ما هو الذكاء....؟
إن الحيرة التي نقع فيها ونحن نبحث عن تعريف للذكاء ليست جديدة ولا غريبة، فكثير من الألفاظ التي نستعملها ونفهم معناها ومضمونها لا نستطيع تحديد أبعادها أو مرماها بألفاظ محدودة أخرى، وليس هذا الأمر غريب عن اللغة، فاللفظ أساساً رمز مزيد يستدل به مفهوم تعارف عليه مجموعة من الناس، وهو بهذا لا يحتاج إلى مزيد من التعريف، وقد شاعت بعض الكلمات وكثر استعمالها حتى صارت معانيها من البديهيات وأصبح السؤال عن معانيها وكأنه غير ذي موضوع.
والمعاجم اللغوية -لاسيما العربية- مليئة بمثل هذا الهرب من التعريف، فنجد كثيراً من المعاجم يعرف الكلمة باستعمالها في جملة مفيدة ولا يزيد. فنجد الزمخشري في أساس البلاغة يقول في مادة ذكي ذ ك ي: أذكيت النار وذكيتها وذكت وهكذا ارتبط الذكاء -لغة- بالتوقد والتوهج، فإذا بحثنا معنى الفطنة وجدناه يقرنها بالمعرفة والانتباه فيقول ف ط ن: مررت به فما فطن لي، أما الفيروزبادي فيقول عن الفطنة بالكسر الحذق (وهذا هو معنى الذكاء الذي يتداوله العامة بعد قلب الذال دالا فيقولون فلان حدق، ومنه الحداقة) ثم يقول الفيروزبادي والتفطين، التفهيم... ومن معاني الذكاء: السطوع والشدة والمعان، فالألمعي: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع. وقد حاولوا تعريف الذكاء بالمقارنة بينه وبين عكسه - وهو ضد البلادة فيقال. ذكو بعد بلادة.
وفي علم النفس اختلف على معنى الذكاء أيما اختلاف، ولو حاولنا حصر تفسير معنى الذكاء لما كدنا نستطيع: ومن ذلك أن الذكاء هو قدرة العقل على استنباط العلاقات أو هو القدرة على مواجهة المواقف الجديدة بنجاح - أو على تعلم ذلك عن طريق التكيف لاستجابات جديدة وهذان هما التعريفان اللذان أوردهما دريفر Drever أما بيرت Burt فقد عرفه بأنه القدرة المعرفية الفطرية العامة وعرفه وكلسر Wechsler بأنه القدرة الشاملة على العمل ببعد نظر واستنباط العلاقات والمعاملة الناجحة مع البيئة، أما جرين Green فقد عرفه بأنه قدرة الفرد على التعلم ومدى مرونته, كما عرفه كذلك بأنه القدرة الفطرية لاكتساب مهارات في مجال التفكير التجريدي، أما وودورث Wood worth فقد عرفه بأنه مقابلة المواقف الجديدة باستعمال خبراتنا السابقة، وأما هندرسن وجلسبى Henderson & Gelipsy (طبيبان نفسيان) فقد عرفاه بأنه القدرة على استخلاص المحسوسات والمدركات وإتقان توفيقهما مما يؤدى إلى السلوك التكيفي, وأنه القدرة على الاستفادة من الخبرة السابقة والعمل ببعد نظر وتبصر.
وهكذا تعددت التعريفات واختلطت حتى قال وودورث أن الذكاء ليس شيئا يمتلك منه الفرد الكثير أو القليل وإنما هو طريقة السلوك وقد أورد وكلسر هذه المشكلة وتعجب لها حتى استشهد -ساخرا- بقول أحد علماء النفس حين سئل عن الذكاء أنه الشيء الذي يقاس باختبارات الذكاء الأمر الذي شكك أيزينك Eysenck في طبيعته حين أجاب عن ما تقيسه اختبارات الذكاء بأنها: إنما تقيس نتائجها فحسب.
وهكذا نرى أن اللغة وأغلب التعاريف قد اهتمت بربط الذكاء بالمعرفة والاستفادة منها في المواقف الجديدة وذلك بربطها بالخبرات السابقة. لذلك رأينا أن يكون تعريف: الذكاء هو القدرة على التعلم، والاستفادة من الخبرات السابقة، وهو يشمل استنباط العلاقات وبعد النظر.
درجات نقص العقل
اتفق العلماء على تعريف نقص العقل بأنه حالة من توقف نضج العقل قبل سن الثامنة عشر، وينشأ من عوامل وراثية أو مكتسبة، وتكون الأخيرة إما نتيجة لمرض أو إصابة و قد حاول الباحثون منذ القدم تمييز درجات محدودة من ضعف العقل، وإن كنا نحب أن نؤكد ابتداءً أنه لا يوجد حد فاصل بين هذه التقسيمات مهما اتضحت معالمها وأنها إنما وضعت لتيسير الفهم وليس لمحاولة الفصل الحاد - وقد اتفق الباحثون على جعل درجات ضعف العقل درجات ثلاث رئيسية, وتقع بينها وبين بعضها، وكذلك بينها وبين الذكاء العادي درجات انتقالية: ولكن الباحثين اختلفوا على تسمية هذه الدرجات، فقد أطلق الباحثون الإنجليز على المجموعة بصفة عامة لفظ النقص العقلي Mental Deficiency وسموا درجاته Feeble - Minded : I diot & lmbecil؛
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد سموا المجموعة عامة باسم ضعف العقل Feeble - Mindedness وسموا الدرجات الثلاث Idiot, Imbecile & Moroon أما الباحثون العرب فقد احتاروا في هذه التسمية كذلك أيما حيرة، حتى وقع أغلبهم في تسميات بها شبهة الخليط بين نقص العقل منذ الولادة أو من سن مبكرة، وبين نقص العقل بعد نضجه وهو التدهور العقلي Mental Deterioration ويطلق عليه بالعربية عته, ففي القاموس المحيط (الفيروزبادي) عته: نقص عقله فهو معتوه, لكن العته يعنى بالإضافة إلى نقص العقل علامات مرضية أخرى تدل على ذهاب العقل مما يجعل اللفظ لائقاً لهذه التسمية، فهو يعني في معجم آخر الجنون فيقول الزمخشري في الأساس فلان يتعته عليه.. أي يتجنن عليه لذلك رأينا أن نقصر لفظ عته على ما يعنيه لفظ Dementia بالإنجليزية.
ولهذا فقد استبعدنا لفظ "عته" من وصف أي درجة من درجات ضعف العقل من سن مبكرة – وبقيت لدينا ألفاظ "البله"، و"الأفن" و"الخرق" و"الحمق" و"الهوك"، وقد اتجه مختلف الباحثين إلى استعمال أي اثنتين من هذه الألفاظ بالإضافة إلى لفظ "عته" الذي قصدوا به أدنى درجات النقص العقلي... ذلك اللفظ الذي استبعدناه أصلاً، ولكنا بعد استقصاء المعاجم وتحليل الألفاظ وموازنتها معنى ومبنى رأينا أن نطلق على أقل درجات ضعف العقل لفظ البله وهو يقابل لفظ IDIOT ويعنى لغة (فيروزبادي) رجل أبله... أحمق لا تمييز له.
أما الدرجة التالية والمقابلة للفظ Imbecil فقد اخترنا لفظ الأفن.... فالمأفون لغة هو... الضعيف العقل والرأي. وواضح أن ضعيف العقل أحسن درجة ممن لا تمييز له. أما ثالث الدرجات وأخفها وهو ما يقابل كلمة Feeble Minded عند الإنجليز ولفظ Moroon عند الأمريكيين فقد اخترنا له لفظ الحمق: وهو لغة يعنى: أحمق: قليل العقل.
وهكذا نرى أن اللغة العربية غنية بألفاظها بحيث يمكن انتقاء ما نشاء منها ليفي بالغرض. فإذا راجعت الألفاظ التي اخترناها وجدت أنها تبدأ بعدم التمييز ثم الضعف ثم القلة. وهى درجات متتالية بعضها تحت بعض. وقد استبعدنا لفظي أخرق، أهوك اللذان استعملهما بعض الباحثين بدل لفظ أحمق وذلك أولاً: لترادف استعمال لفظ أخرق مع الحمق ولكنه يعنى أيضاً ضد الرفق, أما لفظ أهوك الذي استعمله آخرون فقد وجدناه غريباً ولا حاجة لاستعماله.. فهو لغة الحمق ولكنه يعنى التهور أيضاً.
وإنا إذ نعتذر عن هذه الإطالة اللغوية نقول أننا وجدنا أنفسنا مضطرين لها:
أولاً: لمنع الخلط الذي وقع فيه أكثر الباحثين النفسيين العرب.ثانياً: لإقرار مفهوم لغوى نأمل أن يجد حظه في الانتشار والاستعمال السليم، ونخلص من كل هذا إلى البحث في اللغة وأصولها يظهر من الغنى والدقة ما يسمح للدراسة السليمة بحل مشاكل المصطلحات الجديدة في وضوح وجلاء.
مدى انتشار نقص العقل في المجتمع
يعتبر العقل مشكلة اجتماعية كما هي مشكلة طبيه وتأهيلية، فناقص العقل يعجز عن التكيف الاجتماعي, وعن الاستقلال بحياته دون التعرض للأخطار والصعوبات لذلك... فهو يحتاج دائما إلى الرعاية والتوجيه، وتبلغ نسبة ناقصي العقول في مجتمع ما ثمانية في كل ألف، أي أنها تبلغ في جمهورية مصر العربية حوالي ربع مليون نسمة.
الأسباب:
يشترك عاملي الوراثة والبيئة في تكوين ناقصي العقل:
1- الوراثة: تختلف طريقة الوراثة في هذا المرض حسب درجة نقص العقل; فقد لوحظ أن الدرجات الدنيا تنتقل بصبغي منفرد Single Gene وأن والديهم يكونون في مستوى ذكاء عادي ولكن الانتقال يحدث بتحويل الصبغيات بطفرة Mutation أثناء انقسام الخلية.
أما الدرجات الأعلى فتنتقل بطريقة متعددة العوامل Multifactorial ويكون ذكاء أبويهم أقل من المتوسط. وهناك اعتقاد أن بعض أنواع نقص العقل الدنيا تنتقل بمورّث طاغ Dominant مثل مرض التليف المتدرن Tuberous Sclerosis في حين تنتقل أنواع أخرى بمورث متنح Recessive Gene مرض عمى البله العائلي Amaurotic Family Idiocy
2- العوامل البيئية: قد توجد هذه العوامل في أي مرحلة من مراحل النمو:
(أ) قبل الولادة، فقد تصاب الأم بالحمى مثل التيفود أو الحصبة الألمانية وقد تكون عرضة لعدم توافق نوع دمها مع زوجها وقد تتعرض للإصابات أو للأشعة السنية... كل ذلك ما قد يؤدى إلى اضطراب نضج خلايا مخ الجنين فيؤدى بالتالي إلى نقص العقل.
(ب) أثناء الولادة: قد تكون الولادة المبكرة Premature labour والولادة العسرة والنزيف أثناء الولادة واختناق الوليد Asphixia Neonatorum مسئولة عن إحداث نقص العقل.
(ج) بعد الولادة: وتشمل الأسباب هنا الإصابات (لاسيما إصابات الرأس الشديدة في سن مبكرة) والالتهابات (لاسيما الالتهابات المخية) والتشنجات (لاسيما النوبة العظيمة المتكررة للصرع) وسوء التغذية والافتقار إلى مثيرات الإحساس البيئية Sensory Deprivation . أو إلى الحواس الأساسية للنمو والبصر.. الخ
التغير العضوي
نقابل أغلب التغييرات العضوية التي تصاحب نقص العقل في الحالات الدنيا (أي البله والأفن) فقد لوحظ أن عدد الخلايا العصبية تصل إلى ثلاثة ملايين فحسب في حين أنها تبلغ في الإنسان العادي أربعة عشر مليوناً, كما لوحظ أن حجم المخ ووزنة أصغر من الطبيعي وأن تعقد تلفيفات القشرة أبسط، هذا ويصاحب نقص العقل تشوهات في الجمجمة فتبدو أصغر أو أكبر أو أقل انتظاماً. كما يكون تكوين الأسنان ونظامها مضطرباً، وكذلك الحال في علامات الاضمحلال Stigmata of Degeneration في سقف الفم والأذن والعين... والأطراف وغيرها.
أما عن التغير المجهري Microscopical فقد وجد أن طبقات الخلايا المعقدة التركيب والمسماة الطبقات فوق المتحببة Supragranular layers ضامرة، في حين أن الطبقات تحت المتحببة Infragrannlar لا تتأثر كثيراً حيث أنها مختصة بالوظائف البدائية، وقد لوحظ كذلك أن عدد خلايا المخ أقل وأن الخلايا العصبية غير تامة النضج أكثر من المعتاد، وأن نظام الأوعية الدموية وغناها أقل من الطبيعي.
التغير في الوظائف النفسية
تبين من دراسة الوظائف النفسية لناقص العقل ما يلي:
1- أنه لا يفتقر إلى غريزة المحافظة على الذات إلا في حالات شديدة جداً من البله، فهو يصيح ويرضع ثدي أمه في العادة.
2- أن الدرجات الدنيا تفتقر إلى غريزة الجنس في حين أن الدرجات الأعلى تكون سليمة جنسياً بل ومعيلة.
3- يظل المريض محتفظاً بانتباهه السلبي دون الإيجابي.
4- يصاب عادة بنوبات عدوانية إلا في حالات البله.
5- تتصف الحالات الأعلى من البله بحب الاستطلاع.
6- يتصف ناقص العقل عادة بالقابلية للاستهواء والتبعية، إن لوحظ في النادر أن غريزة الذات قد تدفع الدرجات العليا إلى محاولة السيطرة والعناد.
7- يضطرب الكلام تماماً: فيتأخر النطق ويشمل كل أنواع الخلل كالعقلة، والتهتهة، واللغة الطفلية، والمصاداة، والتحدث والتحدث بلغة خاصة.
8- قد يصاب بالعجز التام عن الحركة أو عدم التوازن أو المحاركة أو القلق الحركي.
الصور الإكلينيكية
البله Idiocy
هو أشد درجات النقص العقلي (أي أدنى درجات الذكاء), وتبلغ نسبتهم في مجتمع ما 0.03 % من التعداد العام، وهم يتصفون بأنهم لا يستطيعون تمييز الخطر العادي في الحياة . وبالتالي لا يستطيعون تجنبه. ومن ذلك أنهم قد يضعون أيديهم في النار دون مهابة. أو يسيرون أمام العربات المسرعة دون حساب, أو يعرضون أنفسهم للغرق بالاقتراب من المياه العميقة دون مبالاة، وهم لا يستطيعون تعلم القواعد الأساسية للنطق أو القيام بالأعمال البسيطة كارتداء الملابس دون مساعدة -والنوع الشديد منهم (البله التام) يفتقر أساساً إلى غريزة حفظ الذات، فهو إذ يعرض نفسه للخطر لا يكون ذلك عن عدم تمييز فحسب، وإنما يكون نتيجة لافتقاره إلى هذه الغريزة أصلاً، وهذا النوع لا ينطق إلا ببضعة مقاطع أو همهمة من الأصوات وقد لا ينطق بتاتاً- والأبله عادة ما يتميز بنقص في التكوين الخلقي أو اضطراب في التكوين مما يصاحب ضعف العقل،
ومثال ذلك الصرع وشلل بعض الأطراف والتشوه الخلقي للرأس واضطراب نمو الأسنان ونظامها وتشابك أصابع اليدين أو الرجلين أو زيادة عددها وغير ذلك من التشوهات الخلقية في القلب والصدر والأحشاء. والأبله معرض -بداهة- للإصابة بسائر الأمراض الجسمية مثل السل وربما كانت هذه الأمراض هي السبب في وفاته في سن مبكرة. فهو نادراً ما يصل إلى سن الخامسة عشر وإن كانت العناية الصحية قد زادت حديثاً من متوسط عمره بشكل ملحوظ، ولا يتعدى العمر العقلي للأبله سنتين.
الأفن Imbecility
وهو الدرجة التالية للبله صعوداً، وتبلغ نسبة المأفونين في مجتمع ما أربعة أضعاف نسبة البلهاء، أي حوالي 0.12% من التعداد العام، ويتميز المأفون أنه يستطيع أن يتجنب الأخطار وأن يتكلم بصعوبة ولكنه لا يستطيع تعلم القراءة، والممتازون منهم يستطيعون القيام بعمل رتيب تافه، كما أنه يمكن تعليمهم مبادئ النظافة. قد يصاحب المرض تشوهات خلقية أو شلل أو صرع، ويتراوح العمر العقلي للمأفونين بين ثلاثة وسبعة أعوام.
الحمق Feeble - Mindedness
الحمق هو أحسن أنواع نقص العقل الثلاث، ويبلغ عدد الحمقى في مجتمع ما أربعة أضعاف المأفونون أي حوالي 0.05% من التعداد العام، ويمكن تعليم هذه الفئة عامة الأعمال الرتيبة، فتقوم بها بدون إشراف مباشر. هذا ويفتقر الأحمق إلى التلقائية والانتباه الإيجابي.. تلك الصفات التي عادة ما يتصف بها الطفل الطبيعي - وهو يتعلم الكلام متأخراً، وقد يعاني صعوبات في الكلام كالتلعثم والتهتهة والعقلة، ويتصف الحمقى بأنهم سهلوا الاستهواء، فينقادون للأكثر ذكاءاً وهم عرضة للاستغلال كأدوات في تنفيذ الجرائم. وعلى ذلك فإن القانون يعرف هذه الطائفة بأنهم غير القادرين على حماية أنفسهم أو تجنب المشاكل.
هذا وقد لوحظ أن بعض أفراد هذه الطائفة يظهر نبوغاً خاصاً من الذكاء في ناحية معينة من القدرات الخاصة كالذاكرة الموسيقية أو القدرة الحسابية.
نقلا عن موقع أ.د. يحيى الرخاوي (http://www.rakhawy.org) من كتاب مبادئ الأمراض النفسية
ويتبع...... : النقص العقلي (2)
واقرأ أيضًا:
اختبارات الذكاء5 / الذكاء والطب النفسي / الذكاءات المتعددة / الحب أم الذكاء هو ما يحتاجه أبناؤنا؟؟