراء بعض الأصناف لا أستطيعُ تمالك نفسي فآكل حتى أكادُ أنفجر وأحيانًا أخافُ من عدم القدرة على التوقف عن الأكل لكنني لا أرى ذلك مرضًا نفسيا، وصحيحٌ أنني سمينٌ كما ترى لكنني أحفظ هذا الوزن منذ سنين أي أنني لا أرى المشكلة تتفاقم، عمري الآن 38 عامًا ولدي شركةُ استيرادٍ وتصدير وثلاثةُ أولاد، ومنذ بدايات شبابي وأنا سمين هكذا لا والله بل ومنذ سنين طفولتي!
وزوجتي التي تشتكي الآن من بدانتي كانت تقول لي حتى عهد قريبٍ أنها عندما ارتضني زوجًا لها كان أهمُّ ما جذبها لي هو بدانتي وطولي فقد كانت ترى البدانةَ وقارًا للرجل ودليلاً على حنانه ومشاعره الفياضة نعم هذا كانَ رأيها، وكانت دائمًا تقولُ لي أنها تشعرُ بالسعادة عندما تجهز لي الطعام الذي آكله إلى حد الامتلاء، وأنها تحب شعورها بالغرق عندما تضعُ رأسها على صدري! هيَ نفسها الآن التي أصبحت تقول لي الآن أنني أثقل من المحتمل!
وهنا قالت زوجته أرجوك يا سلطان قل كل شيءٍ للطبيب فلستُ وحدي التي تشكو من بدانتك وتريد منك تخفيض وزنك فطبيب القلب أيضًا يطلبُ ذلك منك كل مرة ويقولُ لك أنهُ يريدُ تقليل جرعة عقار علاج الضغط المرتفع، وينصحك بأن تتجنبَ الدهون وأنت تعرفُ أن نسبة الكولسترول لديك مرعبة يا سلطان وأيضًا حمض البوليك، ثم أنني تعبتُ من تعليقات صديقاتي وزوجات أصدقائك مثل كيف تتحملين كل هذا الرجل؟ ومثل لابدَّ أنك تطبخينَ لهُ خروفًا كل ليله!، فطلبَ الطبيبُ النفسي من الزوجة أن تخرجَ لأنهُ يريد التحدثَ مع زوجها على انفراد فقامت من مكانها واتجهت إلى الباب ثم قالت: ولكن أريدُ فقط أن أخبركَ بأنني منذ حوالي شهرين كنت قد بدأتُ في تعمد تقليل كميات الطعام التي أضعها له وأحاولُ إلهاءهُ عن الأكل قدر استطاعتي ولا أنكرُ أنهُ كانَ يستجيب لي ويساعدني، ولكن النتيجةَ كانت أنهُ يقومُ بعد ساعتين أو ثلاثة من نومه لكي يأكلَ كل ما يجدهُ في الثلاجة، وهذا أكدَ لي أن الأمر يحتاجُ إلى معونة طبيبٍ نفسي خاصةً وأن سلطان يرفضُ رفضًا قاطعًا أن يزور طبيب السمنة!.
وبعد خروج زوجته سألهُ الطبيب النفسي: ألم تحاول منع نفسك من الإكثار في الأكل يا سيد سلطان؟ فأجابَ: بالطبع حاولت لأنني أشعرُ أن الأمرَ زائدٌ عن الحد ولكن المشكلةَ أنني عندما أفعلُ ذلك تمتلئُ رأسيَ بالتخيلات وأنفيَ بالرائحة وحلقيَ بالطعم ولا أستطيعُ إلا أن أستسلم للأكل حتى أنني أجدُ نفسيَ آكلُ أكثر حين أحاولُ منع نفسيَ من ذلك، ولكن هذا مرتبطٌ ببعض الأطعمة ولم يبدأ حدوثهُ معي إلا وأنا في المرحلة الثانوية من الدراسة، مثلاً كنتُ أسرفُ في تناول دهون الضأن رغم ما تسببهُ لي من إسهال، لن تصدق أنا كنت آكلُ مؤخرةَ الكبش كلها وحدي مع بعض الأرز وربما بالخبز والملح، ولا أستطيعُ منع نفسيَ من ذلك حتى أنني أحجمت تماماً عن نحر الخراف لكي لا أدخل نفسيَ في تلك الدوامة؛
وأيضًا يحدثُ ذلك مع أطعمةٍ مثل كعكة البلاك فورست ومثل الكريم كراميل، ومثل الأرزُ بالزبيب والمكسرات، والمانجو التي تقول زوجتي الحمد لله أنها فاكهةٌ موسمية وإلا أصابتك بداء الكلى، فسألهُ الطبيبُ ولكن بأي شيءٍ تشعرُ بعد التهام مثل هذه الكميات، فأجاب: ربما بالخجل فقط، وإن كنتُ في الماضي كنت أحسُّ الفشل أيضًا ولكنني لم أعد أحاولُ منع نفسيَ لكي لا أحس بالفشل، ولكن الغريب هو أنني لاحظتُ زيادةَ معدلات الأكل وزيادةَ عجزيَ عن ضبط نفسي في أوقات زيادة الضغوط عليَّ في العمل أو في العائلة، الأكل يريحني جدا بل يسعدني كثيرًا في الواقع.
وهنا سألهُ الطبيبُ: لقد قلت يا سيد سلطان أن مشكلتك مع الأكل بدأت منذ الطفولة فهل يمكنُ أن تخبرني كيف كان ذلك؟ فأجاب سلطان: أنا لم أسمها مشكلةً بعد ولكن ما علينا من الأسماء، لقد ربيتُ في بيت عائلةٍ كبيرة لأننا كنا نعيش في قريةٍ صغيرة، وأبي رحمةُ الله عليه كانَ أصغرُ إخوانه، وكنتُ أنا أكبرُ أولاده لكنني أصغرُ من كل أولاد أعمامي، كنا أثرياءَ بحق وكانت أمي رحمة الله عليها تريدني أن أكبرَ بسرعة وأن أكونَ أقوى من الجميع ولذلك كنتُ آكلُ كثيرًا، وكانت النتيجةُ بالفعل أنني كنتُ أكبر حجما من من يكبرونني بسنتين وثلاث سنين، وأذكرُ أمثالاً كانت أمي تعلمها لي مثل "كل أكلَ الجِمال وقم قبل الرجال" ومثل "أنك إن نمتَ دون عشاءٍ فإن عرقًا في القفا سيسألكُ: العشاءُ أينَ العشاء"، وذلك بعد أن يوقظك من نومك بالطبع، هكذا كانت أمي تقول دائمًا وأنا كنتُ أصدقُ ما تقوله جدا خاصةً وأن نتيجتهُ كانت واضحةً لي فقد كنتُ أطولَ وأقوى وأمتن من كل أقراني في البيت وفي المدرسة وكان الكل يحسبُ ألفَ حسابٍ لي.
وبينما كانت أمي تدفعني إلى الأكل دفعًا، لم يكن أبي يشاركها في ذلك الرأي وكان يحاول منعي من ذلك، خاصةً وأنهُ كان يرى فيما أفعلهُ دليلاً على الطمع والجشع، وكثيرًا ما كانَ يقول لي أمثالاً مثل "هل تريدُ أن تصبحَ مثل أشعب" ومثل "إذا امتلأ البطن فرغَ العقل"، ولكنني في الحقيقة لم أكن أرى ما يؤيدُ كلامه فقد كنتُ متفوقًا في المدرسة وفي اللعب وكنتُ أشجع من الجميع وإن لم أحتج الشجاعةَ كثيرًا لأن أحدًا لم يكن يجرؤ أصلاً على الصدام بي، المهم أن أبي لم يكن ذا أثرٍ كبيرٍ لأنهُ كان يعملُ بالعاصمة ويسافرُ يوميا فيفطرُ وأنا نائم ويتناول عشاءهُ كذلك وأنا نائم ولم يكن يتناول الغذاء في البيت عدا يوم الجمعة وفي الأعياد، ولكنني عندما بلغتُ وانتقل والدي إلى عملٍ في بلدٍ قريب ثم انتقلنا من قريتنا إلى بيتٍ منفردٍ في ذلك البلد، وأصبحَ والدي يأكلُ وجباته الثلاثة معنا، في تلك المرحلة أصبحت كلماتهُ وتعليقاته على كمية وطريقة أكلي تضايقني بحق خاصةً أمام الآخرين من أقراني، وصلتُ إلى اتفاقٍ مع أمي أن آكلَ سرًّا في المطبخ قبل موعد الطعام الرئيسي مع الآخرين وكنتُ بهذه الطريقة آكلُ ما بينَ خمسة وستة مرات يوميا! ورغم ذلك لم أكن أسلمُ من تعليقاته! لأنني كنت مهما حاولتُ الأكل ببطءٍ أعجزُ عن الاستمرار، فيعترضُ أبي ويزيدُ شعوريَ بالعجز وبالفشل فآكلُ أكثر لكن في السر فقط.
المهمُ يا سيدي أنني تجاوزتُ ذلك كله وتفوقت والحمد لله في كل شيء ونجحتُ في حياتي كما ترى، ولم تثر مشكلةُ الأكل هذه إلا عندما فاجئني ابن أخي وهو طالبٌ في كلية الطب بينما كانَ يتدربُ على قياس ضغط الدم وسماع القلب والصدر، بأنني لابد أن أستشير طبيبَ القلب وليتهُ ما قال ذلك على الأقل أمام زوجتي التي بدأت تغير كل ما اعتدته منها منذ زيارة طبيب القلب الذي قال أنني أعاني من ارتفاع ضغط الدم ومنذ فترةٍ طويلةٍ إلى الحد الذي بدأ يؤثرُ على بطين القلب الأيسر، ومن يومها وأنا أتناول عقَّارًا يسببُ الصداع ولا أستطيعُ عدم تناوله! أنا لستُ مجنونًا فيما أقول ولكن أنا أعرفُ أن المرض هو الشكوى وأظنُّ هذا منطقيا جدا! وأنا لم أجد لدي ما أشتكي منه قبل تناول الدواء أصلاً وعندما اشتكيتُ لطبيب القلب قال لي أنها بعض الآثار الجانبية وسوف تزول، ولكنها لم تزل كما كانَ يقول وما زال الصداع يعاودني بعد تناول الدواء بفترةٍ أكثرَ الأيام.
لقد قرأت زوجتي كثيرًا عن البدانة وأضرارها الطبية منذ ذلك الحين فرغم أنها لا تسمنُ أبدًا رغم حملها وولادتها لثلاثة أولاد، إلا أنها اتخذت من البدانة شغلها الشاغل وكم أسمعتني من المحاضرات، فهيَ أصبحت تحسُّ بالذنب لأنها شجعتني على الإفراط في الأكل طويلاً كما تقول! مع أنني دائمًا أردُّ عليها بأنني لم أكن منذ تزوجتك في حاجةٍ إلى من يشجعني، فأنت أعظمُ فاتحٍ للشهية "ثم أنا أصلاً مفتوح الشهية منذ طفولتي"، وهنا سألهُ الطبيبُ: ولكنني أريدك أن تصفَ لي مشاعركَ أثناء نوبات الأكل تلك وبعدها؟
فأجاب سلطان: أثناءها متعةٌ ممزوجةٌ بالخجل وبالخوف، وإن كنتُ أحيانًا مثلاً وأنا مصابٌ بالرشح والزكام آكلُ بشراهةٍ دونَ أن تكونَ قدرتي على التذوق على ما يرام حتى أنني أستغربُ ذلك من نفسي، وأما الخجل فيتعلقُ برأي الآخرين في طريقة أكلي فأنا آكلُ بكلتا يديَّ ولو استطعتُ استخدام رجليَّ لفعلت، ولكن ذلك فقط مع أصنافٍ معينةٍ كما ذكرت، وأما الخوفُ فمن معدتي وأمعائي بعد الأكل فأنا دائمُ المعاناة من التهابات جدار المعدة وعسر الهضم، وإن كان لكل علاجه والحمد لله، وأما ما بعد الأكل فهو الخوف من النوم قبل أن تتخلص معدتي مما فيها لكي لا تعذبني الحموضةُ أثناء النوم.
ثم تابع كلامه: لكي لا أطيل عليك يا سيدي الطبيب أنا باختصارٍ شديد أشتكي فقط من الصداع بسبب عقار الضغط، وغير مستعدٍ للتخلي عن متعة الأكل! لأنني غير مستعدٍ لإلقاء نفسي في دوامةٍ من التوتر والقلق والرغبة الملحة في الأكل والتي دائمًا ما تنتهي بالفشل وأنا جربتُ ذلك مراراً، وحتى إن فعلت ذلك في النهار وحرمتُ نفسي استجابةً لضغط زوجتي، حتى لو نجحتُ في ذلك بالنهار فإنني أقوم في الليل وأنا نصف نائم وآكل دون ما حتى وعيٍّ بالمتعة! ثم أن النوبات التي تتكلمُ عنها زوجتي تحدثُ فقط مع بعض أنواع الطعام كما ذكرت، أنا فقط يمكنُ أن آكلَ دونَ قدرةٍ على التحكم في نفسي عندما تتوفرُ لي بعضُ الأصناف ولا أنكرُ أنني أستمتعُ بذلك وربما أعدُّ له حتى أنني اشتريتُ حديقةَ مانجو، آكلُ منها طوال موسم الحصاد، ولكن متى كان ذلك مرضًا؟ وأنا لا مانعَ لديَّ من تقليل وزني مادام الكل يرى ذلك وخاصةً طبيب القلب الذي يقولُ أنهُ قد يستطيعُ إنقاص جرعة عقار الضغط إذا حدثَ هبوط في وزني! ولكن هل لديك طريقةٌ لتقليل وزني دونَ أن أتخلى عن متعة الأكل؟
وتظهرُ في هذه الحالة صورةٌ من صور اضطرابات الأكل أقربُ إلى الاندفاعية والتسيب منها إلى التحكم، ونجدُ الشعورَ بالقهر متمثلاً فقط في القهر تجاه التهام كمياتٍ مفرطةٍ من الطعام وربما يصل الأمرُ إلى حد الدقر فقط تجاه بعض الأطعمة (إلا أن من الملاحظ أن غياب اهتمامه بصورة الجسد ووزنه ربما خففَ من إحساسه بالذنب تجاه الأكل، فنحنُ نجدُ خوفًا من رد فعل الجهاز الهضمي أكثرَ مما نجدُ من الشعور بالضيق والذنب والفشل بعد نوبة الدقر مثلما هو الحال في مرضى اضطراب نوبات الدقر)، كما أننا نجدُ في حالة سلطان هذه ما يمكنُ اعتبارهُ تطبيعًا خاطئًا بدأ منذ الطفولة دونَ إدراك من الأم صاحبة النية الحسنة بالتأكيد، ثم نجدُ ما يذكرنا بأفكارٍ ربما تناقصت أو لم تعد موجودةً بينَ الأطفال في أيامنا هذي مثل أن البدانةَ دليل الصحة والقوة، ويلاحظُ الغياب التام للانشغال بصورة الجسد وعدم الاستعداد للانخراط في الحمية، مع وجود ما يشيرُ إلى اللجوء الواعي واللا واعي للأكل لتحسين المزاج والتعامل مع الكروب، وهو ما يذكرنا بتشخيص "فرط الأكل المصاحب باضطرابات نفسية أخرى Overeating Associated with Other Psychological Disturbances"، وإن كانت حالة سلطان تحتوي على العديد من الظواهر التي تجعل مثل هذا التشخيص غير كاف.
الصورةُ المرضيةُ لاضطراب القشم القهري
يبدأ اضطرابُ القشم القهري عادةً في سن الطفولة أو المراهقة (بينما يبدأُ اضطراب نوبات الدقر عادةً في سنٍّ أكبر) ويستمرُّ بعد ذلك بشكلٍ مزمن، وقد يعاني المريضُ على المستوى المعرفي من تأثير ذلك على جسده، وقد تدورُ حياتهُ كلها حولَ الأكلِ وحولَ ما يسببهُ له من مشاكل، إلا أنهُ عادةً ما لا يكونُ مستعدًا للتخلي عن متعة الأكل، فهوَ حتى عندما يريدُ ضبط الجسد عادةً ما يريد ذلك دونَ حرمان نفسه من الأكل، كما أن كثيرين من مرضى القشم القهري من الرجال على عكس مرضى القهم والنهام (Goldner,1984) فأغلبهم من النساء، ولعل الصورةَ الأقربَ للحقيقة هيَ أن اضطراب القشم القهري ليسَ إلا صورةً من صور اضطراب نوبات الدقر لكن المريض يسرفُ في الأكل بصورةٍ عامةٍ حتى في غير نوبات الدقر، ولا يحاولُ أن يدخلَ نفسه في متاهات الحمية لأنهُ لا يطيقُ الالتزام بها.
مناقشةٌ لمفهوم إدمان الأكل
اضطراب القشم القهري يسميه البعضُ أيضًا إدمان الأكل Food Addiction، والواضحُ أن استخدام تعبير القشم القهري أو إدمان الأكل هو استخدامٌ في غير موضعه وأنهُ قد يضرُّ أكثرَ بكثيرٍ مما قد يفيد، لأن نوبات الدقر (وهي أحد تجليات إدمان الأكل في كثير من الأحيان)، تجعل من الصعوبة بمكان أن نستخدم أساليب علاج الإدمان الحالية في علاج إدمان الأكل، ونوبات الدقر أيضًا موجودة في معظم اضطرابات العلاقة بالأكل سواءً صاحبتها سلوكيات معدلةٌ منتظمةٌ كما في اضطراب النهام العصبي Bulimia Nervosa أو غير منتظمة كما في اضطراب نوبات الدقر (Binge Eating Disorder) أو لم تصاحبها مثل هذه السلوكيات كما في اضطراب القشم القهري، وذلك بالرغم من كوننا نعرفُ أن الأغذية المعالجة أو المصنعة والتي تمثلُ معظمَ غذاء الناس في هذا العصر، إنما تحتوي العديد من المواد النفسانية التأثير والتي تسببُ الإدمان بالفعل كما سبقَ أن أشرنا في مقال إدمان الأكل، ولكن لأن الإصلاح في هذه الحالة ربما يكونُ بتطبيع المأكول قدر استطاعتنا أي أن نختار من الأغذية ما يكونُ أقربَ إلى هيئته التي خلقها عليه الخالق سبحانهُ، إذن فقد نحتاجُ إلى تطبيع المأكول كما نحتاج إلى تطبيع العلاقة مع الأكل في هؤلاء المرضى.
هل اضطرابُ القشم القهري لافتةٌ تشخيصيةٌ جديدة؟
لعلني أستطيعُ في نهاية هذا العرض ومستندًا إلى الملاحظات والنظريات الخاصة بإدمان الأكل الناتج عن الحساسية له أو الناتج عن محتويات الأغذية الحديثة (المعالجة والمجهزة سلفًا)، ومتجاهلاً في نفس الوقت للتباينِ والاختلاط الموجود في المقالات والأبحاث التي قرأتها في الموضوع، والتي تخلطُ بينَ اضطرابي نوبات الدقر والقشم القهري أو تعتبرهما شيئًا واحدًا كما ذكرنا من قبل، بل وكان مفاجئا لي وأنا أجهز المقال للعرض على مجانين، أن الثلاثة روابط الموجودة في مراجعي الثلاثة المذكورة هنا، قد اختفت من على الإنترنت، ولا أدري إن كان أصحابها من العلماء قد غيروا رأيهم العلمي؟ وأحمد الله أنها صفحات مسجلة على جهاز العبد لله.
إذن أستطيعُ أن أجعلَ هذه اللافتة التشخيصية المسماة باضطراب القشم القهري Compulsive Overeating Disorder مقصورةً على المرضى الواقعين في شرك الاستسلام المزمن لشهوة الأكل باستمرارٍ إضافةً إلى معاناتهم من نوبات الدقر أحيانًا دونما اللجوء إطلاقًا إلى السلوكيات المعدلة (لأن أمثال هؤلاء موجودون في مجتمعاتنا، منفلتونَ تمامًا تجاه الأكل ولا تعنيهم أوزانهم أو صور أجسادهم كثيرًا، حتى وإن عانوا من أمراضٍ تزيدُ السمنةُ من خطورتها)؛
وربما يكونُ بين هؤلاء من يعانون من الحساسية وربما الإدمان لبعض أنواع الأطعمة، وهو ما قد يعطي تفسيرًا جزئيًّا لشعورهم بالقهر تجاه المأكول، أي أنني أستثني منهم أولئك الذين يلجئون للسلوكيات المعدلة أو للحمية المنحفة لكي يمثلوا فئةً تشخيصيةً تقعُ ما بينَ النهام العصبي وبينَ اضطراب نوبات الدقر، بحيثُ يكونُ الانفلات تجاهَ الأكل قهريا في الحالتين بينما يكونُ اللجوءُ للسلوكيات المعدلة (التفريغية وغير التفريغية) قهريا ومنتظمَ الحدوثِ فقط في حالات النهام بينما هو اختياري وغير منتظم الحدوثِ في حالات نوبات الدقر، وأما مرضى اضطراب القشم القهري حسب رأييَ الشخصي فهم من يفرطونَ في الأكل باستمرار وتحدثُ لهم نوبات دقرٍ أحيانًا لكنهم لا يلجئونَ للسلوكيات المعدلة، ويتعلقُ القهر عندهم فقط بالتهام الأكل كما يظهرُ من الشكل التالي (شكل –1-)، الذي يبينُ تورزعَ اضطرابات الأكل النفسية التي تحدثُ فيها نوبات الدقر على متصل التحكم التسيب فيظهرُ اضطرابُ القشم القهري أقربَ هذه الاضطرابات من طرف الاندفاعية والانفلات والمخاطرة.
وأحسب أنني أنتظر آراءكم حول هذا المطروح في المقال لنفكر معا، فشاركونا يا مجانين.
المراجع العلمية:
1- Davis, B. (1999) : What’s Real, What’s Ideal: Overcoming a Negative Body Image. New York: Rosen Publis. Group, Inc
2- Goldner, V. (1984): Overeaters Anonymous. In A. Gartner & F. Riessman (Eds.), The self-help revolution (pp. 65-72). New York:Human Sciences Press.
كذبٌ واكتئابٌ داخلي: في عبادة الصورة / الجوع والشهية ومعامل الشيع / رؤية المرأةِ لجسدها من منظور اجتماعي