أطراف الاستبداد:
وهناك أطراف (أو أضلاع أو أركان) ثلاثة للاستبداد تتحالف مع بعضها وتتآمر لخلق منظومة الاستبداد التي تحاول أن تستفيد منها (أو تتوهم أنها ستستفيد منها) ويحدد الدكتور/يوسف القرضاوي (فتاوى معاصرة, الجزء الثاني, دار الوفاء المنصورة, الطبعة الثالثة 1415هـ-1994م صفحة639) أطرافاً ثلاثة للاستبداد هي:
الأول : الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله, المتسلط على عباد الله, ويمثله فرعون.
والثاني: السياسي الوصولي, الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية, وتثبيت حكمه, وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان.
والثالث: الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية, فهو يؤيده ببذل بعض ماله, ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه, ويمثله قارون.
ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان, ووقوفه في وجه رسالة موسى, حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24,23]. {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}[العنكبوت 39] .
والعجيب أن قارون كان من قوم موسى, ولم يكن من قوم فرعون, ولكنه بغى على قومه, وأنضم إلى عدوهم فرعون, وقبله فرعون معه, دلالة على أن المصالح المادية هي التي جمعت بينهما, برغم اختلاف عروقهما وأنسابهما (انتهي كلام الدكتور/يوسف القرضاوي).
أدوات الاستبداد:
لابد للاستبداد من أدوات للترهيب والترغيب حتى تخضع له الرقاب ويسلم له العباد (أو العبيد) إرادتهم وخياراتهم.
والمستبد يعرف جيداً مواطن ضعف البشر ويحاول استغلالها بأبشع الطرق وأكثرها حقارة ودهاءاً في نفس الوقت. ونذكر من هذه الأدوات حسب ترتيب أهميتها:
1- السلطة: فالأب المستبد يستغل نفوذه المالي وقوته الجسدية ومكانته المعنوية في قهر أبنائه, والزوج المستبد يستغل حق القوامة(كما يفهمه) ويستغل تفوقه العضلي وربما المالي في إذلال زوجته ووأدها, والمسئول المستبد يستغل ما يملك من صلاحيات للتحكم في رقاب مرؤسيه, والحاكم المستبد يستغل جنوده (الشرطة والجيش) لإرهاب رعيته ويستغل النظام السياسي الموالى له لإضفاء الشرعية على أفعاله وتجريد خصومه من تلك الشرعية ووصفهم بالتآمر والخيانة والإفساد في الأرض وتعكير صفو الأمن.
والقرآن يصور هذا الموقف في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص 8]. وقوله {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} [القصص40].
2- المال: ومن لا يصلح معه الترهيب بالسلطة يصلح معه الترغيب بالمال, ولهذا يحرص المستبد على إمساك الثروة في يده لتكون وسيلة ضغط على من تحت يده ووسيلة ترغيب وشراء ذمم.
3- المناصب: ينتقى المستبد من بين الناس أولئك المتعطشين للمناصب والراغبين في العلو بأي ثمن فيستخدمهم ويستعملهم كدروع له وكأدوات لحمايته وتبريد أفعاله وتمجيده وتحلية صورته أمام العامة.
4- الإعلام: فالمستبد يحتاج لمن يدارى سوءاته ويزين عوراته ويسوق مشروعاته وأفكاره بين الناس ويبرر أخطائه ويحولها إلى انتصارات ويمارس الترييف للوعي والتخدير للعقول ودغدغة المشاعر طول الوقت. ومن هنا يمكن أن نعتبر الإعلاميين الموالين لأي مستبد بمثابة سحرة فرعون الذين كانت مهمتهم أن يسحروا أعين الناس بمعنى تزييف وعيهم.
5- رجال الدين: ونقصد بهم فئة معينة من رجال الدين يقبلون إضفاء شرعية دينية على فكرة الاستبداد وإضفاء شرعية على كل أفعال المستبد واستغلال المفاهيم الدينية لتبرير وتمرير كل ما يقوم به المستبد, وإصدار الفتاوى المبنية على تفسيرات تلوى عنق الحقيقة لمصلحة المستبد. وكل مستبد يسعى إلى تقريب عدد من رجال الدين (حتى ولو كان هو ملحداً أو علمانياً) لمعرفته بقيمة الدين لدى الناس وتأثرهم به.
المستبد يصنعه الناس ومن حوله:
قد يبدو للنظر القصير أن مجموعة المحيطين بالمستبد ضحايا له إذ يعانون من استبداده ويتحملونه على مضض وهذا صحيح من جانب واحد أما الجانب الآخر فهو أنهم شاركوا في صنع هذا المستبد, بعضهم شارك بالأقوال والأفعال التي ضخمت ذات المستبد (كالمدح والثناء والتبرير لكل صفات المستبد وأفعاله والمشاركة في تنفيذ مشروعات المستبد) وبعضهم الآخر شارك بالصمت والانكماش مما سمح لصوت المستبد أن يعلو عمن سواه وسمح لذاته أن تتمدد في الفراغ الذي انسحب منه الآخرون كرهاً أو طوعاً.
ولهذا كانت قاعدة تغيير المنكر واجبة وفاعلة على مختلف مستويات القدرة من اليد إلى اللسان إلى القلب(والاستبداد من أخطر المنكرات): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع, فبقلبه وذلك أضعف الإيمان »... "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
وعلى الرغم من أن التغيير بالقلب يبدو هافتاً وضعيفاً إلا أنه مهم جداً حين يعجز الإنسان عن التغيير بالوسائل الأخرى (اليد واللسان) فبقاء الرفض القلبي للمنكر هو بمثابة بذرة للخير وجذوة للحق تظل كامنة إلى أن تتاح لها الظروف للنمو والظهور ولولاها لاختفى الخير وضاع الحق إلى الأبد. والناس يدفعون ثمن سكوتهم على الاستبداد مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة ففي الدنيا فساد وضياع ومعاناة وفي الآخرة عذاب شديد, وكأن الاستبداد خطيئة دنيوية وأخروية معاً.
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجْره: «أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب» قال وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي, لا يهدون بهديي, ولا يستنون بسنتي, فمن صدقهم بكذبهم, وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منى ولست منهم ولا يردون على حوضي, ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم, أولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي» (رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح, كما في إلى الترغيب للمنذرى, والزوائد للهيثمى5/247) .
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم, فقد تودع منهم» (رواه أحمد في المسند, وصحح شاكر إسناده (6521) ونسبه الهيثمى للبزار أيضاً بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح 7/262, والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4/96).
النموذج المثالي للاستبداد (Prototype):
نعتد في علم النفس بما يسمى النموذج المثالي أو الأصلي وهو نموذج تتوافر فيه كل الأركان أو أغلبها على الأقل بحيث يصبح أصلح النماذج للقياس عليه وضرب المثل به, فهو يمثل ظاهرة معينة في أوضح وأتم صورها ومعانيها.
وإذا جئنا إلى موضوع الاستبداد نجد أن النموذج المثالي له يتمثل في قصة فرعون التي وردت في الكتب السماوية ووردت بقوة في القرآن الكريم وتكررت 74 مرة في 28 سورة من سور القرآن.
وهذا الحضور القوى المتكرر لقصة فرعون يشير إلى أن ما تمثله هذه القصة من استبداد يعتبر مرضاً عضالاً تحتاج البشرية لمواجهته, وهذا ما أيده التاريخ في كل مراحله فلم يحدث أن عانى البشر من شيء مثل معاناتهم من الاستبداد بصوره ومستوياته المختلفة.
وفرعون أصبح علماً على الاستبداد وقائداً معلماً لكل المستبدين من بعده فقد {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4], فالمستبد مستعلٍ متكبر طاغٍ يستضعف من يشاء يذبح الذكور ويستحى النساء ويفسد في الأرض.
وربما كان في ذبحه للذكور دلالة نفسية خاصة فالمستبد يخشى الرجال (الذكور) ويتوجس منهم خيفة لذلك يحيط نفسه بمن يقبلون التخلي عن رجولتهم, فهو يقوم بخصاء أو قتل الذكور حتى لا ينافسه أحد منهم ولا يرفع رأسه أحد.
وإذا غاب الرجال المنافسون أصحاب الكرامة والشرف والعزة قام بعد ذلك باستباحة النساء والإفساد في الأرض كما يحلو له. واستباحة النساء هنا تجمع في طياتها كل أنواع الملذات التي يحرص عليها المستبد, والإفساد من قتل ونهب وسرقة وتشريد وكذب... إلخ
وعلى الرغم من حذر المستبد (فرعون, أي فرعون) ويقظته وحرصه على التخلص من كل الرجال المنافسين أو المهددين لملكه إلا أن هذا الحذر لا يمنع نفاذ مشيئة الله في انهيار ملكه وتمكين أولئك الذين استضعفهم وأذلهم:{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ,َنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6,5] .
وفرعون وجنوده كأي مستبد يستخدم التعذيب ليرهب الناس {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ} [البقرة :49]، وفرعون يجلب على قومه الشح والفقر{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130].
وفرعون يبنى مجداً زائفاً قضت مشيئة الله أن يدمر{ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
وفرعون وحاشيته لا يؤمنون بآيات الله حتى وإن تظاهروا بالإيمان وتوشحوا بالدين {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ} [الأنفال: 52] ولسان حالهم يفضحهم فأفعالهم توحي بتكذيب آيات الله {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنفال:54]. ومصير فرعون وأعوانه الهلاك {َأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأنفال:54].
وفرعون لا يتورع عن استخدام كل الوسائل للدعاية لنفسه وتزيين صورته فلكل فرعون سحرة (إعلاميون) يمارسون تزييف وعى الناس وإبهارهم بالصورة أو بالكلمة أو بالفعل{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79].
وفرعون يحرص على تخويف الناس وفتنهم { عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]. وفرعون يستعلى دائما في الأرض ويتسم بالإسراف والطغيان وتجاوز كل الحدود { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (يونس:83).
وفرعون يحرص على التحلى بمظاهر الزينة والفخامة ليحيط نفسه بهالات الملك والعز ليبهر بها أعين الناس ويحرص على امتلاك المال ليضمن به النفوذ والقدرة ويستخدمه في شراء الذمم {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً} [يونس:88].
وفرعون لا يهدأ ولا ينام بل يتتبع أعداءه أينما ذهبوا بعيونه وببطشه {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس:90]. وفرعون يفتقد للرأي الرشيد {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود:97).
وفرعون لا يتردد أن يلصق التهم بمعارضيه لينفر الناس منهم {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} (الإسراء: من الآية101). وفرعون طاغ ومتجبر ومتجاوز كل الحدود في الظلم{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24]. وفرعون لا يكف عن المكر والتدبير وحشد كل إمكاناته للدفاع عن ملكه والاستعراض لقوته لإرهاب معارضيه {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60].
وفرعون ينحرف بقومه عن الجادة ويضلهم عن سواء السبيل {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]. وفرعون وأعوانه لا يكفون عن ظلم الناس لدرجة أن الظلم أصبح أحد صفاتهم المشهورة {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} (الشعراء:10و11). وفرعون يتنكر لوجود رب العالمين لأن طغيانه جعله يعتقد أنه أعلى قوة في الأرض {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23].
وفرعون يشترى كل شيء بالمال {فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء41]. وفرعون يوهم أتباعه أن له أسرار ومعجزات وقدرات هائلة {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُون} (الشعراء:44). وفرعون يتسم بالفسق والخروج عن طريق الحق {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِين} (النمل: من الآية12).
إن فرعون وهامان وجنودهما {الطاغية المتكبر والسياسي الوصولي وقوتهما العسكرية الباطشة} يمثلون ثالوثاً شيطانياً {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص: من الآية8)
وفرعون لا يتورع عن إعلان ألوهيته بشكل مباشر أو غير مباشر {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (القصص:38).
ويتشكل ثالوث شيطاني آخر من فرعون (الطاغية المستبد) وهامان (السياسي الوصولي الداهية) وقارون (صاحب رأس المال الجشع) يقول تعالى:{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} (العنكبوت:39).
وفرعون لا يتورع عن قتل معارضيه (تصفيتهم جسدياً أو معنوياً) أو محاولة قتلهم ظناً منه أن ذلك سوف يحل المشكلة{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر:26) وفرعون يحرص على حجب الرؤية والمعرفة والحقيقة عن شعبه حتى ينفرد وحده ببرمجة عقولهم وتزييف وعيهم {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: من الآية29).
ويظن فرعون أنه قادر على كل شيء, ويخدعه وزيره هامان ويوحي له بأن كل شيء ممكن وأن كل شيء رهن إشارته {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}[غافر: 36].
وفرعون من كثرة ما مارس الكذب والخداع يقع هو في نفسه في شرك ا لأوهام فيصدقها ويعانى هو نفسه من تزييف الوعي {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} (غافر: من الآية37).
وفرعون لا يصل إلى شيء في النهاية, فقد انهار كل فرعون على مدى التاريخ وما كيد فرعون إلا في تباب،{َوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (} [غافر: 45].
وفرعون لا يلقى جزاءه في الدنيا فقط بل ينتظره عذاب شديد في الآخرة, ليس هو وحده بل كل من انتسب إليه أو عمل معه{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر:46). ودخول فرعون وأعوانه أشد العذاب يدل على فداحة جريمة الاستبداد وما تفرع عنها من جرائم.
وفرعون مغتر بملكه ويظن أنه دائم وأنه يحميه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الزخرف:51).
وفرعون وأعوانه في كل العصور لا يعتبرون بما يصلهم من رسائل إنذار فيتجاهلونها رسالة وراء أخرى حتى يلقون المصير المحتوم { وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ• كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42.41].
وبعد فقد كانت هذه هي صورة وخصائص فرعون في القرآن كنموذج مثالي لطبائع المستبد وخصائص الاستبداد.
ويتبع >>>>: سيكولوجية الاستبداد (4)
واقرأ أيضًا:
الحوار وقاية من العنف / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / سيكولوجية التعذيب