اكتئاب أم حزن أم فقدان شغف وعدم تأقلم؟؟؟
السلام عليكم، حسنا لا أعلم بالضبط كيف أبدأ، توفي والدي في نهاية سنة ٢٠٢٣ أمامي أنا وأمي وأختي، كانت تلك أول مرة أرى فيها شخصا يموت أمامي، لم أستطع التصديق ولا الإنكار، لأنني شعرت أن الوقت توقف في هذه اللحظة ولكنني كنت أصرخ عند رؤيتي المشهد بشكل هستيري، كنا نضع الغداء لنتغدى وكان هذا آخر امتحان للفصل الأول، ونخطط للخروج والاستمتاع بالمساء، ولكن حدث مالم يكن بالحسبان، بدء أبي بالسعال، أمي طلبت أن أحضر الماء لم أستطع أن أناوله حتى، رأيت وجهه وهو يتغير من اللون الأبيض للأغمق، خرج لعاب من فمه، ثم سقط وأمي طلبت مني أن أساعدها في عمل الإسعافات الأولية ظنا منها أنه مجرد اختناق وليس جلطة مميتة كون أبي شاب رياضي لم يتجاوز الـ٤٥ وشرايينه صلبة، لكنني لم أستطع حتى النظر، جسده المرتخي والصلب، رائحة الغرفة المرعبة، لأول مرى أشتم الرعب وأتذوقه، لم أعلم لماذا من اللحظة الأولى علمت أن أبي يموت وليس مجرد سعال عادي.
أبي الذي لم يكسو رأسه شعرة بيضاء واحدة، أبي الذي لطالما ظنت صديقاتي أنه أخي وليس والدي، الحنون الحيي، لم أكن أريد لأبي أن يموت أبدا، كنت أبكي من مجرد تخيل الأمر، ولكن لم أنصدم كثيرا عندما أعلنوا عن وفاته، توقعت أن لا أصدق وأن أنكر لكن أظن أن عقلي كان لا يعمل، وعند ذهابنا مساء لرؤيته لم أستطع أن أنظر إليه، كنت أريد تقبيله للمرة الأخيرة لم أجرؤ، يعني كنت أعلم أنه مات لكن لم أستطع أن ألمسه ولكن عند رؤيتي لوجهه ارتحت لأنه كنت أشعر أنه يبتسم.. هذا كان وقت المغرب قبل الغسل يعني عند الإعلان عن وفاته بالمستشفى، وذهبت لرؤيته في اليوم التالي بعد الغسل واستعدادا للدفن طبعا كنت خائفة لكن استجمعت قواي وحضنته (يا ريت قبلته ولكن لا بأس)
حسنا ملاحظة مهمة عائلتي متكونة من ٤ أفراد فقط أنا وأمي وأبي وأختي، أنا الأكبر، ونحن كنا نعيش في دولة غير دولتنا، ولدت وعشت وتربيت كل حياتي في هذه الدولة (دولة من دول الخليج) لا أفقه شيئا عن فلسطين غير أنه حرب ولكنها جميلة (كنا نزور الأهل كل سنتين وأربع لكن لا يتجاوز بقاءنا الشهر)
لكن بعد وفاة أبي بيوم واحد فقط أمي أخبرتني أنه سننتقل لفلسطين وكانت تستشيرني بحكم أني الكبرى ولم أعترض ولم أقل لها شيء، كنت أعلم أنها أبدا ليست كجمال ولا اقتصاد دول الخليج، لكن كنت أنوي الابتعاد عن كل شيء يذكرني بأبي (البيت الذي توفي فيه، الغرفة، الطعام، مكان عمله، شوارع المدينة، كل شيء كان له ذكرى مع أبي) وبحكم أني لم أمتلك ذكريات بفلسطين كنت أنوي الهرب وحسب، لذلك لم أفكر بالموضوع ولم أعارض
حسنا انتقلت إلى فلسطين وللأسف لا نملك سعر للإيجار وشراء بيت لذلك عشنا في بيت العيلة.. أريد أن أذكر أن السفر وتوديع صديقاتي ومعلماتي كان سيئ لأبعد حد لأني أعرفهم منذ نعومة أظافري ولكن الاستشارة ستصبح طويلة جدا.. وكنت أظن أن موت أبي هو أسوء ما كان سيحدث وخلص الأمور ستصبح تافهة ولن يهمني ولكن.. لا أريد أن أدخل بالسياسة لأني لا أفقه فيها شيئا لكن أنا انتقلت للضفة الغربية لمدينة يحدث فيها اقتحامات وطخ كثير وأنا لم أسمع ولم أشاهد الحرب أبدا قبل انتقالي إلى هنا كان جدا مرعب جدا.. وفوقها المدرسة والدراسة دخلت إلى الفرع العلمي وكانت الدراسة كل يوم تزداد سوء، كنت في دولتي الأولى متفوقة جداااا ما شاء الله وكنت الأولى دائما ولكن صرت متوسطة.. ودون حتى! وفوقها مشاكل الأقارب لا تنتهي فأنا لم أعتد الاختلاط بالأقارب قبلا وشخصيتي انطوائية نوعا ما ولكن الكل يتوقع مني ردود فعل اجتماعية جدا ويخبروني دائما بأن أصير كبنات هذا الجيل اجتماعية ونشيطة وحيوية، أريد أن أذكر أن المشاكل كثيرة جداً جدا وحتى إن لم أكن طرف منها لكن مجرد سماع صراخهم يجعل قلبي يتألم وأنا أكره الضوضاء جدااا
حسنا هذه قصتي ولكن أكثر ما أهتم بشأنه حاليا هو أن أستعيد تفوقي، فأنا في سنتي الأخيرة أهم سنة وهي مصيرية جدا، فلا أعلم إذ أمكنني أن أستعيده لأنني أشعر أني منهكة لأبعد حد، أنا صرت عصبية طول الوقت، أشعر بالجوع طول الوقت لكن ليس لدي شهية أبدا للاقتراب من الطعام أشعر أنني لا أستطيع أن آكل رغم جوعي، أشعر أنني أكره جميع الناس وجميع أقاربي بلا أي استثناء.. والله كنت أحبهم قبل انتقالي لكن أروني أسوء ما فيهم ولا أستطيع التركيز إلا عليه.. أعرف أنهم لديهم أفضالهم لكن مش عارفة أحبهم مش قادرة يعني لا أستطيع طلب أي شيء منهم أشعر أني عالة وهم لا يخفون جدا انزعاجهم يعني ألاحظ وأتقبل لا أعاتب لكن صرت أكرههم وأكره نفسي.
أشعر بالذنب لأنني أذهب للدروس الخصوصية بالإجازة الصيفية لكني لا أراجع ولا أحل المطلوب ولا أستطيع التركيز طول الوقت وأكلف على أمي مالا، وأشعر أنني أريد أن ألغي كل دروسي بعد عيد الأضحى ولكن أعلم أنني سأصبح أسوء.. يعني أجبر حالي أروح، نومي مخلبط جدا وخفيففففف ولا أشعر أنني أشبع.. لا أعلم إذا له دخل بالنفسية فأنا أستيقظ أصلا على نقاشات الأقارب. وصراخهم العالي ونومي صار خفيف جدا ولا أستطيع أن أعود إلى النوم أبدا إذا استيقظت.. فهل أعاني من شيء؟ وهل يؤثر على دافعيتي للدراسة والاجتهاد؟
أريد أن أجيب معدل عالي جدا لكي أحصل على منحة (إن أمكن) وأريد أن أسعى لذلك لكن كل يوم يزيد إحباطي لأنني أرى البنات يجتهدن وأنا أصلا بدون هذا أقل منهم (لأني لم أتأسس في فلسطين كما ذكرت) والمفترض أن أجتهد أكثر منهم لكي أحصل عن النتيجة نفسها لكن أنا صرت جدا مهملة؟!!! كيف أستعيد دافعيتي وشغفي وأنجز؟
21/6/2024
رد المستشار
الابنة السائلة:
رحم الله الوالد الكريم،الذي كان موته صدمة غير متوقعة، وبداية تغيرات جذرية في حياتك.
لو ظلت ذكريات الوالد تلاحقك وخبرة الفقد تؤثر بك، ربما تحتاجين لمراجعة علاج نفسي، وأنا وضعت على حائط صفحتي في فيسبوك إعلانا عن ورشة أو سلسلة جلسات تتعامل مع خبرة الفقد عند الأطفال والمراهقين، وعلقت عليه متمنيا أن يتاح لكل أطفال فلسطين الذين فقدوا أحد الوالدين أو الوالدين وربما أفراد آخرين من العائلة!!
الورشة ستجري بمصر وحضورا، ولا أدري كيف نوفرها للأطفال في فلسطين، ولكن هذا حديث آخر، على كل حال.
بمرور الوقت تتحول صدمة الفراق إلى ذكرى كما يحصل مع كل من يفقد الأحباب، وبخاصة وأنت وسط عائلتك، وهذا يساعد، وأعتقد أن الأوضاع في الضفة أكثر تماسكا بكثير من غزة.
حياتك الجديدة مختلفة عن القديمة، وأدعوك لاستكشاف الفروق بين هذه وتلك ليتبين لك أن هذه الفروق يمكن أن تكون سلبيات وربما تكون إيجابيات هنا أو هناك، ولا يوجد نعيم كامل على الأرض، والحياة في الخليج لا تخلو من عيوب، بعضها يظهر في سنوات تالية من العمر، ويمكنك الاطلاع على بعضها هنا على صفحات الاستشارات في مجانين.
ويقاس نضج الإنسان ونموه النفسي بقدرته على التكيف والتأقلم مع مستجدات وتحديات حياته، ولا يساعدك أن تنظري إلى التحديات الجديدة بوصفها مشكلات أو عيوب، بل هي مجرد أوضاع مختلفة تحتاج للتفكير في كيفية التعامل بقواعدها وما يناسبها من سلوكيات مع الاستفادة من مميزاتها، ولن تتبين لك هذه المميزات وأنت تحبسين نفسك في مربع اعتبار الاختلاف عيبا، ولا تنظرين للصعاب بوصفها تحديات تشحذ الهمم وتتحدى التفكير والإبداع.
للحياة الجماعية وسط عائلة نقاط قوة وطبائع مختلفة عن حياة فردية معزولة في غربة.
ويحتاج منك هذا لاستكشاف تدريجي هادئ.
الحياة في أوضاع مواجهات وحصار واقتحامات أيضا هي حالة لها تقاصيلها وضغوطها، وما زلت أندهش من غياب تداول خبرات الحصار والاحتلال والمواجهات وكيف كان الناس ينصرفون سواءا في خبرات فلسطينية سابقة أو خبرات مصرية أو من أي بلد عاش ظروفا مشابهة!!
ثقافة المواجهات والمقاومة والتعامل مع ضغوط احتلال ينبغي ألا تظل غائبة عن وعي أجيالنا الجديدة، وبخاصة في عصر المعلومات وسهولة الوصول إليها.
ويسعدنا أن تشاركينا تفاصيل حياتك اليومية ونوعية التحديات التي تواجهك لنعيشها معك ونفكر معا في إبداعات مواجهتها والتعامل معها.
أيضا فإن التركيز والاسترخاء وشحن طاقتك عبر المتاح من مصادر ووسائل وطرق من شأنه تمكينك من استثمار هذه الطاقة في التحصيل والتميز الدراسي وغيره مما تريدينه أهدافا لحياتك.
ويمكن أن أكتب لاحقا في تفصيل ما تحتاجين من هذه النقاط، لكنني ركزت اليوم على رسم خريطة عامة لما نحن فيه معك باللحظة الراهنة، ودعوتك لمشاركتنا تفاصيل ما تواجهين من تحديات، وأدعو القراء للتعليق من خبراتهم العملية التي تتصل بأسئلتك وليس من قبيل رص النصائح وإسداء المواعظ.
وفي انتظار ردك لنعيش معك مغامرتك الجديدة في فلسطين العزيزة.
واقرئي أيضًا:
نفس اجتماعي: مشكلات الخليج Gulf Problems