والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. في البداية أود أن أبعث لكم ولكل الساهرين على موقعكم الفذ بأطيب تحياتي وأهنئكم على كل ما تقومون به لمساعدة الشباب وإسداء النصح لهم. وها أنا أيضا أطرق بابكم لعلكم تقدمون لي وصفة شافية تمكنني من اجتياز المشكل الذي يعترض سبيلي.
قبل الدخول في تفاصيل مشكلتي أود أن أنبهكم إلى أمر غاية في الأهمية لعله يساعدكم على تشخيص "الداء" الذي يكبلني ويكبح طاقاتي ويمنعني من المضي قدما نحو تحقيق الهدف الذي أصبو إليه (البحث عن رفيقة حياة تؤنس وحشتي وتقاسمني أحزاني ومسراتي).
أنا إنسان مرهف الحس وعاطفي للغاية ولا أطيق أن يشتمني أو ينهرني أو يرفع أحد صوته علي. ولو حصل وتعرضت للظلم أو الإهانة فإني أتمالك أعصابي ولا أسب أحدا ولا أوذي شخصا، ولكني أشعر في قرارة نفسي بالغضب والظلم والمرارة وأحتاج لبعض الوقت لكي أستعيد "لياقتي المعنوية".
وإليكم فيما يلي ملخص لمشكلتي:
أنا شاب في منتصف الثلاثينات، كبرت يتيما، والدي توفي وأنا صغير، في أسرة ينعدم فيها النظام والانضباط ولا تستطيع الأم -التي لا تعرف الكتابة والقراءة-أن تفرض وتحكم سيطرتها فيها على الأبناء.
باختصار إن الوضع الصعب الذي عشته في طفولتي (الضرب المبرح الذي كنت أتعرض له بانتظام وبدون سبب على الإطلاق من طرف اثنين من إخوتي) دون أن أجد من يحميني أثر علي في حياتي وجعلني أنفر من الزواج وتكوين أسرة وإنجاب الأطفال. فأنا لا أريد أن يتعرض أبنائي لأي مكروه وأخشى عليهم من المستقبل إذا (لا قدر الله) وافتني المنية وهم لا زالوا صغارا.
إن قرار الزواج ليس بالأمر الهين كما تعلمون نظرا لتعدد وتشابك الأبعاد والغايات التي تنطوي عليها العلاقة الزوجية. فالإنسان قد يقصد من زواجه إكمال دينه أو إعفاف نفسه، أو إنجاب الذرية، أو تكوين أسرة، أو كل ذلك وذاك.... أما أنا فلا أخفي عنكم بأن السبب الوحيد الذي يدفعني حاليا للتفكير في الزواج هو إيجاد متنفس شرعي لتصريف الغريزة الجنسية ليس إلا. ومهما كان هذا القصد جليلا فأنا أدرك جيدا بأنه ليس كافيا لنسج علاقة زوجية ناجحة ومثمرة.
إضافة إلى هذا فإن الجو الأسري المختل (أمية الأم وافتقاد الأب والقدوة) الذي كبرت فيه كان أرضية خصبة لالتقاط الأفكار والمعلومات المغلوطة عن العلاقة الزوجية. وهذا ما يفسر الكم الهائل من المفاهيم المغلوطة التي وجدت طريقها إلى ذهني أو بالأحرى استقرت في عقلي الباطن مثل استقذار العلاقة الجنسية وربطها بالرذيلة واعتبارها دنسا يلوث الكيان الروحي.
أما الآن بعد ما كبرت ومن الله علي بقدر متواضع من العلم فقد أدركت خطأ تلك الأفكار، ولكني لا زلت لا أقوى نهائيا على التخلص من هذا الإرث التربوي والثقافي الذي أنا أجتره معي دون رغبة مني في ذلك. والمشكلة التي تؤرقني حاليا هي أنني لا أستطيع أن أنفض عني غبار هذا الماضي السحيق الذي أثر علي ومنعني من السعي لتحقيق أجمل شيء في هذا الوجود ألا وهو الزواج وتكوين أسرة تقر بها العين ويسعد بها القلب.
بغض النظر عن هذا المشكل فأنا أحيا حياة عادية وعلاقتي بأهلي وأصدقائي وزملائي في العمل طيبة وتعاملي مع الناس مبني على مراقبة وخشية الله سبحانه وتعالى.
وأخيرا لكم مني جزيل الشكر والامتنان.
05/07/2025
رد المستشار
ولدي:
لا أحد يستطيع أن يلومك على كل المشاعر السلبية التي تتحكم في حياتك؛ فاليتم في حد ذاته تجربة مريرة لأي طفل، وغالبا تصنع عنده نقطة إشكال في حياته، سواء عدم الإحساس بالأمان، أو الخوف المستمر من المجهول الذي غالبا ما يحمل الخوف والقلق.
ثم إخوتك، وهم أيضا مساكين، فلقد كان اليتم مصيبة عليهم، ولكنهم نفسوا عن الغضب والقهر الذي نتج عن اليتم بالعنف عليك ضربا بلا سبب، ربما ليثبتوا أن الأب ما زال موجودا، أو بالعكس؛ ليبحثوا عنه، ربما يظهر فيعاقبهم على أفعالهم معك. الخلاصة أن هذه تجربة أخرى حتما تركت على شخصيتك خطوطا أخرى من القهر والألم.
ثم يأتي ضعف الأم -وليس أميتها- فالأمية وإن كانت نقيصة في الإنسان إلا أنها لا علاقة لها بقدراته على مواجهة المواقف بحزم وفهم، فكم من امرأة أمية أخرجت للعالم فطاحل ونوابغ في كل المجالات.
إذن كان ضعف الأم استكمالا للصورة الصعبة التي تحفر في ذاكرتك وشخصيتك: أنت ريشة في مهب الريح بلا ساتر ولا حماية... أنت ألعوبة في يد الأقوى بلا كيان ولا رغبات.
كل هذا يا ولدي كفيل بإتلاف أي شخصية وأي نفسية، إنما ولله الحمد مرت أشياء كثيرة بسلام... والأثر الباقي ليس عنيفا أو صعبا أو مستحيلا، بل إنه منتشر بين كثير من الشباب أصحاب الظروف العادية. إذن عليك التواصل مع الذات والخوض في لُب المشكلة ومواجهتها؛ لأنه يعتبر أمرا ضروريا.
وأنا لا أود أن أضعك في مرحلة الإنسان المريض أو غير المريض؛ لأن الزواج هو أمر شخصي، ولكن أرجع وأقول إنه هو الأمر الطبيعي فإن الزواج فيه السكينة والمودة والرحمة وهو آية من آيات الله، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
فهذا الرباط العظيم وهذا الرباط المقدس وهذا الرباط القوي لا شك أنه هو الأمر الطبيعي وغيره يعتبر أمرا غير طبيعي، فأنت في حاجة لتغيير المفاهيم، وفي حاجة للتفكر والتأمل أن الزواج فيه الرحمة والسكينة والراحة.
ولكن في النهاية أنت تحتاج لدعم نفسي... ولست القادرة على منحه لك، بل يتحتم عليك زيارة طبيب نفساني أو طبيب علاج مثلي يستخرج كل الطبقات الأليمة المدفونة في كيانك لتصبح خاليا من كل المشاعر السلبية، ولا يتبقى إلا كل ما بنيته لنفسك من إيجابيات وكونته في كيانك من خطوط طبيعية.
وحين أنصحك بذلك فأنا لا أتهرب من التعامل مع المشكلة، بل لأن هناك فعليا بعدا داخليا له مهما غلفناه بالمنطق والتفهم والاقتناع فسيظل يطل برأسه بين الحين والحين حتى في مجالات حياتية أخرى.
إن الألم شعور مثل أي شعور ويجب التعبير عنه، فإن لم يتم ذلك لأي سبب كما حدث في حالتك التي تضم القهر والألم وعدم الأمان فستظل تطل برأسها على شكل حالات نفسية مختلفة وإحساس بعدم الراحة أو الاستقرار يلازمك، وهذا لا يتأتى بالكلام على الورق، بل يجب أن يتم كما أخبرتك بالمواجهة الحقيقية.