![]() |
هل أضحى "الجهاد" مفهومًا مراوغًا؟ بالأمس القريب كانت المراوغة من استعمالات المفهوم وتطبيقاته، والنزاع يقوم حول: هل هذا الفعل أو ذاك من الجهاد؟ لكن مع السيولة اللفظية التي شهدناها من الجهاد المدني، والجهاد الإعلامي، والجهاد الاقتصادي، والجهاد الثقافي و... ربما بدأت تسري المراوغة -أو تؤول- إلى المفهوم ذاته لأسباب وظروف مختلفة؛ منها تعقيدات الواقع، ومنها الأيديولوجي، ومنها السياسي، ومنها غير ذلك.
والحديث عن "الجهاد" ليس حديثًا عن قضية هامشية ولا وقتية، بل سيظل حديثًا عن أمر حيوي ومركزي في تصوراتنا وواقعنا، وكانت صفحة "الإسلام وقضايا العصر" قد أفردت مساحات واسعة لمفهوم الجهاد وتطبيقاته من زوايا نظر مختلفة، غير أن الجديد في هذا الملف أنه ينفرد بالحديث عن مفهوم "الجهاد المدني" الذي شاع مؤخرًا من خلال مستويين: مستوى نظري يناقش المفهوم ذاته، ومستوى تطبيقي يتوجه لقراءة تجربة الجهاد المدني في فلسطين.
أضف إلى ذلك أن الملف يعرض لوجهات نظر مختلفة، لكنها تؤول إلى موقفين على وجه الإجمال: موقف الدعاة إلى الفكرة، وموقف المختلفين معها على مستوى التطبيق أو المفهوم.
في الملف يستعرض خالص جلبي الإشكالات التي تواجه الجهاد المدني (العمل السلمي) الذي يدعو إليه، ويقول: إن الحلول المطروحة لجرثومة العنف غير نافعة؛ فالحل برأيه يكمن في "استعمال النصوص ومفاتيح الثقافة الإسلامية بتركيب أدوية ولقاحات نحقن بها العقل العربي ضد جرثومة العنف التي تسري في مفاصل الثقافة وشرايينها، مسببة نوافض مريعة من دورات العنف كما في بردية الملاريا!"؛ لأن "ثقافة الجهاد المغلوطة تنتج وفق نسخ مزورة". ويرى أن إشكالية الجهاد لم تعالج حتى اليوم على نحو واضح مع كل وضوح النصوص القرآنية، واختلط الخروج على الحكام بالجهاد الإسلامي.
مشكلة العنف –برأيه- تقود إلى التعقيد في ثلاثة اختلاطات يأخذ بعضها برقاب بعض: أنها أولا حلقة مغلقة تحكم بقبضتها على من دخل لعبتها، وهي ثانيا دائرة يزداد أطرافها تآكلا ومعاناة، وهي ثالثا تزداد اتساعا مثل حريق الغابات.
ويقدم أحمد عبد الله محاولة تأصيل لمفهوم "الجهاد المدني" الذي يقول: "إن الفرد المدني العادي الذي لا يحمل بندقية أو قنبلة يمكن أن يكون شريكا أساسيا هو وأسرته ومن هم مثله في فريضة الجهاد ضد الهيمنة -أو بالأحرى محاولات الهيمنة- الأمريكية". ويرى أن الجهاد المدني "مفهوم مركب مستمد من عدة روافد قديمة وحديثة"، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واللاعنف، والعمل الاجتماعي، والمجتمع المدني. وبناء عليه فإن عمليات مثل: جهاد النفس، ومدافعة التخلف في السلوك الفردي والعام، ومواجهة الاستبداد في المجتمع والحكم، وغيرها من المظاهر السلبية التي نعيشها "تحتاج إلى إعادة اعتبار ونظر؛ بوصفها جهاداً مفروضاً على الجميع". ويستعرض نماذج واقعية للمفهوم كالمقاطعة ومراقبة الإعلام التقليدي، والتظاهر وغير ذلك.
محمد مسعد يرى في "الجهاد المدني" ونحوه التفافًا حول المعنى الواضح للجهاد وهو القتال، ويقول: "جرت محاولات لمطّ حدوده ليشمل معاني كثيرة، كالجهاد الأكبر: جهاد النفس، وتم اللجوء لتعريفات ترتكن إلى التفسير الحرفي للكلمة -بذْل أي "جهْد" في سبيل الله- بغية تسلية المحرومين من الجهاد الذين لا يجدون إليه سبيلا، أو سعيًا إلى دفع الناس لمحامد الأفعال". ويرى أن تعبير "الجهاد المدني": يزاوج بين "الجهاد": المصطلح المتجذر في القرآن والسنة والفقه والتاريخ الإسلامي، و"المدني": المصطلح المتجذر في التاريخ الأوروبي والثقافة والرؤية العلمانية.
ويقدم تحليلا اجتماعيًّا أنثروبولوجيًّا بسيطًا لخطاب الجهاد المدني، من خلال رؤيته كملمح من ملامح تفكك "الرواية الكبرى" (النظريات الكبرى التي تسعى إلى وضع رؤية شاملة قادرة على تفسير الحياة وحركة التاريخ) ليصل إلى القول: إن "الجهاد المدني" يعكس تفكك وتحلل الرواية الكبرى التي حملها الإسلاميون خلال القرن الماضي التي كانت تنادي بالإسلام كنظام محكم ومتماسك وشمولي وواحد مركب من أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية.. متكاملة ومترابطة.
ويرى في السيولة اللفظية التي ترتبط بالجهاد كطوفان من العلامات الثقافية الفاقدة للمعنى، يقبل عليها المستهلكون، ويمنحونها المعاني التي تروق لهم بحرية؛ فالجهاد المدني كمشروع حين يدعوك لاستهلاك خطابه وعلاماته الثقافية هو يعدك أيضًا أن تكون منتجًا لهذا المشروع، يمكنك أن تنتج النشاط الذي تحب وتستهلكه، وتمنحه علامات الجهاد وصوره، وتغذيه بالمعنى الذي يرضيك.
معتز الخطيب يرصد نشأة مفهوم "الجهاد المدني" واستعمالاته لدى تيار ما يمكن تسميته "بمشروع العمل الإسلامي المدني"، وتحولات التعبير عن العمل السلمي من اللاعنف إلى تعبير "المقاومة المدنية" الذي ظهر في أوائل الثمانينيات في سياق مقاومة المحتل إلى "الجهاد المدني" الذي ظهر بدايةً في سياق المواجهة مع النظام السياسي الداخلي، وشاع لدى شخصيات عدة كنتاج لمتغيرات الموقف من الدولة. كما برز أيضًا لدى بعض قيادات الإخوان المسلمين ممن كانوا ينتمون إلى جيل حزب الوسط كمفهوم عصري للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي فكرة تسعى للعمل خارج الإطار التنظيمي (كسر الإطار).
ويرى أن "الجهاد المدني" سرى إلى دعاة اللاعنف الإسلاميين في مرحلة متأخرة؛ إذ في استعارته استعارة لشرعية "الجهاد" واستثمار لقداسته، كما أنه يتجنب السلبيات والتحيزات التي تحيط بتعبير "اللاعنف".
ويقول: إن هناك صلة ما بين الجهاد المدني والمجتمع المدني، أضف إلى ذلك أن في هذا التعبير محاولة لتنقية مفهوم "الجهاد" مما علق به من سلبيات في مواجهة الآخر الغربي؛ فيظهر هذا التعبير في تقويم ما بعد 11 سبتمبر وكأنه يهدف إلى سد الفجوة بين الموروث الديني وأوضاع الحداثة.
وحول العلاقة بين اللاعنف والجهاد المدني يرى أن المسألة لا تعدو كونها ترادفًا لفظيًّا بين التعبيرين، غاية ما في الأمر أننا أمام عملية أسلمة تتوسل بأدوات مختلفة بحسب الأرضية التي يقف عليها من يمارس الأسلمة؛ فمن يدعو إلى "الجهاد المدني" يسعى لأسلمته من خلال الاتكاء على مكونات ليبرالية في الأساس تُستمد من مفهوم "المجتمع المدني"، عبر مطّ حدود بعض المفاهيم الإسلامية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الخيري.
فهذا الخطاب يمارس إعادة اكتشاف وتأويل وإنتاج المصطلحات الإسلامية المركزية في سياق الفعل، لكن هاجس الأسلمة وتَلَمس طريقٍ للفعل أوقع في سلبيات متعددة؛ فالسيولة اللفظية ساهمت في تشظي مفهوم الجهاد وتذويبه، حين راحت تمنح رتبة "الجهاد" لكل من يبذل جهدًا، وفي أي مجال كان؛ ليشمل "الجهاد" كل فرد في "المجتمع المدني، ولعل أبلغ مظاهر تشظي المفهوم هو ما وُصف بأنه "جهاد ليبرالي يعمل على التصدي للتطرف والتشدد الإسلاميين"، ويخلص إلى القول: إن دعوة "الجهاد المدني" تشغب على المفهوم الشرعي للجهاد.
منير شفيق يقدم قراءة لنظرية اللاعنف عالميًّا وفلسطينيًّا تتلخص بالقول: إن التجارب العالمية أثبتت الخلل الكبير في تعميم أسلوب بعينه (العنف أو اللاعنف) على كل الحالات، أو الدفاع عنه بطريقة أيديولوجية أو تجريدية مفرطة في إطلاقيتها. فما من أسلوب نجح في التغيير إلا كانت وراءه -ومعه- أسباب أخرى شاركته الوصول إلى النجاح، ولهذا لا يمكن أن يُرد النصر له وحده.
قضية أخرى أثبتتها التجارب؛ وهي أن من يستورد أسلوبا بعينه، ويطبقه في بلده، ولا يكون مناسبا لسمات المكان والشعب ولطبيعة العدو.. سيجد أسلوبه مهمشاً لحساب ما يفرزه الواقع والعفوية الشعبية، أو لحساب الأسلوب/الأساليب الأكثر تلاؤماً مع خصوصية الحالة المعنية. ذلك أن التجربة هي محك الاختبار.
وفيما يخص الوضع الفلسطيني يرى أن التجربة الفلسطينية أثبتت طوال تاريخها الحديث بأنها فريدة بين الفرائد، واستثنائية بين كل استثنائي، وأن "اللاعنف المباشر" غير ملائم للظرف الفلسطيني، ومن دون أن يتهم بالعقم. فالتجربة التاريخية والراهنة، والحياة نفسها، وطبيعة الوضع مكاناً وزماناً وعدواً وظروفاً، وما يمكن أن يستجد من موازين قوى وظروف إقليمية وعالمية.. هو ما يحدد ألوان الكفاح وتفوقها في آن واحد.
واقرأ أيضًا:
فلسطين..... الجهاد في متناول الجميع / على باب الله: الجهاد الاكبر