السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أبدأ رسالتي بشكر كبير لفريق العمل الرائع الذي يتميز به موقعكم المبارك إن شاء الله تعالى، والذي أتابعه منذ أشهر طويلة، وسأبدأ بسرد مشكلة تتعلق بشقيقي الذي يكبرني بست سنوات (سأسرد التفاصيل التي تطلبونها عادة قبل كل شيء)، شقيقي عمره 26 سنة وأتم حفظ القرآن في الثامنة عشرة، مجاله الجامعي علمي، توظف بعد العسكرية بوظيفة ثابتة في الدولة وخطب فتاة متدينة ولكنها عاشت كل حياتها في دولة غير عربية مما يولد بعض الاختلافات في العادات.
كانت حياته قبل الخطبة مليئة جدا فبالإضافة إلى عمله كان يدير معهدا للقرآن الكريم (أنتم تعلمون المشاكل التي تواكب هذه الأعمال وهو ما لم يكن يرضى به مما كان يسبب له الغضب) وكان يدرس في المسجد ثم الخطبة ومشاكلها مهما كانت تافهة، لم يكن يترك وقتا للهو مطلقا، دائما مشغول وهو رغم ذلك مشهود له في منزلنا بأنه أبرنا بوالديه فأمي لا تذكر أنه أغضبها يوما ولا أبالغ.. ثم جاءت وفاة جدتي وحمله لها ووضعه لها في القبر وفي نفس اليوم سافر أخي (22 سنة) للدراسة وكان هذا الأخ هو الذي ينام معه ويحدثه فكان صعبا عليه عدم وجوده، وبعدها سلمه مدير المدرسة مواد ليدرسها لم يكن قد سبق له أن درسها في الجامعة فوجد الأمر غاية في الصعوبة كان معتادا أنه المدرس الناجح وبدأ في كره وظيفته.
وهنا بدأ يحس بالأعراض التالية: (بدأت الأولى والثانية معه قبل وفاة جدتي بشهر ولكنه ظن ذلك أمرا عارضا)
يشعر بضيق في التنفس عند الاستيقاظ، لا يشعر بالفرح بشيء، يشعر بأن إيمانه قد قل، يريد أن يموت حتى أنه أخبرني أن نفسه تحدثه بالانتحار، يحس بأنه لن يستمر مع عروسه رغم أنها تسعى جاهدة لمساعدته لحل أزمته، لا يريد الذهاب إلى المدرسة أو المسجد إلا بالغصب من والدي، لا يركز وهو دائما مشوش الذهن، منذ شهرين فقط قطع تعليمه للقرآن لأنه لم يعد قادرا على الاستمرار.
ومنذ شهرين ذهب مع والدي إلى طبيب العائلة فأخبرنا أنها أعراض الاكتئاب وطلب منه الاستمرار في نشاطاته وأعطاه دواءين؛ أحدهما يومي والآخر عند الشعور بالضيق ولكنه يقول إنه لا يتحسن، هو الآن المفترض أنه سيتزوج خلال شهر على الأكثر ولكنه يقول لي بأنه لن يصمد إلى ذلك الوقت وسيقع أرضا من كثرة الأفكار التي في رأسه ولن يتحسن أبدا، نحدثه جميعا وأمي كثيرا ما تبكي أمامه فنمنعها وهو كثيرا ما يتضايق من أجلنا، أصدقاؤه بعيدون كثيرا بسبب زواجهم.
كان قبل ذلك يتكلم معي بكل التفاصيل التي كانت تحصل له حتى إنني كنت أسكته أحيانا، أما الآن فهو لا يتكلم إلا نادرا وبصوت منخفض.... ماذا نفعل من أجله؟؟ حاولت إقناعه بجدوى الدواء لكنه يتناوله مراعاة لأهله، الشيء الوحيد الذي لا زال يفعله هو الصلاة والقرآن (دون أن يرضى أن يقف إماما إذا ذهب إلى المسجد مع أنه كان دائما ما يقف).
أطلت عليكم ولكني والله أكاد أختنق من حاله، أرشدوني إلى ما يمكن أن يفيد معه (إذا كنتم ترون حاجة إلى مداومته عند طبيب نفساني فأرشدوني إلى أحدهم في بلدي من فضلكم).
أرجو الرد بسرعة لأن الموضوع صعب على عائلتي كثيرا.
ولكم جزيل الشكر
2/11/2021
رد المستشار
الأخت العزيزة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لقد حدث تغير نوعي وكمي في حياة أخيك فبعد أن كان شعلة من النشاط والحيوية في أكثر من اتجاه، أصبح الآن عازفا عن كل شيء وتقلصت اهتماماته ونشاطاته وانحصرت حاليا في الصلاة وقراءة القرآن، وأظنه لا يشعر بهما كما كان من قبل، وهو غير مقبل على العمل وغير متحمس للزواج، ولم يعد يتحدث إليك كما كان يفعل من قبل، وأصبحت نفسه تحدثه بالانتحار على الرغم من تدينه المعهود عنه.
هذه كلها تشير إلى أعراض مرض الاكتئاب (كما ذكر لكم الزميل الطبيب) وهناك أسباب هيأت لحدوث الاكتئاب مثل سفر أخيه الأصغر والذي كان يؤنسه في غرفته، ووفاة جدته ورؤيته للقبر من الداخل بما فيه من أشياء توحي بالوحشة، ثم ضغوط العمل، وضغوط معهد التحفيظ، وربما ضغوط الخطبة، كل هذه الأشياء هيأت لظهور حالة الاكتئاب.
والاكتئاب ليس مجرد حالة عابرة من الحزن، وإنما هو مرض يحدث فيه تغير في كيمياء المخ يصاحبه شعور بالحزن أغلب الوقت مع فقد الرغبة في كل شيء وتغير واضح في الشهية للطعام (بالزيادة أو بالنقصان) وتغير في النوم (بالزيادة أو النقصان) والتفكير في الموت وربما التفكير في الانتحار، والإحساس بالذنب وبالدونية، وضعف التركيز وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، ويصبح الشخص غير قادر على التغلب عليه بمفرده، وهو ليس ضعف إيمان أو ضعف شخصية أو ضعف إرادة –كما يظن كثير من الناس– وهو يحتاج لعلاج دوائي وعلاج نفسي وعلاج اجتماعي وعلاج ديني، ولا يكفي فيه الخروج لنزهة أو تغيير الجو المحيط أو بعض النصائح الطيبة.
والعلاج الدوائي يتطلب تناول أحد مضادات الاكتئاب بجرعة علاجية كافية ولفترة تصل إلى ستة أشهر بدون انقطاع مع الوضع في الاعتبار أن مضادات الاكتئاب تستغرق حوالي أسبوعين حتى تبدأ في إعطاء تأثير علاجي ولذلك يجب عدم استعجال التحسن. ونذكر من هذه الأدوية على سبيل المثال (مع مراعاة أنه سيتزوج قريبا لذلك اخترنا أنواعا لا تؤثر بالسلب على الحالة الجنسية): Sertralin، or Escitalopram، or Mertazepin، or Buprobion
أما العلاج النفساني فدوره هو طمأنة المريض وتدعيمه، وتوضيح أبعاد المرض وفرص شفائه، ومحاولة التغلب على الآثار الصادمة لخبرات الفقد ولضغوط الحياة، وتعديل نمط الحياة المستقبلية بحيث نتفادى هذه الضغوط قدر الإمكان أو نكتسب مهارات إضافية للتغلب عليها، أو نتقبلها على أنها جزء من منظومة الحياة العادية.
ومن الناحية الاجتماعية يتطلب الأمر مساندة وعونا من الأسرة ومن الخطيبة، وصبرهم معه وعليه حتى يتجاوز أزمته، وعدم تحميله مسؤولية المرض أو مطالبته بالخروج منه بمفرده دون مساعدة علاجية، وعدم اتهامه بضعف الإيمان أو ضعف الإرادة أو غير ذلك مما نراه كثيرا في مثل هذه الظروف ويكون له تأثير ضاغط على الشخص المكتئب يضاف إلى معاناته من المرض ويزيد من إحساسه بالذنب وإحساسه بالدونية والضعف.
وبما أن أخاك لديه ميول دينية فتذكيره بأن هذا ابتلاء من الله (ربما لرفع منزلته عنده) وسيزول بالأخذ بأسباب الشفاء والدعاء والرقى، وأن فقده للجدة وفراقه لأخيه كان بتقدير من الله، وأن الله قادر على أن يعوضه ما فقده، وأن الأنس بالله يخفف أي وحشة، وأن التعلق به يلطف أي غربة، وأن الصيام وقيام الليل يغذيان الروح ويطمئنانها، وأن رحمة الله سبقت غضبه، ومغفرته سبقت عقوبته، وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. كل هذه المعاني يذكره بها أهله ومحبوه، أو يذكره بها المعالج النفساني أو أحد العلماء المتفهمين لطبيعة مرض الاكتئاب وأنه يحتاج للتدعيم والطمأنة والتخفيف أكثر مما يحتاج إلى الترهيب أو إلى تأجيج مشاعر الذنب لدى المكتئب.
وننصح أن يؤخر الزواج لحين حدوث تحسن في الحالة لأن الزواج في وجود الاكتئاب يحرمه الشعور بهذه المناسبة المهمة كما يؤثر على علاقته العاطفية والجنسية بزوجته، ويستحب أن يكون الزواج بعد شهر على الأقل من زوال أعراض الاكتئاب. وليس صحيحا –كما يعتقد بعض الناس في مثل هذه الظروف– أن التعجيل بالزواج كفيل بإزالة أعراض الاكتئاب، فكما قلنا إن الاكتئاب مرض لا يزول بمجرد وجود بعض الملطفات أو الأحداث السارة المبهجة أو الخروج في فسحة أو سفر، بل على العكس فإن المكتئب حين يتعرض لموقف يفترض أنه سار لبقية الناس نجده يتأثر بالسلب لأنه يكتشف عدم قدرته على الشعور بالفرح فيكتئب أكثر وأكثر.
لذلك يجب أن نبدأ بالعلاج على يد طبيب نفساني متخصص وأن نصبر على العلاج كما ذكرنا حتى يعطي تأثيره وأن لا نقطع العلاج قبل مضي ستة أشهر من بدايته حتى لو تحسنت الحالة بعد وقت قصير لأن الاستمرار في العلاج لهذه المدة يقلل من فرصة معاودة الاكتئاب في المستقبل. ونسأل الله لأخيك الشفاء والتوفيق.
واقرئي أيضًا:
ما هو الاكتئاب؟
اضطرابات وجدانية: اكتئاب Major Depression
تعريف الاكتئاب
خطة علاج الاكتئاب الأولية