هناك عدة مقاييس لدراسة تطور المجموعات البشرية ومنها الفنون الرفيعة، ورغم كل الظروف السياسية والاقتصادية التي عصفت ولا تزال تعصف بمصر منذ عشرات السنين، لا تزال السينما المصرية تتربع على منصة لوحدها بدون منافسة تذكر.
يلعب الفن دوره في توعية الشعوب، والفن المصري قام بهذه الوظيفة بكل جدارة. مع انتشار الشاشة الفضية في البيوت أصبح المسلسل التليفزيوني واحدا من مظاهر العصر الحديث وبدأ يطغي على الشاشة السينمائية منذ نهاية الألفية الثانية. يتم إنتاج وعرض أكثر من ثلاثة أرباع هذا الفن أثناء شهر رمضان المبارك. هناك أكثر من إنتاج رائع يقابلها إنتاج خالٍ من الإبداع الفني. هناك أيضاً إنتاجات تليفزيونية تجذب انتباه المشاهدين والإعلام وهي التي تتطرق للسيرة الشخصية الذاتية لشخصيات خيالية أو زعماء من الماضي، أو لفنانين رحلوا بعد أعوام من العطاء الفني.
الشخصيات الخيالية:
أحد هذه الإنتاجات تتعلق بتعدد الزوجات، وكان مسلسل الحاج متولي قبل عدة سنوات ومسلسل مشابه له العام الماضي من أكثر الأعمال التي جذبت انتباه المشاهدين. تم طرح هذه المعضلة الاجتماعية بصورة كوميدية تضع الرجل في إطار من المثالية والقوة والحكمة. بين الحين والآخر يرتكب خطأ بسيطا ولكنه سرعان ما ينتبه إليه. أما المرأة فتم حشرها في إطار من السذاجة والغباء سواء كانت ربة بيت أو خريجة جامعية.
الشخصيات السياسية:
هناك أكثر من شخصية سياسية تطرقت إليها الشاشة المصرية في السنوات الماضية. أصبحت هذه المسلسلات أقرب إلى مصادر لدراسة التاريخ بصورة سطحية. يوجد أكثر من أسلوب لدراسة التاريخ، وأحدها يعتمد على ما يسرده الراوية من هذا الحي وغيره وهي أشبه بروايات الأطفال التي تساعدهم على النوم. يتذكر الأطفال هذه القصص حتى يبلغوا درجة معينة من النضوج وتصبح هذه الروايات مجرد ذكرى من ذكريات الطفولة.
أما الأسلوب الآخر لدراسة التاريخ واستيعابه فهو بعيد كل البعد عن المسلسل التلفزيوني وقصص الأطفال. هذا الأسلوب يعتمد على التحليل العلمي للمصادر وربطها بعوامل وظروف اجتماعية ونفسية. يحاول الباحث وضع نظرية معينة وبعدها يبحث عن الأدلة التي تناقض نظريته ويضع أمام القارئ أكثر من استنتاج وغايته الأولى والأخيرة هي استيعاب الحاضر بدلاً من الغرق في أنهار الماضي التي أصابها الجفاف.
شخصيات فنية:
وهناك أيضاً إنتاجات تتطرق للسيرة الذاتية لشخصيات فنية منذ الولادة إلى نهاية العمر. هذه الشخصيات رحلت وتركت بصماتها على المجتمع المصري والعربي، ولكن هذه الإنتاجات لا تختلف في إطارها ومحتواها عن سيرة الحاج متولي. يحيط المسلسل ويحرص كل الحرص على وضع الشخصية الرئيسية في المسلسل في إطار مثالي، أما من يحيط بهذه الشخصية فيتم وضعه في إطار لا قيمة له أحيانا أو غير منصف له على أقل تقدير.
أثناء سرد هذا التاريخ الشخصي في فترة زمنية محدودة ترى المخرج أو كاتب النص قلما يحرص على عرض الأزمات التي واجهت الشخصية من أبعاد عدة لكي يترك المشاهد يفكر ويستنتج ما الذي حدث في تلك الحقبة التاريخية. يمكن توضيح ذلك بإلقاء نظرة سريعة على مسلسل عن الفنانة الراحلة السيدة تحية كاريوكا. هذا المسلسل حاول حشر السيرة الذاتية للراحلة في ثلاثين ساعة من العرض وحرص على وضعها في إطار مثالي. اهتم المخرج والكاتب على سرد معظم أزواج السيدة الراحلة، وهنا أيضاً وضعها في إطار مثالي يضاف إليه تهميش شبه كامل للأزواج. قد تمر هذه السيرة مر الكرام على المشاهد الكريم، ولكن السؤال الأهم هو ماذا يعني أن تتزوج امرأة أو رجل 14 مرة، وماذا تقول هذه الحقيقة عنهم؟. لم يستطع المخرج أو أصحابه طرح هذا السؤال وبالتالي لم يبالي أحدهم بالإجابة عليه.
الصحة النفسية والسيرة الشخصية
تقدم دراسة الشخصيات السياسية والتاريخية والفنية الفرصة أحياناً للتعمق في الأبعاد النفسية المختلفة لكل فرد من أفراد المجتمع. هذه الدراسات عن طريق الشاشة تكون فاشلة إن تطرقت للسيرة الطولانية للشخصية تحت الدراسة لأسباب متعددة منها عدم القدرة على التحقيق في المصادر والانحياز فنياً تجاه البطل أو البطلة، والأغرب من ذلك الحرص على عدم مس شعور المشاهد.
أما إذا تم طرح مقطع عرضي للشخصية لفترة زمنية معينة فالنتيجة تكون عكس ذلك. من خلال طرح المقطع العرضي تكون رسالة العمل الفني توضيح أبعاد اجتماعية ونفسية للشخصية في حقبة تاريخية معينة تختلف عن الحاضر الذي يعيش فيه المشاهد. هذا الطرح يكون أكثر عطاءً للمجتمع وأكثر احتراماً لذكائه.
رجال السياسة والفن والدين وغيرهم من الشخصيات الخيالية لا يختلفون عن بقية أفراد المجتمع في أية حقبة زمنية. الإنسان في كفاح مستمر لسد احتياجاته الناقصة من عاطفية ومادية ونفسية. من خلال هذا الكفاح يصل الإنسان إلى مرحلة يتجاوز عندها العصاب الذي كان يعصف به طوال عمره. ربما هذا ما حدث للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وغيره من الزعماء، وكذلك الأمر مع كوكب الشرق السيدة أم كلثوم والسيدة تحية كاريوكا. أما طرح الشخصيات الخيالية مثل الحاج متولي فهو مجرد عملية تهميش لدور ومكانة المرأة المصرية على المستوى النفسي والاجتماعي.
واقرأ أيضاً:
ألم وبرد وغفران / على هامش الشيزوفرانيا / التعلق Attachment / إدمان وهروب