في الفيلم الذي نسيت اسمه الآن يسأل الشاب أحدهم عن العرض الذي يوشك على البدء قائلا: يا كابتن.. الفيلم ده قصة ولا مناظر؟! وهو نقل أمين لما يجري فعلا على أبواب دور السينما أثناء عروض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي نهايات كل عام ميلادي في مصر!!
وتلاحقني فكرة منذ أيام قفزت إلى ذهني من مخبأ توارت فيه لفترة-حين رأيت بعض الطالبات يتحركن على رصيف محطة "بنها" في طريق عودتي إلى القاهرة من الزقازيق. لا أتوقف عن تأمل علاقة المرأة عندنا بالحجاب، وفي كل مرة أنظر من زاوية فيبدو الأمر على نحو مختلف!! ولعل الهاجس كان في ذهني يومها حول اختصار الإيمان، أو حول الاختصار بشكل عام!!
أرى أننا نجيب على أسئلة كبرى، ونناقش قضايا هامة للغاية بمنطق أغلب القنوات الفضائية حيث الإجابات سريعة وسطحية وساذجة غالبا، وحيث تتلاحق الصور، والاستعراض البصري له الغلبة على المضمون، أو الأفكار، أو كل ما هو "غير بصري"!!
وفي مناخ الإجابات السريعة المختصرة، وطغيان البصري والشكلي والمظهري، ومع شيوع الخفة في التناول، وتحت ضغوط كثيرة نفسية واجتماعية وثقافية يكون مفهوما أن يتحول الإيمان عند قطاعات كبيرة من الناس إلى مناظر!!
مرت على مصر وتمر هذه الأيام عدة مناسبات فمن الذكرى المئوية لمولد الإمام الشهيد حسن البنا، ومولد الأستاذ الشهيد سيد قطب، إلى خمس وعشرين عاما على اغتيال الرئيس السادات، والذكريات السنوية المصاحبة ليوم وفاة الرئيس ناصر، وحرب أكتوبر عام1973..الخ
المقصود هنا أن أجيالا كاملة قد نشأت وتعيش بيننا وهي لا تعرف ولم تشهد ملاحم هامة في تاريخ الوطن،ومن أبرزها تلك الموجة العالية من ظاهرة المد الإسلامي في سبعينات وثمانيات القرن الماضي، وما صاحب هذا من ظواهر وتغيرات، وأسئلة وتحديات، وإنجازات وانكسارات، وفتن وفظائع!!
حكايات من لحوم ودم تكاد الأجيال الجديدة لا تعرف عنها شيئا، والنتيجة أن تروج أفكار ملغومة ومسمومة هي تكرار لإنتاج قديم يجدد طرح نفسه في غياب من التوجيه السليم، والعلم الشرعي المنهجي، والمعرفة الواقعية والإنسانية في حدها الأدنى.
أجيالنا الشابة ستكون وقودا لنيران جديدة ستشتعل حتما باسم الدين، أو باسم الوطنية، والله وحده يعلم كيف ومتى تشتعل!! لكنه الحصاد الحتمي للجهل والرعونة وفقدان الذاكرة! كثيرة من المواد التي أقرأها تتناول مسائل في الدين تستخدم الديباجات والتفسيرات التي أوصلت كتلا من الشباب إلى جحيم الصدام مع المجتمع ومع السلطة، ولم يستفد من هذا الصدام أحد غير أعداء الله والأمة، وتضررت منه بيوت وعائلات، والوطن كله.
علاقة الإيمان بالعقل في هذه النصوص والمواد ملتبسة، وتحتاج إلى انتباه، فالكثير من هذه النقول لا يرى إلا رأيا واحدا يعرضه وأنه كل الحق، ولا شيء سواه، وهو ينتقي من أقوال السلف ما يوافق الاتجاه الذي يريد، والنتيجة التي وصل إليها حتى قبل أن يستدل عليها!!
وفي غياب الحد الأدنى من الثقافة والإلمام بالخلفية أو الذائقة الفقهية يصبح القارئ مجرد "دمية" جاهزة للتحريك، وهو دائما متأهب ومؤهل لكي ينساق فيما يبدو أمامه بوصفه شكلا متماسكا للكلام في الدين، أو عن الإيمان وعلاقته بالحياة، وتجلياته المتوقعة، وهذا خطير للغاية.
وكثير من المواد الملغومة تتوافق مع طريقة تفكير منتشرة بشكل واسع، إنها حصاد التعليم التلقيني، والإعلام التسطيحي، وغياب الثقافة والحوار وانعدام الانفتاح، والجدل المنهجي، ومنحة العقل رغم تورم مناظر وشكليات الإيمان!!
العقلية الغالبة تحتاج إلى دليل عمل مثل كراسة الواجبات المنزلية، وهي لا تريد أن تزعج نفسها بالأسئلة أو الآراء أو فهم أصول المسائل أو مقصد الأحكام، وتسليم نفسها ضحية لمن يتوافق مع فقرها، ويعطيها غذاءً مهضوما جاهزا، فهي كسلى لا تريد أن تتعب نفسها فتقضم ثم تمضغ ثم تقوم بأعباء الهضم والامتصاص، وما شابه!!
وأستمع أحيانا إلى مواعظ الكاسيت ومشايخه، ويصلني ما يحدث في عربات السيدات بمترو الأنفاق من مواعظ، وعروض تشبه المسرحيات لتوجيه وإرشاد وتقويم الناس، والدعوة غالبا هي لمناظر الإيمان من تلاوة أوراد، أو ارتداء ملابس أو غير ذلك من هيئات، بينما لدى الإيمان محنة حقيقية عندنا في العلاقة بالعقل كما أتصور، وفي علاقته أيضا بالأخلاق، وبالعمل الصالح. في مسألة الأخلاق يتضح لكل ذي عينين كم تتراجع القيم الرفيعة في الحديث والتعامل اليومي بين الناس، وكيف تنحدر بل تنهار أبسط الأخلاق الإسلامية، بل والإنسانية والمهنية، رغم تورم أشكال ومظاهر الإيمان.
أبسط معاني الأخلاق ومقتضياتها غائب ومفتقد!!
نفس الشيء بالنسبة للعمل الصالح المرتبط أصلا كما تعلمت، وكما أتصور العلاقة حتمية مع الإيمان!!
ما هي الأعمال الصالحة كما نعتقدها ونتداولها على رسائل الإنترنت التي نمررها عشرات ومئات المرات؟!
تلاوة الأوراد بأنواعها وأشكالها وأطوالها، ورسائل أخرى لإنقاذ مريض، أو إغاثة محتاج! هذه هي الأعمال الصالحة، وغيرها ما يزال محل تساؤل أو دهشة أو نقاش، وكأننا نكتشف الذرة أو الطاقة النووية من جديد!!
أدخل إلى كليتي فأقرأ على لوحة الإعلانات عن تنظيم مسابقة في حفظ سورة كذا، وأنه سيقوم بالشرح الزميل الدكتور فلان، كما سيحاضر زميل دكتور آخر في تفسير سورة كذا.
وجميل أن يعرف الأطباء دينهم، ويحفظوا كتاب ربهم، ولكن الأجمل والأوجب والأولى أن الأعمال الصالحات في مجالهم هي أن يتعلموا ويعلموا معرفة طبية نظرية وعلمية هي مفتقدة، وتحتاج إلى إعطاءها كل الوقت والجهد والطاقة ليتخرج الطبيب ماهرا في تخصصه، وحبذ لو جمع بين أن يكون نطاسي بارع،أي معالج متمكن، وأن يكون ملتزما حافظا للقرآن والسنة ما أمكن!!
هذه لفته عاجلة، ومثلها كثير، على أن العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح، بل وتعريف مفهوم الأعمال الصالحة وآفاقها، واختلافها من شخص لشخص أحيانا، بحكم التخصص، وهي علاقة ملتبسة وتحتاج إلى ترميم، وإعادة نظر!!
قرأت لأحدهم في نهاية نص أنه يفتقد فضيلة الشيخ الراحل "محمد الغزالي"، قلت: وأنا والله كذلك أفتقده، وهو قد مات وفي نفسه أشياء من هذه!!
رحمه الله!
اقرأ أيضًا:
على باب الله عن التركيز والنسيان 7/10/2006 / على باب الله: الدار والإعمار