تختلف الأعراض التي تظهر على مرضى الأمراض النفسية اختلافاً بينياً، فقد تكون الأعراض شديدة واضحة حتى يدركها العامة لأول مرة وهلة، وقد تختفي لدرجة أن يصعب تمييزها إلا لذوى الخبرة المتمرسين على اكتشافها وإدراكها مما يضطرنا أحياناً إلى إعطاء بعض العقاقير المثيرة كي تساعد على ظهورها وتمييزها. والأعراض المقنّعة لا تقل أهمية عن الأعراض الظاهرة بل قد تزيد، إذ أن إدراكها يكون في المراحل الأولى للمرض، تلك المراحل التي يمكن أن يعالج المريض علاجاً ناجحاً إذا نحن بذلنا الجهد الكافي للوصول إلى "التشخيص المبكر".
هذا وقد تكون الأعراض بالغة الشدة بحيث تضطرب معها علاقة الفرد بمجتمعه، الأمر الذي يجعل المريض عبئاً ثقيلاً على عائلته كما قد تكون خفيفة حتى أن المريض يستطيع أن يمارس عمله ويحافظ على مستوى إنتاجه وعلاقاته الاجتماعية، الأمر الذي قد يجعل ذهابه إلى الطبيب النفسي مدعاة لدهشة مخالطيه، غير أن هذه الأعراض الخفيفة قد تسبب لصاحبها من الألم والمعاناة ما لا يطيق، رغم مظهره السوي.. هذا فضلاًً عن أنها قد تتطور الأعراض إذا ما أهملت إلى أعراض أشد خطراً وأصعب علاجاً.
أما من ناحية النوع فإن الأعراض قد تؤثر على أي وظيفة نفسية فقد تظهر في وظائف التفكير أو العاطفة أو العمل أو في علاقة هذه الوظائف بعضها ببعض. لكل ذلك فإننا نتبع أسلوباً مفصلاً في فحص المريض حتى لا يفوتنا أي واحد من هذه الأعراض صغيراً أو كبيراً، فنبدأ بفحص المظهر العام وننتهي إلى الفحص العضوي الشامل وبذلك يمكننا الاهتداء إلى كافة الأعراض ما ظهر عنها وما بطن.
على أن فحص أعراض المريض هو فحص "طرفي" بمعنى أننا نفحص المظهر والسلوك الخارجي لنستنتج منه في النهاية التركيب الداخلي لأجزاء النفس ووظائفها، وهذه الطريقة نافعة وضرورية لمبتدئ ومن خلالها يجد الفاحص نفسه قادراً على النظر إلى التركيب العام لوجود المريض في مجتمعه وفي هذه الحياة. وقد يهتم بالفحص بتفاعل المريض الكلي للحياة أولاً وهذه الطريقة هي ما تسمى بالفحص "المركزي" فنعرف بها ومن خلالها طبيعة وجود المريض وهدفه في الحياة "بصفة عامة" ثم نتتبع مظاهر هذا الوجود من المركز إلى الطرف في بحث متدرج لاستكمال التفاصيل الظاهرية التي يمكن أن نستتبعها تبعاً لطبيعة هذا الوجود الشامل، وهذه التفاصيل ما هي إلا الأعراض.
1- المظهر العام
إذا نظرنا بدقة وعناية إلى المظهر العام للمريض أمكننا أن نعلم من حالته النفسية والعقلية الشيء الكثير مما يساعدنا في تشخيص المرض ومعرفة درجة خطورته، لذلك فإننا نحاول أن نفحص في المظهر العام ما يلي:
1- التكوين الخلقي Physique : يختلف التكوين الخلقي من شخص لآخر، فهناك الشخص النحيف Asthenic والبدين Pyknic وذو التكوين العضلي Athletic وذوى التكوين غير المنتظم Dysplastic وقد يتصف الإنسان بأكثر من صفة من الصفات في نفس الوقت، وهناك اعتقاد أن كل مرض نفسي يكثر تكوين خلقي معين وذلك لأن كل تكون جسمي يرتبط بتكوين الشخصية بشكل ما، فنرى أن الشخص ذو التكوين البدين أميل إلى المرح وتكون شخصيته انبساطية بينما الشخص النحيف يكون أميل إلى الانطواء.. وهكذا،؛
وقد لوحظ أن جنون الهوس والاكتئاب يكثر في التكوين البدين، بينما الهستريا والصرع يكثران في التكوين العضلي وأما النيوراستانيا فنجدها أكثر ما تكون في التكوين النحيف، ونجد الفصام كذلك في التكوين النحيف وغير المنتظم، لكل ذلك نجد أننا بملاحظة التكوين الخلقي للمريض يمكن تكوين فكرة عامة عن شخصيته ومرضه - ولكنها ينبغي أن تكون فكرة مبدئية قابلة للمناقشة والتحوير لأن أي مرض يمكن أن يحدث في أي تكوين.
2 - تعبيرات الوجه: تدل تعبيرات الوجه على حالة المريض الانفعالية فمثلاً ترى المريض المكتئب يظهر الحزن واضحاً على وجهه بينما نرى المريض في حالة الهوس (لا سيما الهوس الخفيف) يطل السرور من عينيه.. ونجد الوجه بلا تعبير إطلاقاً في بعض حالات الفصام. على أننا لا ينبغي أن نخدع في تعبير الوجه فكثيراً ما يبتسم المريض "وقلبه حزين" (على حد تعبيره) وكثيراً ما يكون الابتسام دالاً على موقف سخرية أو هزئ أو عدمية وليس على مرح أو سعادة لذلك فأن الدقة في معرفة ما وراء الابتسام مهمة ولازمة.
3 - حالة الملابس: طريقة الإنسان في ارتداء ملابسه وحالة هذه الملابس ولونها قد تساعد على معرفة شخصية الإنسان ومدى انفعالاته، فارتداء الملابس السوداء قد يدل على الحزن، وإهمال الملابس علامة على عدم الاهتمام والاضطراب وهكذا.. وكذلك الحال في المرض النفسي فقد تكون الملابس نظيفة وأنيقة كما في حالات الهستيريا، أو قذرة وممزقة كما في حالات الهياج، أو غير متناسقة وشاذة مما يدل على وجود اضطراب في تفكير المريض، ويغلب هذا في مرض الفصام. كما قد نجد مريض "الهوس الخفيف" وقد ارتدى ملابساً زاهية الألوان جداً، وان كانت فتاة أو سيدة فقد تلبس ملابس مبهرجة.
4 - حالة الشعر: إن حالة الشعر كحالة الملابس تساعد على الاستدلال على الحالة النفسية للمريض، فقد يكون الشعر طويلاً أو قصيراً بشكل غير عادي، وقد يكون نظيفاً ممشطاً أو قذراً مشوشاً، وقد يكون للشعر دلالة خاصة: فالمريض الذي يترك خصلة من شعره على جبهته بطريقة معينة "قصة" قد يشير ذلك إلى احتمال أنه يعاني من ضلال العظمة وأنه يعتقد أنه "هتلر" وكذلك المريض الذي يحلق رأسه بالموسى قد يكون متقمصاً شخصية أحد ممثلي السينما الصلع.
5 - الوضع Posture: قد يكون وضع المريض (الوقفة أو الجلسة) ذا دلالة خاصة تفيد في التشخيص، ومثال ذلك أن المريض الذي يضع يده بصفة دائمة في فتحة قميصه قد يكون معتقدا أنه "نابليون بونابرت" والمريض الذي يمد يده تجاه الشمس باستمرار قد يعنى هذا أنه يعبدها أو أنه يتشبه بفقراء الهنود... وهكذا.
6 - الحركة Motor activity: يختلف النشاط الحركي للإنسان بتغير حالته الانفعالية. فأننا قد نرى الشخص السعيد المرح كثير الحركة والكلام، كما قد نرى الشخص الحزين بطيء الحركة.. وهكذا، وفى المرض تختلف الحركة كذلك من حيث الكمية والنوع. فمن حيث الكمية قد تكون الحركة قليلة ( في الاكتئاب مثلاًً) أو كثيرة في الهوس، ومن حيث النوع قد تتصف الحركة بطابع خاص يحتاج إلى توضيح وإفاضة نورده فيما يلي:
7 - أن الحركة قد تتصف بالتكرار كما يبدو في الصور التالية:
(أ) الأسلوبية Stereotypy: وهى حركة أو مجموعة حركات غريبة يعيدها المريض باستمرار بطريقة متواترة:
وذلك مثل عمل حركة تعبيرية معينة بواسطة عضلات الوجه (كرفع الحاجبين مثلاًً) ثم يكرر هذه الحركة بطريقة مستمرة، أو مثل لف اليدين على بعضهما وكأنه يغسلهما دون توقف.. الخ وقد تظهر الأسلوبية في الكلام فيكرر المريض بعض الكلمات بطريقة مستمرة دون أن يقصد معناها ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المقام أن الكلام تفكير ثم تنفيذ حركي لهذا التفكير باستخدام حركة أعضاء الكلام كالشفتين واللسان.. الخ.
على أن الأسلوبية تتم عادة من وراء وعى المريض بحيث إذا سئل عما يفعل لدهش أو لم يجد تفسيراً، هذا إن أجاب.
(2) الانثنائية الشمعية Flexibilities Cerea: في هذه الحالة يكون التكرار هو تكرار الوضع أي ثباته واستمراره، فيمكن الفاحص أن يضع أحد أطراف المريض أو حتى جذعه أو رقبته في أي وضع ثم يتركه. فنجد أن المريض يستمر على هذا الوضع لمدة طويلة تفوق المدة التي يمكن للإنسان العادي أن يتحملها بكثير، وذلك لان خاصية التعب العضلي الفسيولوجي تضطر الإنسان العادي إلى أن يغير ن الوضع الثابت المتعب إلى وضع مريح، بينما يضطرب هذا الإدراك في هذا المريض. وتسمى هذه الظاهرة بالانثنائية الشمعية لان الأطراف تنثني معنا كيف شئنا وكأنها مصنوعة من الشمع إذ يمكن تشكيلها ووضعها في أي صورة.
(3) اللوازم tics: وهى حركة بسيطة متكررة تدل على عادة متأصلة يصعب التخلص منها ومثال ذلك الجفنين وفتحها (البربشة) أو رفع الحاجب أو تحريك الفم بطريقة معينة.. الخ ويحدث هذا أحياناً للأشخاص الأسوياء كما يحدث عند المصابين بالعصاب.
ب - وقد تتصف الحركة بالاستهواء Suggestibility: أي قابلية المريض آلياً لآية أو أمر ألقي إليه دون تفكير أو تبصر حتى ولو كانت هذه الأوامر شاذة أو ضارة، فلا يستطيع مثلاًً أن يمتنع عن إخراج لسانه إذا ما طلب منه ذلك حتى لو هددناه أننا سوف ندخل إبرة في لسانه إذا ما أخرجه.
(2) رجع الكلام Echolalia ورجع الحركة Echopraxia : وهي أن يقلد المريض حركات الشخص الذي يتحرك أمامه حرفياً: فإذا رفع يده رفع المريض يده كذلك وإذا أخرج لسانه قلده المريض تقليداً أعمى.. وهكذا، أما رجع الكلام فهو أن يعيد المريض الكلمات، وكله من المحاركة (رجع الحركة) والمصاداة (رجع الكلام) تتمان بطريقة آلية وهما صورة من صور الطاعة الآلية (ونود أن نشير إلى أن رجع الكلام ما هو إلا نوع خاص لرجع الحركة فليس الكلام إلا نشاط حركي صوتي).
(3) الخلف Negativism : هو أن يستجيب المريض لأي أمر يلقى إليه استجابة عكسية، فإذا طلبنا منه رفع يده خفضها وإذا طلبنا منه الالتفات إلى اليمين التفت إلى الشمال وهكذا... و"المقاومة" Resistance نوع من الخلف وفيها لا يقوم المريض بالفعل الذب يطلب منه ولا يقوم بالفعل العكسي ولكنه يقاوم الأمر ولا يأتيه.. ويتضح أنه يرفض الطاعة لأي أمر، فإذا طلبنا مثلاًً من المريض الدخول إلى الحجرة وهو عند الباب فإنه يظل واقفاً عند الباب لا يدخل ولا يخرج ويلاحظ أن الخلف والمقاومة هما عكس الطاعة الآلية على طول الخط. لذلك تسمى الطاعة الآلية استهواء إيجابي positive suggestibility أي الاستجابة إلى الأمر كما هو، كما يسمى الخلف والمقاومة استهواء سلبي Negative suggestibility وهو الاستجابة إلى الأمر بفعل عكسه أو عدم فعله إطلاقاً. ونلاحظ كذلك أن التصلب الشمعي الذي هو تكرار لموضع معين ما هو إلا طاعة آلية حركية اتصفت بصفة التكرار.
8 - الذهول stupor: وهنا يبدو المريض وكأنه قد تجمد في موضعه، فلا تبدو منه أية حركة ولا يظهر على ملامح وجهه أي تعبير، وإذا اشتدت الحال أصبح لا يستجيب للمؤثرات، حتى وان كانت مؤلمة. وقد يتصف بأحد مظاهر الاستهواء مثل "الخلف" فيقاوم المريض أية محاولة لتغيير موضع أطرافه. ويسمى حينئذ "الذهول المخالف"، أو مثل الطاعة الآلية أو التصلب الشمعي... الخ.
2- الكلام
للكلام أهمية مزدوجة من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، أما من ناحية الشكل فأنه كمظهر حركي يسرى عليه كثير مما ذكر في التغيرات التي تطرأ على الحركة كالقلة والبطء والتوقف والمصاداة (وقد سبق الإشارة إلى ذلك) وهو من ناحية الموضوع يدل على محتوى الفكر سواء كانت هذه المحتويات مضطربة أو سليمة فالكلام قد يختلف من حيث الكم والسريان ومدى تحقيقه لوظيفته الاجتماعية، واللغة هي الأداة الأولى للتكيف الاجتماعي لأنها الأداة الأولى للتواصل بين البشر.
أ - فمن حيث الكم:
1 - قد يكون الكلام كثيراً بدون داع فيتداعى بانطلاق وحتى بدون توجيه أسئلة وتسمى هذه الظاهرة "الثرثرة" volubility
2 - وقد يقل الكلام إلى درجة كبيرة فيظهر في صورة إجابات مقتضبة للأسئلة، وفى هذه الحالة عادة لا يتكلم المريض ابتداء وإنما يتحدث رداً على سؤال.
3 - وقد ينعدم الكلام نهائياً فيعجز المريض عن الكلام أو حتى عن النطق بأي صوت وتسمى هذه الحالة أحيانا "البكم" Mutism
ب - ومن حيث سريان الكلام stream of talk قد يطرأ عليه ما يلي من تغيرات في السرعة أو في الاتجاه.
1 - قد يكون سريان الكلام بطيئاً كما في حالات الاكتئاب.
2 - قد يكون سريعاً متصلاً كما في حالات الهوس الخفيف.
3 - وقد يتوقف سريانه فجأة وبدون أي سبب ويسمى ذلك "العرقلة" Blocking
4 - وقد يتخذ مجرى الكلام طرقاً جانبية فيتطرق الحديث إلى تفاصيل لا داعي لها ولكنه يصل إلى غرضه في النهاية وتسمى هذه الظاهرة "التفصيل" Circumstantiality ومثال ذلك ما نراه في الذين نطلق عليهم لفظ "الرغاي" كالذي يحكي حادثة ذهابه إلى السينما قائلاً: "نويت امبارح أروح السينما. ولبست البدلة الزرقة اللي اشتريتها من محل شركة بيع المصنوعات اللي في آخر الشارع قدام بتاع السجاير وبعدين لبست عليها الكرافتة الحمراء وفيه ناس بيقولوا أن الأحمر على الأزرق ما ينفعش، لكن أنا رأيي أن الأحمر النبيتي يليق على الأزرق، لكن الأحمر الطرابيشي لا. وبعدين....' ويستمر في وصف تفاصيل سيره في الشارع وأي أتوبيس ركب، وأي شخص قابل، وهكذا... ولكنه في النهاية يذكر أنه وصل إلى السينما، وبذلك يفي بالقصد الذي قصد إليه في أول الكلام.
5 - وقد يغير المريض مجرى كلامه نهائياً وذلك استجابة لمؤثر داخلي أو خارجي مثل كلمة عابرة وردت أثناء الكلام، وهو عادة لا يصل إلى غايته أبداً ويحدث هذا في ظاهرة "طيران الأفكار"، ويحدث هذا عادة في الهوس ومثال ذلك أن الذي أخذ يحكى حادثة ذهابه إلى السينما قد تنحرف حكايته بعد كلمة "الطرابيشي". إلى سبيل آخر تماماً فيقول '........ وحتى الطرابيش راحت عليها. هوه حد عاد بيلبس طربوش اليومين دول.. أنا شخصياً ما اعرفشي حد بيلبس طربوش إلا خالي، وهوه قاعد في البلد واسمه زكى أفندي، مع انه لا أفندي ولا حاجة، بس علشان لابس طربوش وجلابية.. والجلاليب أريح من البيجامات في اللبس في الحر... وحر السنة دي ألعن حر مر على مصر من 25 سنة يعني من أيام الثورة ما قامت، حاكم الثورة دي أحسن من ثورة 1919...' ويستمر هكذا ولكنه لا يصل أبداً إلى إكمال حديثه الذي بدأه وهو أنه ذهب أمس إلى السينما.. مثلما كان الحال في التفصيل، فالفرق بينهما هو فرق في الدرجة ومقدار التشتت.
جـ - وقد يتصف الكلام بالتكرار ومن أمثله ذلك ما ذكرنا من قبل ونحن نتكلم عن الحركة حيث أن الكلام حركة صوتية وأهم تلك الأمثلة.
1 - الأسلوبية Stereotypy: وهى تكرار لكلمات معينة لا يظهر القصد منها واضحاً، فنرى مريضاً يكرر ليل نهار عبارة مثل. الإشارة إما حمراء أو خضراء... الإشارة إما حمراء أو خضراء... وقد يرمز هذا إلى معنى خفي يدل على صعوبة اختيار الحلول الوسطى التي تعتبر أقرب إلى الواقع ولكن ذلك المعنى قد لا يبدو للفاحص من أول وهلة. وقد يجيب المريض على كل الأسئلة بنفس الإجابة فإذا سئل ما اسمك؟ قال: "الحمد لله" ثم سئل: أين أنت؟. قال "الحمد لله.. ثم سئل: في أي الأيام نحن؟" أجاب، الحمد لله." وهكذا .. وقد تشير هذه الظاهرة إلى الجمود أو رفض التواصل مع الآخر أو الانغلاق على الداخل أو العناد.. الخ.
2 - المصاداة Echoia: "رجع الكلام" وقد ذكرنا أنها تكرار الكلام الذي يسمعه المريض أو تكرار أواخره، ومثال ذلك أنك إذا سألت مريضاً ما: ما اسمك؟.. قال... ما اسمك؟ وإذا سألته: أنت فين؟.. قال... أنت فين؟ فإذا قلت له: لا تكرر ما يقال...، فانه قد يرد: يقال... يقال... وكأنه صدى لما يسمع.
د - قد لا يؤدى الكلام وظيفته الاجتماعية فلا يفي بالغرض منه وهو التفاهم، وقد يكون السبب في هذا عدم القدرة على تكوين الجملة المفيدة، ويكون هذا دليلاً على اضطراب في القدرات العقلية أو في التفكير، وقد يصل الأمر إلى التعبير بلغة جديدة لا يعرفها إلا المريض حتى أن العامة يطلقون على مثل هذه الظاهرة "بيرطن" "بالسرياني" وتصيب هذه الظاهرة المرضى العقليين وتسمى هذه الظاهرة "اللغة الجديدة". Neologism
هذا وقد يكون اختلال وظيفة الكلام نتيجة لصعوبة في التعبير ذاته أي صعوبة في النطق مثل حالات التهتهة Stuttering وهي حركة كلامية يصعب إيقافها كأن يقول "اسمي محمد محمد محمد محمد محمد محمد،....... محمد" أو العقلة stammering وهى وقفة كلامية يصعب تحريكها كأن يقول "م م م م م مش قادر أنطق".. وقد يكون محتوى الكلام مضطرباً، وفى هذه الحالة تكون دلالة اضطرابه هي اضطراب التفكير مما سيرد ذكره.
3 - اضطراب الفكر Thought Disorder
قد يضطرب نشاط الفكر في أي من مظاهره وهي: سريانه، ومحتواه والتعبير عنه، والظاهرة الأخيرة -أي التعبير عن الفكر- تتم بالكلام أو بالنشاط الحركي الآخر كالإشارات والإيماءات، وقد درسنا مظاهر اضطرابهما.
أ - اضطراب مجرى الفكر stream disorder: الأفكار دائمة السريان في حالتي اليقظة والنوم مثلها في ذلك مثل الدم الذي يسرى في الشرايين والأوردة بدون انقطاع، والإنسان قد يدرك حركة التفكير المستمرة ويوجهها فيفكر بإرادته في مواضيع بذاتها ويكون التفكير هنا شعورياً، وقد يحدث سريان الفكر دون أن يتنبه الإنسان لحدوثه أو يضبط اتجاهه ويكون التفكير آنذاك لاشعورياً، وكما أن القلب هو الذي يدفع الدم إلى السريان باستمرار فإن العاطفة والدوافع هي التي تدفع الأفكار إلى السريان كذلك - وقد يضطرب سريان الفكر بصورة من الصور التالية:
1 - فقد يبطيء مجرى الأفكار فيجد المريض صعوبة في التفكير بانطلاق ويحدث هذا في الاكتئاب وقد تسمى هذه الظاهرة "بطء التفكير" ويكون هذا البطء مصحوبا عادة بصعوبة تكوين الأفكار وتسمى هذه الظاهرة "صعوبة التفكير".
2 - وقد تنطلق الأفكار في سرعة وعجلة أكبر من السرعة العادية، تصل أحياناً إلى حد الطيران وتسمى هذه الظاهرة "طيران الأفكار" وقد تحدثنا عنها، والحقيقة أن الأفكار في هذه الحالة تكون تحت تأثير العاطفة الجامحة (في مرض الهوس مثلاً) لدرجة تجعلها تحت رحمة جميع المؤثرات الداخلية والخارجية. فبينما يعبر المريض عن فكرة معينة. يتأثر سمعه أو بصره أو أي حاسة أخرى بمؤثر آخر سرعان ما يسترعى انتباهه، وقد يكون هذا المؤثر فكرة داخلية أو كلمة من الفكرة الأولى، فتتحول أفكاره في الاتجاه الجديد.
3 - وقد يتوقف للحظة أو لحظات ثم يعود سريانه ولكن في موضوع، آخر، ويسمى هذا "عرقلة التفكير" Though Block وفى الحالات المبكرة قد يعاود السريان في نفس الموضوع إلا أن المريض ذاته يشكو من هذا التوقف وهذه العرقلة.
ب - اضطراب محتوى الفكر Thought Content Disorder:
1 - قد يضطرب محتوى الفكر بشكل عام: فنجد أن المحتوى كثير بدرجة غير عادية، أو هو يكثر فجأة وكأن الأفكار في حالة ضغط مرتفع (مثل نوبات حالة ضغط الدم المرتفعة إذا ما شبهنا الأفكار بالدم) وتسمى هذه الحالة "ضغط الأفكار" pressure of thought وقد يكون المحتوى ضعيفاً وهنا نطلق على هذه الظاهرة "فقر الأفكار" poverty of thought وقد يشكو من أن الأفكار توضع في رأسه دون إرادته وتسمى هذه الظاهرة إقحام الأفكار thought insertion وكل من انتزاع الأفكار وإقحام الأفكار وإذاعة الأفكار تدل على وضع سلبي للغاية فيبدو المريض كما لو كان لا إرادة له في التحكم في فكره ويدرج ذلك أحياناً تحت ظاهرة "السلبية"، وقد يكون اضطراب محتوى الفكر اضطراباً نوعياً خاصاً، يعنى وجود صفة خاصة أو تفكير شاذ بذاته، ومن صور ذلك ما يلي:
1 - الانشغال: preoccupation وهنا يدور التفكير حول موضوع ما.. بشكل يطغى على سائر الموضوعات الأخرى رغم أهميتها، كأن ينشغل المريض بذكرى وفاة ولد له أو بالسعي لشغل وظيفة ما.. الخ، ويحدث هذا للأسوياء, ولكنه قد يشتد فيعطل كل اهتمام آخر ويصبح بذلك مرضياً.
2 - الوساوس obsession: حيث يجد المريض نفسه مضطراً إلى التفكير في موضوع بذاته أو حول فكرة معينة رغم كون هذه الفكرة شاذة أو تافهة ورغم يقينه بغرابتها. ورغم محاولته التخلص من التفكير فيها، إلا أنه لا ينجح في كل ذلك فلا يستطيع ضبط أفكاره, وأحياناً تتحول هذه الأفكار إلى سلوك لا يستطيع المريض منعه، فمثلاً إذا تشاءم إنسان من رقم 13 بدرجة مرضية أخذ يفكر فيه أو يخاف منه لدرجة أنه لا يمكنه أن يسكن في منزل رقمه13 ولا يستطيع أن يركب سيارة رقم 13 أو يمتنع عن الخروج من منزله في أيام 13 من كل شهر أو يرفض أن ينفذ قرار النقل إلى وظيفة في "مديرية التحرير" لان عدد حروفها 13 أو يمتنع عن المشي في "شارع '26 يوليو" لان 26 ضعف العدد 13 أو "شارع قصر العيني" لان عدد حروفه 13 .... وهكذا.
3 - قد يتصف محتوى التفكير بالتحيز، فيتبع عقدة خاصة، عادة ما تكون ذات صبغة عاطفية، وينبع من الذات ويعود إليها دون الواقع فيكون أقرب إلى الخيال ومحدد بالرغبات والدوافع ويسمى هذا النوع "التفكير الذاتي" Autistic Thinking.
4 - وقد يكون التفكير ملوثاً بأفكار غريبة وغامضة أو شبه فلسفية معوقة في السطحية والسفسطة إلى درجة يتعذر معها التفكير المثمر.
5 - تناقض الأفكار قد يحدث أن توجد فكرتين متضاربتين في تفكير الإنسان في نفس الوقت ولا يستطيع المريض التخلص من أيهما على حده، بل يظلان معاً رغم تعارضهما.
ويطلق تعبير الاضطراب التركيبي للفكر Formal thought disorder على الأعراض التي تدل على خلل في عملية التفكير ذاتها من حيث أنها تسلسل مترابط بطريقة منطقية عامة تجيب على تساؤل مشكل أو تحقق فرضاً قائماً، ولعل اختلال هذا التسلسل والترابط بين الأفكار التي توصل إلى هدف التفكير الأساسي هو أهم ما يميز مرض الفصام ويظهر كأعراض في صورة عدم الترابط، والغموض، والارتباط السطحي، وعرقلة الأفكار وفقرها، كما يذهب آخرون إلى تجميع بعض الأعراض مثل إقحام الأفكار، وانتزاع الأفكار، وإذاعة الأفكار تحت عنوان اضطراب ملكية الأفكار thought possession
6 - الضلال: الضلال هو اعتقاد وهمي خاطئ يتميز بأنه:
(1) لا يتفق مع الواقع
(2) ولا يمكن تصحيحه بالحجة الصادقة والمنطق السليم
(3) ولا يتناسب مع تعليم المريض وبيئته.
وقد تكون الضلالات أولية primary delusion أي أنها تظهر دون سابق إنذار، وتحمل معها قوة الإقناع بها (دون أي حاجة إلى إثبات أو دليل) كأن يعتقد المريض فجأة أنه مضطهد من المجتمع أو من أحد أفراده بالذات - وقد تكون ثانوية secondary delusion بمعنى أن تكون خاطئة ولكنها قائمة على اضطرابات أخرى أساسية مثل "ضلال أولي" أو "هلاوس" أو "اضطرابات حسية أخري" ومثال ذلك أن يكون ضلال العظمة تفسيراً لضلال الاضطهاد فيقول المريض أن الناس يضطهدونه إذ أنه عظيم من العظماء.. أو أن الهلاوس التي يسمعها في أذنيه في صورة رنين إنما هي نتيجة لتسلط بعض الناس عليه. وتأثيرهم فيه.. وهكذا.
وقد تكون الضلالات مرتبة systematized Delusion متسقة منطقية رغم بعدها عن الواقع فتكون الأفكار رغم غرابتها متسلسلة بطريقة مقنعة فيكفى قبول الفكرة الأولى فيها لقبول بقية الأفكار، فمثلاً إذا قال مريض أنه حصل على شهادة دكتوراه من جامعة لندن وأنه يعمل أستاذاً في الجامعة وله مؤلفات كذا وكذا وسوف يلقى محاضرات كيت وكيت.. الخ، فانه يكفى قبول فكرة حصوله على الدكتوراه لقبول بقية الأفكار المترتبة على ذلك دون أن يبدو فيها اضطراب أو غرابة، ويحدث هذا عادة في حالات الضلال المنتظم.. وتسمى أحياناً "حالات" البارانويا.Paranoid State ولكن قد تكون الضلالات مشوشة غير منتظمة Un systematized فلا تسلسل فيها ولا رابط بينها ولا يقنع السامع بموضوعها ويحدث هذا عادة في "الفصام".
وهناك أنواع كثيرة من الضلالات من حيث محتواها وتفاصيلها:
أ - ضلال الإشارة Delusion of Reference: وفي هذا النوع يعتقد المريض أن كل ما يحدث حوله يشير إليه، فإذا غمز أو همس إنسان لجاره، أو حتى إذا ابتسم أو سعل أي شخص في وجوده اعتقد أنه يقصده بذلك، وأحياناً تتسع هذه الدائرة فتشمل ما يقرأ في الصحف والمجلات، أو ما يسمعه أو يراه في الإذاعة والتليفزيون فيعتقد المريض أن بعض هذه البرامج أو المقالات موجه إليه للتحذير أو التهديد أو غير ذلك.
ب - ضلال الاضطهاد Delusion of Persecution: وهنا يعتقد المريض أن شخصاً ما، أن هيئة أو جماعة تضطهده. فيقول مثلاً أن أمه تكرهه وتنوى أن تضع له السم في الطعام، أو أن رئيسه في العمل هو سبب كل المصائب لأنه يضطهده ولا يعطيه حقه (في حين أنه يكون قد نال كل ترقياته وعلاواته في أوقاتها) أو أن هناك من يدبر له أمراً، أو أن المسيحيين جميعاً يترصدون له لكي يقتلوه لأنه مسلم وموحد بالله... وهكذا.
ج- ضلال العظمة Delusion of Grandeur: وهنا يعتقد المريض أنه شخص مهم بصورة خاصة، فيؤمن أن له قوة جسمية أو عقلية هائلة أو أنه رجل عظيم، أو مخترع فذ، أو مستكشف أو ملك أو إمبراطور أو رئيس جمهورية أو نبي مرسل أو حتى الإله نفسه.
د - ضلال الإثم واتهام النفس Delusion of sin: وهنا يعتقد المريض أنه مذنب، أو أنه ارتكب من الخطايا ما يستحق من أجله التعذيب والعقاب وعادة ما يطلب العقاب بوسائل وحشية مثل الرجم بالحجارة أو الحريق في أماكن عامة حتى يكفر عن الذنب الذي يتصور أنه ارتكبه.
هـ - ضلال التأثير Delusion of Influence : وهنا يعتقد المريض أن هناك من يؤثر عليه فيدفعه إلى التفكير والتصرف دون إرادة منه، أو يعتقد أن هناك كهرباء أو لاسلكي مسلط عليه، يؤثر فيه ويحكم تصرفاته ويوجهه، ويدل هذا الضلال على السلبية والقدرية لذلك يسمى أحياناً "ضلال السلبية" Passivity delusion
و- ضلال تغير الكون Delusion of Derealisation: ونعنى بذلك الضلال الذي يتعلق بالكون وما فيه بما في ذلك المريض نفسه، فأحياناً يعتقد المريض أن كل ما حوله قد تغير كالمنازل والشوارع والناس والجيران والأصدقاء وحتى أفراد أسرته أصبحوا جميعاً، أو بعضاً منهم غير ما كانوا، وهناك نوع آخر يشبه هذا الضلال "ويسمى ضلال تغير الشخص" Delusion of Depersonalization وفيه يعتقد المريض أنه هو نفسه قد تغير وأصبح شخصاً آخر كلية، ولابد أن نميز بين هذا الضلال وبين خبرة تغير الكون والذات Depersonalization Experience حيث يكون الاضطراب في الإدراك مصاحب بانفعال خاص، أما هنا فإننا نعني ثبات الفكرة الضالة على المستوى الذهني أكثر فأكثر.
ز- الضلال الحشوي الجسمي Hypochondriacal Delusion: وهنا يعتقد المريض بوجود مرض في بعض من أجزاء جسمه، ويكثر المريض، من وصف الآلام التي يشعر بها والتي تشبه في عمومياتها ما يصفه المرضى المصابون بأمراض باطنية غير أنها لا تتفق وأعراض أي مرض عضوي معين، ويثبت الفحص الإكلينيكي والأبحاث المختلفة خلو الأحشاء والأعضاء من الأمراض العضوية، غير أن المريض لا يقنع بذلك، وحتى إن اقتنع، يكون اقتناعه سطحياً ومؤقتاً يزول بعد فترة قصيرة.
جـ - ضلال الانعدام Nihilistic Delusion: قد يبدو أن ضلال الانعدام هو درجة قصوى أو المرحلة النهائية لضلال تغير الكون أو تغير الشخص أو الضلال الحشوي الجسمي فهنا يتحدث المريض ويعتقد في انعدام الأشياء أو عدم وجودها أصلاً، فأحياناً يعتقد أن معدته غير موجودة، فهو لا يأكل ولا يشرب، أو أمعاءه غير موجودة فهو لا يتبرز أو أن مخه غير موجود فهو لا يفكر، وقد يعتقد أن شخصه غير موجود وجوداً حقيقياً وأنه ظل وليس له كيان وقد يعتقد أن الأشياء من حوله قد انعدمت فينكر وجود والده أو والدته أو ابنه رغم وجودهم جميعاً.
ويتبع >>>>>: أعراض الأمراض النفسية2
نقلا عن موقع أ.د. يحيى الرخاوي من كتاب مبادئ الأمراض النفسية.
اقرأ أيضا:
هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم / صحوة التيار الديني وانحسار التيار الأخلاقي