يُّعد الحمل والولادة عمليتان طبيعيتان، وكبقية الظواهر الطبيعية لهما قانون ونظام وتوازن خاص بهما، والذي يمكن أن يُهدّد بتداخلات intervention في أوقات غير مناسبة، لذلك يجب دراسة أي تدخل أكان- طبي أو غير طبي- قبل الإقدام عليه، ويجب الأخذ بعين الاعتبار الفوائد المتحصلة عنه ومقارنتها بالمضار المترتبة عليه. وبشكل عام تختلف نظرة الأطباء من مجتمع إلى آخر في اعتبار الحمل والولادة عملية طبيعية أو مرضية، ففي فرنسـا وإنكلترا وهولندا يُنظر بثقة إلى الحمل والولادة على أنهما عمليتان طبيعيتان، مما يؤدي إلى الاعتماد بشكل كبير على القابلات والولادات خارج المشفى، وبالتالي الإقلال من استعمال الأدوية والتداخلات القيصرية وخزع الفرج الوقائي خاصة عند الخروس (الولادة الأولى للمرأة)، وهذا يعطينا حملاً خالياً من الأعراض Free Pregnacy Symptom - ونسبة أعلى من الولادات الطبيعية، وكذلك نسبة أقل من الوفيات الوليدية (وفيات المواليد)، وهناك تزايد في هذا الاتجاه في الولايات المتحدة الأميركية، إذ انخفضت نسبة التداخلات على الولادة وانخفضت نسبة نسبة استعمال الأدوية وازدادت نسبة الولادة الطبيعية في المنزل وبمساندة ومشاركة من الزوج في عملية الولادة، كما ويلاحظ الاهتمام الزائد بالولادة في المنزل في أمريكا من خلال إستحداث برامج تدريبية واسعة ومعاهد أيضاً لتخريج القابلات…
أما في الوطن العربي عموماً وسـوريا ولبنان خصوصاً، فينظر إلى الحمل والولادة كعملية طبيعية،كانت تتم دون رقابة صحية سابقاً، إلا أنه في السنوات الأخيرة ازدادت الرقابة الصحية للحمل والولادة بشكل ملحوظ خاصة في المدن الرئيسة، لكن -مع الأسف- خزع الفرج أكان عند الخروس أو الولود أصبح طريقة دارجة يلجأ إليها معظم الأطباء النسائيين تحت شعار عدم تمزق النسيج ومساعدة الجنين على العبور من القناة التناسلية.. وهناك ظاهرة بدأت تنتشر وتستدعي الانتباه وهي ارتفاع حالات الولادة القيصرية دون مبرر طبي خاصة في أوساط المثقفين، وكذلك التخدير القطني الذي يلجأ إليه بعض الأطباء تحت شعار الولادة دون ألم.
على كلٍّ - أعتقد أن المجتمع وخاصة الكادر الطبي يمكن أن يساهم في تجربة الحمل والولادة، ويزيد من فرص الولادة الصحية Healthy Birth، لأن الرجل والمرأة قد يتقبلان بأن الحمل والولادة هما عمليتان طبيعيتان، لكنهما لا يثقان بقدرة أجسـامهما على إتمام وضع طفل سليم وذلك لأن المرأة على عكس بقية الكائنات الحية الولودة لا تعرف بالفطرة كيف تقدم المساعدة لجسدها أثناء الولادة، وتعتمد مع زوجها بدلاً من ذلك على الفهم الاجتماعي لهذه العملية.
ويجب أن أنوه إلى أن أي تدخل غير مناسب يمكن أن يبعد العملية عن مسارها الطبيعي ويزيد من حدوث ولادة فاشلة (متعسرة) وحتى فيما بعد نشوء عائلة مفككة، وكلما تفهمنا الطبيعة البيولوجية والفيزيولوجية والنفسية للحمل استطعنا تقدير اختيار تأثير أي نوع من التدخل وبالتالي اختيار ما هو مناسـب ومفيد للزوجين والعائلة والوافد الجديد..
الحمل كفترة من التغيرات والأزمات
يمكننا النظر إلى الحمل على أنه فترة مليئة بالتغيرات السريعة غير المسيطر عليها، سواءً من ناحية التطور الفيزيائي أو الحالة العاطفية، وكذلك تغير العلاقة الزوجية ما يؤدي إلى تحول واضطراب في أنماط الحياة العادية. إن كل زوجين يسـتجيبا لهذه التغيرات بطريقة مختلفة تعتمد على نشـأة وتطور كل منهما وطريقته السـابقة في الاسـتجابة للتغيرات، كما وتعتمد على طبيعة العلاقة الزوجية بينهما وعلى الدعم الذي يلقاه الزوجان في هذه الفترة.
فخلال هذه الفترة يتقلب مزاج Mood Swing الزوجة الحامل أكثر مما هو عليه عادة، إذ تبدو مرحة أحياناً وهادئة أحياناً أخرى، أو ساهمةً Reflective (شاردة الذهن في التعبير الشعبي)، لدرجة أنها تكون منسحبة من المجتمع Withdrawn ، ومتوترة وقلقة أحياناً أخرى، وتتبدل رغبتها الجنسية بشدة، اذ يمكن أن تثار جنسياً بسهولة في مناسبة ثم بعدها بفترة قصيرة جداً تفقد كل اهتمام جنسي!. والمرأة الحامل، تنظر إلى نفسها وحاجاتها بأهمية أكبر وتطالب بتحقيق رغباتها وحاجات لم تكن تحقق لها سابقاً.
أما الزوج فتكون هذه الفترة مجهدة له ومليئة بالتوتر Time Of Strain والقلق بسـبب التغيرات الفيزيائية والعاطفية والجنسية عند زوجته، وهو مطالب بدعمها عاطفياً طوال الوقت، إضافة إلى التحول المرتقب في دوره الاجتماعي كونه سيصبح أباً. لهذا يصبح الزوج حساساً لهذه التغيرات، ولهذا يمكن أن يعتبر انسـحاب زوجته العاطفي والجنسي رفضاً شخصياً له Personal rejection فيتأرجح موقفه نحو ذلك بين تلبية جميع رغبات زوجته المذبذبة أو الانسحاب الكامل من هذا الواقع إلى الانغماس التام بالعمل أو ممارسة رياضة ما أو حتى العبث الجنسي خارج المنزل.
وعلى الرغم من اختلاف ردة فعل كلا الزوجين في فترة الحمل إلا أن هناك أموراً أساسية يتفق عليها الجميع دون اسـتثناء، فعلى الزوجين مواجهة تغيرات هامة في حياتهما والتكيف مع دورهما الجديد كأبوين، هذا الدور الذي يبرر مخاوفهما من عدم القدرة على أدائه بشكل جيد، وعليهما أيضاً التكيف مع التغير الحاصل في علاقتهما Shift In Their Relationship والذي يقضي عادة بزيادة اعتماد الزوجة عاطفياً ومادياً على زوجها.
ونظراً لأن فترة الحمل مرحلة تحمل بعض المخاطر التي قد تصل إلى تهديد حياة المرأة الحامل، فعلى الزوجين تهيئة نفسيهما للدخول في تجربة ربما تكون مؤلمة، ويسـيطر عليها الخوف من إنجاب طفل مصاب لدرجة أنهما يتمنيان عدم الدخول في تجربة الحمل وإنجاب الأطفال.
ومن المفارقات الغريبة أن يدعو المجتمع الزوجين المترقبين مولوداً للشـعور بالسعادة مع وجود كل هذه الأمور التي تدعو للقلق مما يعرضهما لضغط زائد لا ضرورة له، ضغط إخفاء حقيقة مشاعرهما عن نفسيهما وعن الآخرين، مما يمنعهما من النظر إلى هذه المشاعر على أنها أمراً طبيعياً، وهذا ما يزيد إحساسهم بالضغط والتوتر.
وبوجود الطبيب تظهر مشاعر الخوف والقلق بشكل واضح لدى الزوجين، لأنهما يشـعران بأن هناك من يدرك أن الحمل ليس بالتجربة التي تجلب السـعادة المطلقة دون أيّة مخاطر، وكلما تعامل الزوجان بصدق وصراحة مع خوفهما يشعران بسعادة أكبر، ويمكن للطبيب أن يخفف المخاوف غير المنطقية Unrealistic Fears عند الزوجين وذلك بشرح الإجراءات الطبية أثناء الحمل والولادة بطريقة بسـيطة سهلة الفهم، فعلى سبيل المثال، إن الأم تبتهج عند سماع دقات قلب الجنين في الرحم.. وبالمقابل فان سماع الأب أيضاً لدقات قلب طفله تقلل من مخاوفه وقلقه وتجعله يتعامل مع الطفل في الرحم بواقعية أكثر، مما يؤدي إلى تعلّق الزوجين بطفلهما عند الولادة.
الحمل كحالة نفسية بيولوجية
إن الحمل حالة نفسـية وبيولوجية تتفاعل كل منهما مع الأخرى وتؤثر وتتأثر فيها، فالأعراض والتغيرات الفيزيائية والهرمونية عند المرأة الحامل تؤثر على شـعورها الداخلي، وإحساسـها بنفسها وبصورة جسدها Body Image وبوضعها الجنسي Sexuality وتزيد من اضطراب توازنها النفسي، وبالمقابل فان جميع التغيرات الحسـية والعاطفية، والاضطرابات النفسية تؤثر على كيان المرأة الفيزيائي، وباختصار إن كلاً من الحالة النفسية والبيولوجية تتداخل في إحداث اضطرابات وبدرجات متفاوتة.
لعلّ التغيّر الفيزيائي الأول والأكثر وضوحاً عند المرأة الحامل، هو كبر حجم الرحم والثدي والزيادة في الوزن، ولكن هناك حالات تصل فيها زيادة الوزن وحجم الرحم إلى الدرجة القصوى، وعندما تترافق بحبس السـوائل وارتفاع في التوتر الشرياني وحدوث الوذمة وظهور الألبومين في البول، فإن مثل هذه الحالة تعرف ب"ما قبل الارجاج النفاسي Toxemia Of Pregmamcy Eclampsia" أو ما يسمى "التسمم الحملي Preeclampsia " إذا ما حدث الاختلاج تكثر حالة الانسمام الحملي في الحمل الأول وهو حالة لا يصاب بها إلا أنثى الإنسان، ويمكن التخلص منها بالعناية الجيدة للأم قبل الولادة. والتفسـير الفيسيولوجي لحدوثه هو انحباس كمية زائدة من الماء والملح مع تشنج وعائي وأذية كلوية قابلة للتراجع، إلا أن السبب العضوي لحدوث هذه الحالة يظل مجهولاً، ويعتقد أن للعوامل النفسية دوراً في ذلك بمشاركة سبب عضوي غير معروف.
على كلٍ تعتبر حالات الغثيان والتقيؤ الصباحية Morning Sickness من الظواهر الفيسيولوجية الشائعة في الأسابيع الأولى من الحمل والسبب غير معروف حتى الآن أيضاً، وهذه الحالة يمكن أن تتطور إلى حالة مستمرة ووضع خطير ومميت يعرف بالتقيؤ العنيد Hyperemesis Gravidarum ، وهنا تلعب الحالة النفسية دوراً كبيراً في نشوء هذه الحالة المرضية، خاصة إذا كانت الحامل تعاني من تناقض وجداني Mbivalence حول الحمل، وخوف من التحول إلى امرأة ناضجة.
على كلً قد يضطر في بعض الحالات إلى إنهاء الحمل لإنقاذ حياة الأم في حال عدم وجود علاج نفسي سريع، وأنوه إلى أن أطباء التوليد والأطباء النفسـيون اللذين أتيحت لهم الفرصة لرؤية مثل هذه الحالات قد لاحظوا وجود تخيلات شديدة وغريبة جداً لدى الحامل، فقد عبرت نسبة منهن عن خوف شـديد من رؤية الجنين أو أجزاء منه أثناء التقيؤ، رغم أنهنّ يعرفن تماماً بأن الجنين يوجد في الرحم وليس في المعدة!.
إن مثل هذا التخيّل يعكس بوضوح صراعات الأم الداخلية والخوف من الحمل أو من فقدان الجنين في الوقت نفسه، ويجب الانتباه إلى أن الصراع الناشئ نتيجة التطور الفعلي للمرأة إلى مرحلة أكثر نضجاً يحدث فيها حمل هو العامل الأساسي في نشوء ما يسمى ب"القمه العصبي"؛ فالصراع الناشئ عن دخول المرأة في مرحلة أكثر نضجاً تكون فيها حاملاً يمكن أن يتداخل أيضاً في بعض حالات "الإجهاض العفوي المتكرر Habitual Spontanous abortion" وذلك في غياب وجود سبب عضوي، مع العلم بأن أكثر سـبب لحدوث الإجهاض العفـوي هو عدم كفاءة عنق الرحم Cerrvcal imcompetence الذي يسبب ارتخاء في فتحة العنق في حوالي الأسبوع (12-16) للحمل مؤدياً لتوسع عنق الرحم وفقدان الجنين.. ومن الأسباب العضوية الأخرى للإجهاض العفوي "تشوهات البيضة أو الجنين blighted ovum" والنقص الهرموني أو عدم توافق الزمر الدموية أو التشوهات التشريحية للجهاز التناسلي الأنثوي كوجود رحم ذو قرنين.
أما في الحالات الأخرى من الإجهاض العفوي المتكرر فإن العوامل النفسية والشدّات الخارجية هي التي تلعب دوراً أساسياً في حدوثه، وأظهرت مجموعة من أظهرت الدراسات التي أجريت على عدد من النساء اللواتي عانين من إجهاضات متكررة لمدة ثلاث مرات على الأقل بأن العوامل الانفعالية كانت مسؤولة بشكل أساسي عن عدد لا بأس به من الحالات التي لا يمكن إيجاد تعليل عضوي لها.
هناك ظاهرة أخرى تبيّن بوضوح تأثير العوامل النفسية وقدرة العقل على التأثير في الجسم وهي ظاهرة الحمل الكاذب Pseud ocyesis هذه الظاهرة التي تفسّر بكون الرغبة لدى المرأة في الإنجاب قوية جداً لأسباب وعوامل نفسية مختلفة تصل لدرجة أن المرأة تصاب بأعراض الحمل (من غثيان وقيء صباحي وانتفاخ في البطن...)، وتستمر هذه الحالة حتى التسعة أشهر أحياناً (غالباً تكتشف هذه الحالة في الشهر الثالث أو الرابع) لينكشف في النهاية أن ليس هناك من حملٍ ولا وجود لجنين.. على كل بتطور اختبارات الحمل المعاصرة بدأت تكشف هذه الحالات في وقت وسرعة أكبر.
في المقابل فإن العقل يلعب دوراً معاكساً لظاهرة الحمل الكاذب وهذه الظاهرة تسمى بحالة إنكار الحمل Denial Of Pregnancy ولقد شاهدت حالات عدة كانت تأتي المرأة في حالة إسعافية تشكو من ألم بطني شديد يدفع للظن بحالة بطن جراحي حاد بسبب التهاب حاد للزائدة الدودية أو حتى تمزق جريب دوغراف، ولكن بفحص المرأة يتبين أنها حامل، وقد قابلت حالة كانت المرأة في طور المخاض ولم تكن تعرف طيلة الأشهر السابقة بأنها حامل. يمكننا هنا بوضوح ملاحظة آلية دفاعية من آليات الدفاع النفسي وهي النكران Denial، بالطبع لنجاح مثل هذه الآلية في هذه الحالة لابد للمرأة من أن تمتلك قدرة نفسية كبيرة على الإنكار بالإضافة إلى عدم انتظام الطمث لديها وكذلك بناء جسمي معين يمكنها من إخفاء الحمل، ومثل هذه الحالات تنطوي على خوف عميق من الحمل والتحول إلى أم.
ويتبع >>>>>>>>: الولادة وما بعدها والتفاعل بين الأهل والرضيع
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
_________________________________________________
القمه العصبي Anorexia nervsa وهو اضطراب له أعراض مشابهة للسابق من ناحية التقيؤء وفقدان الوزن لكنه يحدث في مرحلة أبكر من حياة المرأة، وهو يحدث عند الفتيات والنساء الشابات Young girls and woman ويبدأ المرض غالباً إما في وقت البلوغ أو في وقت حرج عند الانفصال عن العائلة مثل التحول من المدرسة إلى الجامعة وتكون الفتاة خائفة من تحولها إلى امرأة ناضجة وعلى مستوى أعمق تكون مذعورة من قدرتها على الحمل وبالتالي عدم قدرتها على البقاء طفلة. إن مثل هؤلاء الفتيات معرضات لمجموعة من الأعراض، فعلى السطح يظهر وكأنهن يرفضون الطعام وبالتالي يفقدن الوزن تدريجياً لكنهن في السـر يأكلن بشـراهة، لكنهن ينزعجن من الانتفاخ الحادث في معداتهن ومن احتمال زيادة الوزن، أي خوف مبطن من الحمل وعندها يصبن بالخوف ويستقيئن بوضع الإصبع في الفم.. يبدأ فقدان الوزن تدريجياً وفي بعض الأحيان فإن وزن المريضة يمكن أن يصل إلى (30-35) كغ، مما يؤثر في مظهرهن حيث تتسطح الأثداء عندهن ويختفي شكل جسمهن ويتوقف الطمث، وإن منظرهن الخارجي يعكس رغبتهن الداخلية إذ أن منظرهن الخارجي لم يعد يعكس مظهر فتاة جذابة في سن 14 أو 15 وحتى 22 عام بل أصبح منظرهن هو منظر صبي قبل البلوغ في سن 9 سنوات أو عشر سنوات. إن هذا المرض مثل الإقياء المعند يصبح حالة طبية ونفسية إسعافية لأنه إذا لم يكن العلاج فعالاً ومؤثراً فإن المريضة يمكن أن تموت. وللتوسع في طريقة العلاج للقمه العصبي يرجى الاطلاع على حالة المريضة روان في كتابي فكرة وجيزة عن اضطرابات الشخصية - الطبعة الثانية - 2007 - الصادر عن دار شعاع للنشر والعلوم 2007 ص 183-185. (المؤلف).