قرأت مشكلة الأخ صاحب "القدرات المركونة"، والتي بعنوان :
حاسوب ولغات... أمل لملايين العميان م
أدهشني أن أسمع مثل هذه الصيحة من طالب ما زال يدرس في الجامعة وما زالت أمامه الأدوات والأساتذة والمختبرات؛ فقد تعودت على سماع هذا الكلام ممن تخرج ولم يحصل على عمل.أما من لا يزال في الجامعة فكان عهدي بهم دائما أنهم غارقون في الأحلام الوردية حول "وظيفة المستقبل" التي سوف تمد لهم ذراعيها لتحتضنهم دون عناء منهم ولا كدح! ولعل تنبهك إلى مشكلتك وأنت ما زلت طالبا في الجامعة يدل على وعيك ويساعد على تدارك حلها قبل أن تستفحل في قادم الأيام.
أسجل تعليقي وأقول لك بأني الآن أحضر الماجستير في هندسة الحاسوب والاتصالات لعل في ذلك ما يطمئنك إلى إجابة من خبير شعر بما تشعر به في مرحلتك الحالية، ولعلي أعطيك أجوبة تخصصية تفصيلية تفيدك في تخصصك الجامعي كما تفيدك في تحصيلك الثقافي والمعرفي.
لكن قبل أن أبدأ أود أن ألفت النظر إلى مشكلة تزيد مع الأيام استفحالا لدى الطلاب الجامعيين، وهي مسألة "إلغاء الذات" خلال عملية التحصيل العلمي، والركون إلى أسلوب التلقين أو "التلقيم" بالأصح الذي يمارسه كثير من الأساتذة في الكليات العلمية، وانتظار الفهم العملي ليأتينا في عالم الأحلام الجميلة، لكن الذي يحصل أن الكوابيس هي التي تأتي حينما نصطدم بالواقع المرير في عالم اليقظة!
لقد وصل الأمر ببعض أصدقائي المتفوقين والطموحين إلى أن يفكر في السعي إلى الدراسة في الخارج إذا حصل على قبول من إحدى ثلاث جامعات في العالم فقط! أشهر جامعة في بريطانيا أو كندا أو الولايات المتحدة! وحينما سألته عن عدد من الجامعات الأخرى المشهورة في تلك البلدان قال بأنه لا يطمح في الدراسة فيها!! لقد ألغى نفسه تماما من المعادلة وصار يظن أن البيئة وحدها هي التي ستعطيه ما يريد أما هو فعليه التلقي والتمتع بالمزايا فقط!
وهل ستتحسن أحوالنا المريرة –أخي السائل– إذا كنا نفكر بهذا المنطق المستسلم والمستلقي للظروف؟!
أوردت يا أخي في استشارتك أنك تركت التطبيق؛ "لأنه قد يتعارض مع رأي الأستاذ المقدس"، وما دمت قد تنبهت إلى أن رأي أستاذك ليس بمقدس، فما المانع من التجربة المنزلية وتنمية المهارات بصورة شخصية؟ وهل جميع أساتذتك هم من هذا الصنف الذي تشتكي منه؟ لا بد أن تبحث وتجد واحدا من الأساتذة الفاهمين في كليتك لتشرح له رغبتك في التطبيق العملي والفهم العميق لعله يشركك في عمله أو على الأقل يأخذ بيدك إلى مخرج قريب مما أنت فيه!
ثم تحدثت بأنك تريد "تطبيق كل ما تعلمته" وهذا مستحيل على المدى القريب إلا في حدود التطبيقات البسيطة والأساسية جدا، أما الخبرة العملية العلمية الرصينة في "كل ما تعلمته" فلا يمكن اكتسابها إلا بعد سنين طويلة من الممارسة المهنية والإطلاع الدقيق والاحتكاك مع الأقران بعد التخرج فكيف تطلبه وأنت ما زلت في الكلية؟
أنا لا أنكر عليك حرصك على فهم المسائل الأولية في كل علم له علاقة بتخصصك الجميل، لكن عليك أن تدرك يا أخي العزيز أن وظيفة الجامعة تتركز في وضع قدمك على بداية الطريق وتعريفك بالمجالات المتاحة أمامك والتطبيقات المختلفة في السوق. أما السير قدما في هذا المضمار فهو شأنك وحدك! فهل فكرت يوما في طلب إذن لتطبيق بعض التجارب العملية في مختبرات الجامعة؟ أو هل فكرت في التعرف على صاحب محل لصيانة الحاسوب لمعاونته في عمله واكتساب الخبرة ولو بالمجان؟ أو حتى بدفع شيء قليل من المال لقاء الخبرة المكتسبة؟
قلت بأنك تدرس هندسة الحاسوب ومع تسليمنا أن مثل هذه الدراسة تحتاج إلى عدة مختبرات لتوضيح مفاهيمها الأساسية، إلا أن الحاسوب نفسه هو أحد المختبرات التي عليك بقضاء ساعات طويلة في التدرب عليها استخداما وتشغيلا وبرمجة... فاسأل نفسك: ما هي قدرتك في مجال البرمجة؟ وكم أتحت لنفسك من الوقت كي تتقن هذه المهارة الأساسية لمثلك؟
وكي أكون منظما في إجابتي عليك فسأقوم بضرب الأمثلة العملية المتخصصة على "المسائل الثلاث" التي تناولها الدكتور أحمد عبد الله –حفظه الله – ثم أتجاوزها إلى نقاط هامة أخرى فأقول مستعينا بالله:
المسألة الأولى نقطة الانطلاق:
تدرس هندسة الحاسوب وتجيد أربع لغات مختلفة هذا يشير إلى امتلاكك مواهب ذهنية تتجاوز المسائل الرياضية إلى المسائل النحوية واللغوية والأدبية، وهذه نقطة انطلاق ممتازة! فمن أهم المجالات التي يعمل فيها باحثو الحاسوب في الوقت الحاضر هي ما يسمى بهندسة اللغات ومعالجة اللغات بواسطة الحاسوب، بل هناك ما يسمى بعلم اللسانيات الحاسوبية.
كما تعتبر الترجمة الآلية بواسطة الحاسوب -وهي جزء ضئيل مما ذكرت سابقا- من المجالات الساخنة التي تعمل فيها الدول المتقدمة لمتابعة العلوم في سائر أقطار العالم والسباق في تحصيله ونشره بدلا من تشغيل جيوش من المترجمين، وامتلاكك عددًا من اللغات يعني أن لديك مفاهيم ممتازة عن الفروق التركيبية بين اللغات إضافة إلى المهارات الحاسوبية، فهل بوسعك السعي لخدمة أمتك في هذا المجال؟
وأحيلك إلى كتاب قيم وسهل في هذا المجال يضعك في الصورة –كما يقولون- وهو: "الترجمة في الوطن العربي... نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة" من مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت.
المسألة الثانية: الاتصال بالجهات الجادة في هذا المجال:
هل فكرت بالانتساب إلى مؤسسة الـIEEE؟ وهي أكبر مؤسسة في العالم للمهندسين المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، وهي تضم ما يزيد على ثلاثين جمعية متخصصة كل منها له مجلاته ونشراته وأبحاثه ومؤتمراته، وبإمكانك الانضمام إلى جمعية الحاسوب وتلقي المجلات المختلفة والممتعة والاطلاع على تجارب الآخرين في هذا الاختصاص اذهب إلى Computer.org.
المسألة الثالثة: إقامة المشاريع المشتركة والندوات العلمية، والارتباط مع المهتمين في هذا المجال.
وانضمامك للجمعية المذكورة سابقا يفيدك أيضا في هذا المجال حيث تقرأ المقالات التي تختتم بعنجدان البريد الإلكتروني لكاتبيها من العلماء والطلاب في مختلف أنحاء العالم، وبإمكانك التواصل معهم وسؤالهم عما يهمك. كما أن لهذه المؤسسة فروعًا طلابية في الجامعات المختلفة، وهذا يعين على بدء النشاطات المختلفة بين أقرانك من عمل شروح أو دروس سريعة أو استضافة معارض أو استقدام متحدثين من الشركات المعنية في بلدك. وإذا لم يكن في كليتك مثل هذا القسم الطلابي فما المانع من التحدث مع أحد الأساتذة النابهين للبدء في ذلك؟
وأزيد على ذلك:
المسألة الرابعة: الوعي بالوضع التقني للأمة وحاجاتها العاجلة فيه، والمسألة الخامسة: المتابعة والاستمرارية في المطالعة، فهي تضعك على مشارف هذه العلوم وتزيدك منها، كما تجعلك أكثر توثقا وتأكدا وفهما لما تعلمته في الجامعة، وقد فصلت قليلا في هذا الموضوع في مشاركتي في الرد على أخينا "عاشق الاتصالات" قبل ما يزيد على السنة، فارجع إليه إذا سمحت.
وختاما أود أن أهمس في أذنك بأننا الآن في عصر التعلم الذاتي والتعلم عن بعد، فعليك بالاستعداد للتعامل مع عصرك بكل إيجابية واندفاع، لكن عليك بالصبر والتمهل وسؤال الله عز وجل التوفيق في أمرك كله. والتقدم نحو المجد والرفعة يحتاج إلى وقت مع جهد مخلص حثيث.
ولا أدري لماذا تحدثني نفسي بقصة هذا الياباني "أوساهيرا" الذي كان له الفضل في جلب "سر صناعة المحرك" إلى اليابان بعد سلوك طريق غير تقليدي في التعلم كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد عبد الله، اذهب إلى كتاب الأمة رقم (21) الفصل الرابع، واقرأ القصة واستمتع وتأمل وتعلم. ولا تنسني من دعائك في جوف الليل
09/8/2025
رد المستشار
الأخ الكريم، تطمح صفحتنا هذه إلى أن تكون أكثر من مجرد سؤال وجواب على الملهوف بشأن مشكلة عاطفية أو جنسية مع احترامنا لهذه أو تلك.
تطمح صفحتكم هذه إلى أن تكون بمثابة ملتقى للأفكار الجديدة النافعة في كل ميدان، وأن تكون قاعدة للانطلاق نحو جهاد نافع في دروب الحياة تبدو أمتنا أحوج ما تكون إليه.
فنحن كأمة لم نحارب بالسلاح منذ عقود طويلة، ويبدو أننا لن نحارب كدول وجيوش نظامية مدربة لفترة قادمة قد تطول، ولكن هل يعني هذا أن الحرب بيننا وبين أعدائنا متوقفة؟!!
بالعكس الحرب دائرة ومستعرة في مجالات أخرى تحتاج إلى نفس أطول، وإبداع أوسع، وعلينا أن نتقن إعداد أنفسنا ونواحي قوتنا في هذه الحروب الجارية في ميادين الإبداع والبحث والتكنولوجيا، والتغيير الاجتماعي والثقافي الذي تحتاجه أمتنا، والحرب الحقيقية هي مجموع هذا كله ثم حشد منتجاته في مواجهة بالسلاح لن ننتصر فيها –إذا وقعت-إلا إذا كنا مستعدين لها بما نقوم به الآن في كافة الميادين المذكورة.
لسنا من أصحاب الصوت العالي أو الوعود العريضة، ولا نرى مستقبلاً لهذه الأمة المسكينة إلا إذا تحمل كل منا مسؤوليته في تعميق وعيه ومعرفته، والتعاون مع غيره في وضع لبنات النهضة في المجال الذي يعمل به، أما الصراخ فيستطيعه كل أحد.
لذلك أجد نفسي ممتنًا لك ولأمثالك ممن يفتحون أمام إخواننا وإخوةنا آفاقًا كهذه، وأقترح أن نبدأ مجموعة اهتمام خاصة بالتكنولوجيا الرقمية أو المعلوماتية والاتصالية، ولا أدري إذا كان الأخ السائل الأصلي لديه وقت لإدارة مجموعة كهذه، أم أنك أنت لديك مثل هذه الفرصة؟!!
أقترح أن تشمل هذه المجموعة المهتمين بتطوير قدراتهم في استخدام تقنيات المعلوماتية، إضافة إلى تعميق البحث والحوار حول آثارها على البحث العلمي والوضع الثقافي والاجتماعي والنفسي في أمتنا، فهل من مجيب؟!!
أهلاً بك دائمًا، وشكرًا لك مجددًا، ولا تنسونا في دعاء الليل، فنحن أحوج ما نكون إليه.