حكاوي القهاوي (33)
(161)
ميكانيزمات دفاعية
عندما يتعرض الشخص للضغط الخارجي أو الداخلي فإنه يتعامل معه بواحد من أمرين إما تعامل سوي أو تعامل مرضي. أما التعامل السوي فهو المواجهة والتعامل مع هذا الضغط أو مع مصدره وذلك باستخدام مهارات حل المشكلات. وأما التعامل المرضي فيكون باستخدام الميكانيزمات الدفاعية. ويستخدم مصطلح الميكانيزمات الدفاعية كثيراً في علم النفس لفهم سلوك المريض وفهم المرض.
ويمكن لنا ببساطة تعريف الميكانيزمات الدفاعية بأنها أساليب يستخدمها الشخص في مواجهة الضغوط الخارجية أو الداخلية ليحافظ بها على توازنه النفسي من الانهيار نتيجة لمواجهة هذه الضغوط. وكلما كانت بنية الشخص النفسية ضعيفة وغير قادرة على مواجهة الضغوط كلما زادت ميكانيزماته الدفاعية من حيث طول فترة استخدامها ومن حيث تنوعها ونوعها حيث يتفق الميكانيزم والضغط الذي يواجهه الشخص. ويأتي استخدام هذه الميكانيزمات الدفاعية بشكل تلقائي لا قصدية فيه أو وعي من جانب الشخص. أقول هذه المقدمة الضرورية في محاولة لفهم أي الميكانيزمات الدفاعية التي نستخدمها لمواجهة ضغط مصدره استبداد الحاكم؛ حتى نحافظ نحن الشعب على بقائنا واستمرارنا في الحياة.
إن التعامل مع حكوماتنا المستبدة بشكل سوي سيكون باستخدام مهارات حل المشكلات وذلك بمعارضتها حتى تزول هذه الأنظمة أو إزالتها بالقوة والانقلاب وعليها والتظاهر ضدها. ولكن عندما تفشل هذه الأساليب السوية في مواجهة هذه الضغوط وذلك بسبب قمع المعارضة بأي شكل كان من جانب الحاكم وأجهزته الأمنية، فإن الشخص يلجأ إلى استخدام ميكانيزمات دفاعية أخرى بهدف تخفيف ألم هذه المواجهة أو الهروب من المواجهة كلية. أول هذه الميكانيزمات هو ميكانيزم النكتة. فالنكتة توجه النقض للحاكم مع ضمان تجنب المواجهة والصدام مع النظام مصدر الاستبداد والضغط، كما إنها تضحكنا في ذات الوقت فتخفف من الألم الناتج عن القهر.
في حال فشل النكتة لحل الصراع سيظهر استخدام ميكانيزمات أخرى أكثر قوة لتحقق الهروب، ومن أكثرها سواءً سنجد الهجرة من الوطن والبحث عن وطن آخر ليزرع الشخص نفسه فيه من جديد ليعيش بشكل سوي. أو أن يسافر المرء لأي دولة للعمل بها وهنا تكون هذه الدولة ليست بديلا عن الوطن ولكنها تعمل عمل المسكن للألم، مع ضمان بقاء انتمائه للوطن وإن كان انتماءً منتقصاً؛ فهذا الهروب من شأنه أن يعطي مبرراً لتأجيل المواجهة مع النظام المستبد لحين العودة لوطنه الأم.
ولكن ما يحدث عادة أن ينهمك المرء في هدف بديل وغالباً ما يكون هو جمع المال، وغالباً أيضاً ما ينتهي الأمر به بعدم العودة للوطن ثانية ويشجعه على اتخاذ هذا القرار بضمير مستريح ما يراه في وطنه من ضغط أثناء إجازاته السنوية التي تجعله يتخذ قرار عدم العودة بمنتهى راحة الضمير، إذ مازال الوطن كما عرفه إن لم يكن أسوء. إذا ما فشل ميكانيزم الهجرة في تحقيق التوازن، أو عجز المرء عن استخدامه بالهجرة أو العمل بالخارج، فإنه قد يلجأ إلى ميكانيزم التوحد بالمعتدي والذي وفقاً له فإنه يرى في المعتدي أسوته وقدوته وملجأه وملاذه؛ فيصير ملكياً أكثر من الملك.
وهنا قد يظهر لدية بعض من علامات الانتماء الزائف للوطن يعبر عنه بالانتماء المبالغ فيه للنظام؛ فينخرط المواطن في حزب دولة الاستبداد ويؤيد سياساته. وأما إذا كان الشخص له بعض من صفات الشخصية المضادة للمجتمع فسيكون أميل إلى استغلال هذا التوحد ليحقق المزيد من المصالح الشخصية له. وقد يكون هذا الميكانيزم مفسراً لسلوك بعض المواطنين الذين يتظاهرون ويبكون عند سقوط هذه النظم المستبدة.
قد يستخدم الشخص أيضاً لتحقيق الهروب من المواجهة مع الاستبداد ميكانيزم فقد الانتماء للوطن فنجد المرء مغترباً في وطنه فاصلاً نفسه عنها وعن كل ما يجري فيها من استبداد وظلم. وقد يلجأ المرء أيضاً إلى الهروب لتعاطي المخدرات كوسيلة للهروب من مواجهة الظلم والاستبداد وللهروب من كل آلامه من الاغتراب في وطنه، كلما زادت وطأة الألم كلما كان التعاطي للمواد الأكثر قوة من حيث تأثير تغييب الوعي. قد يصل الأمر في النهاية في حال فشل كل الميكانيزمات الدفاعية في إيجاد الهروب الآمن؛ أن يقدم المرء على الانتحار كآخر ملجأ له.
كثيرون يقدمون على الانتحار كل يوم هرباً من الظلم والاستبداد وفعل بوعزيزي كغيره من الكثيرين ولكن الاختلاف الوحيد أن غيره انتحروا في صمت، ولكن بوعزيزي انتحر معلنا أنه غاضب وأنه قرر الرحيل وقال إما أن ترفضوا أو تذهبوا للجحيم. لقد أفشل بوعزيزي في هذه اللحظة أفشل علينا عمل كل ميكانيزماتنا الدفاعية، في هذه اللحظة كان علينا أن نختار إما الموت أو المواجهة لهذا أقدم الكثيرون على الانتحار حرقاً مثلما فعل بوعزيزي؛ فجعلونا هؤلاء أيضاً في لحظة اختيار إما أن نتبعهم ونفعل مثلهم وإما أن نختار المواجهة والتغيير، فإذا كان الموت هو مصيري فليكن الشهادة في الميدان، ومن هنا كانت البداية وسقطت كل ميكانيزماتنا الدفاعية للهروب ولم يبقى لنا إلا المواجهة والتغيير فكان الانتصار. فعل لنا أن نتعلم من الحاضر الذي هو تاريخ لأبنائنا غداً ، هل لنا أن نتعلم ونعلمهم أنه الهروب ليس هو السبيل للحياة، هل لنا أن نعلمهم أن المواجهة أو الشهادة في الميدان هي أفضل السبل للحياة.
(162)
صديقي الفيلسوف
كان لي صديق فيلسوف بأقوال الحكماء شغوف، سألته يوماً عما يجب علينا الحذر منه في بلادنا العربية حيث تمر بتغيرات ثورية. أجاباني الفيلسوف إياكم والسلطانية، إياكم والسلطانية!! فقلت له وما السلطانية يا فيلسوف؟!! قال هي حكاية مصرية كانت تحكى لنا في إذاعاتها المحلية، تقول الحكاية يا بني أن رجلاً فقيراً ضاق من الظلم والاستبداد وسوء الأحوال المعيشية فقرر الرجل ركوب البحر. فحدث أن علت الأمواج وتكسر المركب وغرق من فيه. تعلق الرجل بلوح خشبية، فألقت به الأمواج في جزيرة نائية؛ فأسروه أهلها وسأله حاكم الجزيرة قائلا "عدوا ولاّ صديق" فأجاب المسكين "صديق والله على ما أقول شهيد" فقال له "وما الدليل"، فلم يجد لديه هديه تثبت حسن النية سوى ما كان يملكه من سلطانية ربطها الرجل فوق رأسه لتحميه من ارتطام الأمواج برأسه، ولأنها أيضاً هي كل ما خرج به من الدنيا. وما أن شاهد ملك الجزيرة السلطانية حتى صرخ فرحاً مهللاً تاج.. تاج، وقَبِل الملك الهدية وأعطاه في المقابل ما لم يكن يحلم به الفقير من جواهر وألماس هدية. وعاد الرجل إلى بلدته مجبوراً مسروراً. ولما سأله شيخ التجار عن السر وراء ما عاد به من الكريم من الأحجار، فحكي الرجل ما جرى له وما كان. فرح شيخ التجار وذهب في رحلة بحرية إلى ذات الجزيرة النائية محملاً بكل النفيس من الهدايا، فإذا كانت مجرد سلطانية أتت بكل هذا لذلك النكرة، فكيف سيكون الأمر معه وهو من هو. وتكرر المشهد مع شيخ التجار، ولم يصدق ملك الجزيرة أن كل هذه الهدايا جاءت له؛ فقرر فوراً أن يمنحه أغلى ما لدية وأعطاه تاج الجزيرة. فصرخ شيخ التجار إذ كانت المنحة هي "السلطانية".
وبعد ما أنهى الفيلسوف حكايته سألته مجدداً وما علاقة هذا بذاك. فقال إن الغرب يا بني قوم أذكياء؛ وأخشى أننا أحياناً نكون دون هذا الذكاء. فالغرب يا بني يدرس الثورة المصرية، ليس من أجل عظمتها التي فاقت خيالهم ولكن يدرسونها حتى لا تتكرر ثانية، وأيضاً يدرسونها حتى يجدوا للثوار منفذا. ألم تستمع يا بني إلى كونداليزا رايس الوزيرة السابقة للخارجية وهي تقول هذه فرصتنا الذهبية لنشر ما كنا به نحلم من فوضى خلاقة في المنطقة الشرق أوسطية. إنهم يا بني الآن عاكفون على البحث عن شيخ للتجار ليهبوا له السلطانية في مقابل الحصول على النفيس من الثورة المصرية. فسألته متحيرا وما هي إذن السلطانية يا فيلسوف؟
فأجابني في قصتي يا بني إفادتي: عندما دخل نابليون المحروسة وجد سداً منيعاً أضجر مضاجع نوم نابليون؛ ففكر الرجل في السلطانية ليستحوذ على شيخ الأزهر وقرر منحه أعلى وسام في الإمبراطورية الفرنسية تقديراً للدين ورجاله. وعندما تقلد شيخ الأزهر الوسام نظر إلى نابليون ونزع وسامه من على جبته وألقى به على الأرض وداس عليه بمداسه ثم قال لا يوجد شيء أعظم من جبة الأزهر حتى يعتليه. وهنا فشل مخطط السلطانية واستمرت الثورة ضد نابليون حتى عن البلاد رحل. أما الآن يا بني فقد سعى الفرنجة إلى شيخ الشيوخ ومنحوه لقب شيخ مشايخ إكسفورد، وفرح الرجل بالهدية. وما أن اعتلى الشيخ المنصة حتى قاموا بتصوير دقائق كل ما يجري ودفع البعض لأحد الوجوه الفتيّة. وهنا راحت كل الصحف العالمية تتحدث عما جرى وانتشر الخبر في البرية، فغضب من غضب ودبت الفرقة بين الأشقاء. الآن يا بني يبحث الفرنجة عمن يهبوه سلطانية وسلطانية وسلطانية، فخزائنهم لا تنفذ. سيهبون شبابنا حتماً منحاً دراسية في دولهم الغربية حتى يستحوذوا على عقولهم وليضمنوا ولائهم، ليأتي فيما بعد ترشيحهم لمن يجدوه منهم مناسبا فيجلسوه على الكرسي ليحكم لهم بما أرادوا.
تركت الفيلسوف ومضيت في طريقي لبيتي عائدا، وقلت في نفسي الآن فهمت لماذا لم أجد سبيلاً لمنحة دراسية؛ إذ قالوا لي بأدبهم الجم معذرة أيها السيد فالأمر مقصور على من لديهم قيمة في الجامعة؛ ويؤسفنا أنك لست منهم. هم إذن أرادوا تغييرهم ليغيروا حين يعودوا ديارهم من أدمغة طلابهم، فيكون الجميع للفرنجة خادماً أميناً وليفعلوا ما به يؤمرون. الآن فهمت لماذا صعد صديقي إلى أرقى المناصب الدبلوماسية بعد أن حضر مؤتمراً للسلام والتطبيع بين شباب مصر وإسرائيل، وكان قد أبدى كل السلام والتطبيع مع كل من كان في المؤتمر حاضرا. الآن يجب علي أن أحذر إخوانيّ أنْ احذروا السلطانية.
ويتبع >>>>>>>>: حكاوي القهاوي (35)
واقرأ أيضاً:
أخطر ما في الثورة المضادة... هو الترويج لها/ الثورة تضرب على قفاها/ مفهوم الحرب النفسية/ الحرب النفسية وغسيل الدماغ/ حكاوي القهاوي
(161)
ميكانيزمات دفاعية
عندما يتعرض الشخص للضغط الخارجي أو الداخلي فإنه يتعامل معه بواحد من أمرين إما تعامل سوي أو تعامل مرضي. أما التعامل السوي فهو المواجهة والتعامل مع هذا الضغط أو مع مصدره وذلك باستخدام مهارات حل المشكلات. وأما التعامل المرضي فيكون باستخدام الميكانيزمات الدفاعية. ويستخدم مصطلح الميكانيزمات الدفاعية كثيراً في علم النفس لفهم سلوك المريض وفهم المرض.
ويمكن لنا ببساطة تعريف الميكانيزمات الدفاعية بأنها أساليب يستخدمها الشخص في مواجهة الضغوط الخارجية أو الداخلية ليحافظ بها على توازنه النفسي من الانهيار نتيجة لمواجهة هذه الضغوط. وكلما كانت بنية الشخص النفسية ضعيفة وغير قادرة على مواجهة الضغوط كلما زادت ميكانيزماته الدفاعية من حيث طول فترة استخدامها ومن حيث تنوعها ونوعها حيث يتفق الميكانيزم والضغط الذي يواجهه الشخص. ويأتي استخدام هذه الميكانيزمات الدفاعية بشكل تلقائي لا قصدية فيه أو وعي من جانب الشخص. أقول هذه المقدمة الضرورية في محاولة لفهم أي الميكانيزمات الدفاعية التي نستخدمها لمواجهة ضغط مصدره استبداد الحاكم؛ حتى نحافظ نحن الشعب على بقائنا واستمرارنا في الحياة.
إن التعامل مع حكوماتنا المستبدة بشكل سوي سيكون باستخدام مهارات حل المشكلات وذلك بمعارضتها حتى تزول هذه الأنظمة أو إزالتها بالقوة والانقلاب وعليها والتظاهر ضدها. ولكن عندما تفشل هذه الأساليب السوية في مواجهة هذه الضغوط وذلك بسبب قمع المعارضة بأي شكل كان من جانب الحاكم وأجهزته الأمنية، فإن الشخص يلجأ إلى استخدام ميكانيزمات دفاعية أخرى بهدف تخفيف ألم هذه المواجهة أو الهروب من المواجهة كلية. أول هذه الميكانيزمات هو ميكانيزم النكتة. فالنكتة توجه النقض للحاكم مع ضمان تجنب المواجهة والصدام مع النظام مصدر الاستبداد والضغط، كما إنها تضحكنا في ذات الوقت فتخفف من الألم الناتج عن القهر.
في حال فشل النكتة لحل الصراع سيظهر استخدام ميكانيزمات أخرى أكثر قوة لتحقق الهروب، ومن أكثرها سواءً سنجد الهجرة من الوطن والبحث عن وطن آخر ليزرع الشخص نفسه فيه من جديد ليعيش بشكل سوي. أو أن يسافر المرء لأي دولة للعمل بها وهنا تكون هذه الدولة ليست بديلا عن الوطن ولكنها تعمل عمل المسكن للألم، مع ضمان بقاء انتمائه للوطن وإن كان انتماءً منتقصاً؛ فهذا الهروب من شأنه أن يعطي مبرراً لتأجيل المواجهة مع النظام المستبد لحين العودة لوطنه الأم.
ولكن ما يحدث عادة أن ينهمك المرء في هدف بديل وغالباً ما يكون هو جمع المال، وغالباً أيضاً ما ينتهي الأمر به بعدم العودة للوطن ثانية ويشجعه على اتخاذ هذا القرار بضمير مستريح ما يراه في وطنه من ضغط أثناء إجازاته السنوية التي تجعله يتخذ قرار عدم العودة بمنتهى راحة الضمير، إذ مازال الوطن كما عرفه إن لم يكن أسوء. إذا ما فشل ميكانيزم الهجرة في تحقيق التوازن، أو عجز المرء عن استخدامه بالهجرة أو العمل بالخارج، فإنه قد يلجأ إلى ميكانيزم التوحد بالمعتدي والذي وفقاً له فإنه يرى في المعتدي أسوته وقدوته وملجأه وملاذه؛ فيصير ملكياً أكثر من الملك.
وهنا قد يظهر لدية بعض من علامات الانتماء الزائف للوطن يعبر عنه بالانتماء المبالغ فيه للنظام؛ فينخرط المواطن في حزب دولة الاستبداد ويؤيد سياساته. وأما إذا كان الشخص له بعض من صفات الشخصية المضادة للمجتمع فسيكون أميل إلى استغلال هذا التوحد ليحقق المزيد من المصالح الشخصية له. وقد يكون هذا الميكانيزم مفسراً لسلوك بعض المواطنين الذين يتظاهرون ويبكون عند سقوط هذه النظم المستبدة.
قد يستخدم الشخص أيضاً لتحقيق الهروب من المواجهة مع الاستبداد ميكانيزم فقد الانتماء للوطن فنجد المرء مغترباً في وطنه فاصلاً نفسه عنها وعن كل ما يجري فيها من استبداد وظلم. وقد يلجأ المرء أيضاً إلى الهروب لتعاطي المخدرات كوسيلة للهروب من مواجهة الظلم والاستبداد وللهروب من كل آلامه من الاغتراب في وطنه، كلما زادت وطأة الألم كلما كان التعاطي للمواد الأكثر قوة من حيث تأثير تغييب الوعي. قد يصل الأمر في النهاية في حال فشل كل الميكانيزمات الدفاعية في إيجاد الهروب الآمن؛ أن يقدم المرء على الانتحار كآخر ملجأ له.
كثيرون يقدمون على الانتحار كل يوم هرباً من الظلم والاستبداد وفعل بوعزيزي كغيره من الكثيرين ولكن الاختلاف الوحيد أن غيره انتحروا في صمت، ولكن بوعزيزي انتحر معلنا أنه غاضب وأنه قرر الرحيل وقال إما أن ترفضوا أو تذهبوا للجحيم. لقد أفشل بوعزيزي في هذه اللحظة أفشل علينا عمل كل ميكانيزماتنا الدفاعية، في هذه اللحظة كان علينا أن نختار إما الموت أو المواجهة لهذا أقدم الكثيرون على الانتحار حرقاً مثلما فعل بوعزيزي؛ فجعلونا هؤلاء أيضاً في لحظة اختيار إما أن نتبعهم ونفعل مثلهم وإما أن نختار المواجهة والتغيير، فإذا كان الموت هو مصيري فليكن الشهادة في الميدان، ومن هنا كانت البداية وسقطت كل ميكانيزماتنا الدفاعية للهروب ولم يبقى لنا إلا المواجهة والتغيير فكان الانتصار. فعل لنا أن نتعلم من الحاضر الذي هو تاريخ لأبنائنا غداً ، هل لنا أن نتعلم ونعلمهم أنه الهروب ليس هو السبيل للحياة، هل لنا أن نعلمهم أن المواجهة أو الشهادة في الميدان هي أفضل السبل للحياة.
(162)
صديقي الفيلسوف
كان لي صديق فيلسوف بأقوال الحكماء شغوف، سألته يوماً عما يجب علينا الحذر منه في بلادنا العربية حيث تمر بتغيرات ثورية. أجاباني الفيلسوف إياكم والسلطانية، إياكم والسلطانية!! فقلت له وما السلطانية يا فيلسوف؟!! قال هي حكاية مصرية كانت تحكى لنا في إذاعاتها المحلية، تقول الحكاية يا بني أن رجلاً فقيراً ضاق من الظلم والاستبداد وسوء الأحوال المعيشية فقرر الرجل ركوب البحر. فحدث أن علت الأمواج وتكسر المركب وغرق من فيه. تعلق الرجل بلوح خشبية، فألقت به الأمواج في جزيرة نائية؛ فأسروه أهلها وسأله حاكم الجزيرة قائلا "عدوا ولاّ صديق" فأجاب المسكين "صديق والله على ما أقول شهيد" فقال له "وما الدليل"، فلم يجد لديه هديه تثبت حسن النية سوى ما كان يملكه من سلطانية ربطها الرجل فوق رأسه لتحميه من ارتطام الأمواج برأسه، ولأنها أيضاً هي كل ما خرج به من الدنيا. وما أن شاهد ملك الجزيرة السلطانية حتى صرخ فرحاً مهللاً تاج.. تاج، وقَبِل الملك الهدية وأعطاه في المقابل ما لم يكن يحلم به الفقير من جواهر وألماس هدية. وعاد الرجل إلى بلدته مجبوراً مسروراً. ولما سأله شيخ التجار عن السر وراء ما عاد به من الكريم من الأحجار، فحكي الرجل ما جرى له وما كان. فرح شيخ التجار وذهب في رحلة بحرية إلى ذات الجزيرة النائية محملاً بكل النفيس من الهدايا، فإذا كانت مجرد سلطانية أتت بكل هذا لذلك النكرة، فكيف سيكون الأمر معه وهو من هو. وتكرر المشهد مع شيخ التجار، ولم يصدق ملك الجزيرة أن كل هذه الهدايا جاءت له؛ فقرر فوراً أن يمنحه أغلى ما لدية وأعطاه تاج الجزيرة. فصرخ شيخ التجار إذ كانت المنحة هي "السلطانية".
وبعد ما أنهى الفيلسوف حكايته سألته مجدداً وما علاقة هذا بذاك. فقال إن الغرب يا بني قوم أذكياء؛ وأخشى أننا أحياناً نكون دون هذا الذكاء. فالغرب يا بني يدرس الثورة المصرية، ليس من أجل عظمتها التي فاقت خيالهم ولكن يدرسونها حتى لا تتكرر ثانية، وأيضاً يدرسونها حتى يجدوا للثوار منفذا. ألم تستمع يا بني إلى كونداليزا رايس الوزيرة السابقة للخارجية وهي تقول هذه فرصتنا الذهبية لنشر ما كنا به نحلم من فوضى خلاقة في المنطقة الشرق أوسطية. إنهم يا بني الآن عاكفون على البحث عن شيخ للتجار ليهبوا له السلطانية في مقابل الحصول على النفيس من الثورة المصرية. فسألته متحيرا وما هي إذن السلطانية يا فيلسوف؟
فأجابني في قصتي يا بني إفادتي: عندما دخل نابليون المحروسة وجد سداً منيعاً أضجر مضاجع نوم نابليون؛ ففكر الرجل في السلطانية ليستحوذ على شيخ الأزهر وقرر منحه أعلى وسام في الإمبراطورية الفرنسية تقديراً للدين ورجاله. وعندما تقلد شيخ الأزهر الوسام نظر إلى نابليون ونزع وسامه من على جبته وألقى به على الأرض وداس عليه بمداسه ثم قال لا يوجد شيء أعظم من جبة الأزهر حتى يعتليه. وهنا فشل مخطط السلطانية واستمرت الثورة ضد نابليون حتى عن البلاد رحل. أما الآن يا بني فقد سعى الفرنجة إلى شيخ الشيوخ ومنحوه لقب شيخ مشايخ إكسفورد، وفرح الرجل بالهدية. وما أن اعتلى الشيخ المنصة حتى قاموا بتصوير دقائق كل ما يجري ودفع البعض لأحد الوجوه الفتيّة. وهنا راحت كل الصحف العالمية تتحدث عما جرى وانتشر الخبر في البرية، فغضب من غضب ودبت الفرقة بين الأشقاء. الآن يا بني يبحث الفرنجة عمن يهبوه سلطانية وسلطانية وسلطانية، فخزائنهم لا تنفذ. سيهبون شبابنا حتماً منحاً دراسية في دولهم الغربية حتى يستحوذوا على عقولهم وليضمنوا ولائهم، ليأتي فيما بعد ترشيحهم لمن يجدوه منهم مناسبا فيجلسوه على الكرسي ليحكم لهم بما أرادوا.
تركت الفيلسوف ومضيت في طريقي لبيتي عائدا، وقلت في نفسي الآن فهمت لماذا لم أجد سبيلاً لمنحة دراسية؛ إذ قالوا لي بأدبهم الجم معذرة أيها السيد فالأمر مقصور على من لديهم قيمة في الجامعة؛ ويؤسفنا أنك لست منهم. هم إذن أرادوا تغييرهم ليغيروا حين يعودوا ديارهم من أدمغة طلابهم، فيكون الجميع للفرنجة خادماً أميناً وليفعلوا ما به يؤمرون. الآن فهمت لماذا صعد صديقي إلى أرقى المناصب الدبلوماسية بعد أن حضر مؤتمراً للسلام والتطبيع بين شباب مصر وإسرائيل، وكان قد أبدى كل السلام والتطبيع مع كل من كان في المؤتمر حاضرا. الآن يجب علي أن أحذر إخوانيّ أنْ احذروا السلطانية.
ويتبع >>>>>>>>: حكاوي القهاوي (35)
واقرأ أيضاً:
أخطر ما في الثورة المضادة... هو الترويج لها/ الثورة تضرب على قفاها/ مفهوم الحرب النفسية/ الحرب النفسية وغسيل الدماغ/ حكاوي القهاوي