في روضة أطفال الديمقراطية كى جي ون (2 من 3)
من روضة الديمقراطية إلى المعهد العالي للدفاع التآمري!!
كان لي قريب فلاح طفل ثائر، وكان سيدنا يحفّظه القرآن الكريم مع والدي طفلا، وتوقف مستقبله على أن يردد وراء "سيـّدنا" في الكتاب الآية الكريمة "رُبَـمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ"، لكن الطفل أصرّ أن يشدد باء "ربَـما" لتصبح "ربّما" بخلاف ما جاء بنص التنزيل الكريم، ويصرّ "سيدنا" على تصحيحه طبعا، لكن الطفل العنيد رأسه وألف سيف ألا يستجيب لسيدنا، وهات يا مدّ على الفلكة بلا طائل، حتى يئس الطفل، ويئس سيدنا، وذهب إلى عم والدي (كان جدي قد مات)، وقد قرر أمرا، وقال له بحسم نهائي: "يا خالْ: أنا كرهت العلم والتعليم"، وتوقف عن الدراسة نهائيا.
وتمضى أربعون عاما تقريبا، ويتخرج والدي من دار العلوم ويعمل ويشترى أرضا، ثم يكبر زميله الطفل إبراهيم ليصبح "عم إبراهيم"، عاملا زراعيا أجَرِيّا باليوم، وأتعرف على علاقتهما ذات يوم، وعم إبراهيم يعزق الأرض عندنا في عز الشمس مع أجراء آخرين، ووالدي يباشر العمل وراءهم، وهو فارد الشمسية يتقى الشمس، وإذا بأبي يداعبه في حضوري قائلا: يعنى يا أبو خليل كان جرى إيه لو كنت سمعت كلام سيدنا وقريتها "ربَـما"، مش كان زمانك صاحب أرض زيّي وماسك شمسية بدال حـَنـْية ضهرك عالفاس كده؟ في عز "نقرة القيالة" فيرد "عم إبراهيم"، "جرى إيه يا توفيق أفندي، الله!!! الحمد لله، كل واحد بياخد نصيبه"، ويضحكان معا، وأسأل والدي عن مغزى هذا الحوار، فيحكى لي الحكاية السالفة الذكر.
هذا هو الفلاح الجميل الذي يستأهل كل مقاعد مجلس الشعب وليس فقط 50 %، منها، لا أعتقد أن أي دستور في العالم، أو عبر التاريخ، قد حوى مثل هذه المادة، مهما بلغت اشتراكيته، المسألة ليست في حذف هذه المادة أو إثباتها، بل في دلالة استمرار التعامل مع وعى الناس بهذه الطريقة السطحية، مع أن تعريف الفلاح أو العامل ظل إشكاله لغوية إجرائية قانونية طوال ستين عاما، الذي يريد أن يعرف تعريفا لمن هو فلاح، إن لم تكن أتيحت له مثلى فرصة بمثل هذا: فليقرأ رواية "لحس العتب" لخيري شلبي، أو "أيام الإنسان السبعة". حتى فلاح رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي لم يكن فلاحا مصريا خالصا، فبعضه مستورد.
تذكرت حكاية عم إبراهيم: هذا الفلاح الأبي العنيد، وأنا أتراجع في روضة أطفال الديمقراطية من كي جي تو (2002) إلى كي جي ون (2011) برغم تعرفي مؤخرا على ديمقراطية حقيقية من خلال ميدان التحرير ثم يوم الاستفتاء (19 مارس)، لكنني ما كدت أتقدم أملا في الانتقال إلى سنة أولى ابتدائي في مدرسة الديمقراطية، حتى صدر البيان الدستوري يوم الخميس الماضي، فقفزت من فوق سور المدرسة، وعدوت إلى شيخي نجيب محفوظ شاكيا، وقلت له: "يا خالْ نجيب، أنا كرهت الانتخابات والدستور"، وقررت، برغم كل الإيجابيات ألا أعود إلى مسخرة صناديق الانتخاب الفردي، أو نكته العمال والفلاحين، وحين سألني شيخي كيف سأواصل نموي السياسي وأنا لا أفك خط الديمقراطية هكذا؟
قلت له إنني سوف "أحوّل المسار"، إلى أن يحقق الإنسان المعاصر بإبداعه المتجدد آلية أخرى تحترم وعى جموع الناس، ولا تركز على دغدغة غرائزهم بالتعاطف الزائف، أو ظاهر التدين. نظر إلىّ شيخي مشفقا، وقال، ألم أقل لك دائما: "إن مضاعفات وأخطاء الديمقراطية لا تصححها إلا الديمقراطية"، قلت له "لا تخف علىّ، فلن أستسلم أبدا لما هو أسوأ منها، سواء كان حكم العسكر الدائم أم حكم الحزب الواحد، أم الفرد الأوحد"، قال: "لقد فرحت بك حين أعادك ميدان التحرير إلى مدرسة الديمقراطية طائعا مختارا، وأملت فيك خيرا"، "قلت":... لكن ديمقراطية ميدان التحرير شيء آخر، فهي تعقد في حوش المدرسة، وليس في فصولها، ولكن ما أن عين الناظر تلو الناظر، حتى خاب أملى".
قال لي: "ألم تستعجل؟" قلت: "البيان الدستوري واضح"، قال: "هذا بيان مؤقت"، قلت: "إن به كل معالم ما هو قديم، إن عيبا واحدا لا يتفق مع المنطق السليم، يفسد كل ما سواه، إقرار الانتخاب الفردي دون القائمة، ثم هذه النسبة التي دافعوا عنها بأنها من "رائحة عبد الناصر" تكفى أي منهما للحكم على البيان، أليس الرئيس مبارك من رائحة عبد الناصر؟ ألم يتذكر أحدهم كيف كان يتم الانتخاب الفردي بعيدا عن ميدان التحرير بكل ما يعنى؟!! وهل يمكن أن يتم بغير ما كان يتم به؟
قال شيخي: "مازلت عنيدا، أنا مشغول على مستقبلك الديمقراطي"، قلت له: "لقد مهد البيان السبيل لديمقراطية العائلات والقبائل والمصالح والوعود بالجنة وربما العلاج على نفقة الدولة!!"
سألني شيخي: "ما اسم هذا المعهد الذي حوّلت إليه المسار؟ وأين يقع؟" قلت له اسمه: "المعهد العالي للتدريب التآمري لحفظ الحياة وحفظ النوع"، سأل: "وهل اطلعت على المقررات؟ " قلت: "إنها تتضمن البرامج التآمرية البيولوجية التي حفظت بقاء من تبقى من الأحياء حتى الآن (واحد فقط من كل ألف عبر تاريخ الحياة، ومن بينهم الجنس البشرى)، إنه يدرس كيف نترجم هذا البرنامج التطوري الرائع الذي حافظ على الحياة، إلى ديمقراطية أصدق، تختبر الوعي العام، ولا تكتفي بألعاب العقل الظاهر المنقاد في كثير من الأحيان بغرائز الخوف والتحيز"؛
قال شيخي "لكن التفكير التآمري يبرر سلبياتنا حين نضع اللوم على الغير أكثر مما يحفزنا نحن على الخروج مما وصلنا إليه، قلت له: هذا هو التفكير التبريري لا التآمري، إن الذين يصفون دفاعنا عن استقلالنا بأنه تفكير تآمري يتغافلون عن الذين يمارسون تفكيرا استغلاليا استعماريا وهم يوهمونا أنه "التفكير العالمي الجديد"!!!، وأنهم بهذا التفكير الأحادي المغـِير يحذقون استعمال تكنولوجيا الإبادة الذكية بأسماء حركية أو أسماء تدليل علمية أو سياسية وقائية أو استباقيه، ثم أضفت: الأحياء التي بقيت حتى الآن، يا خالْ، لم تبق بسبب ذكاء خططها الخمسية أو بسبب الحصول على أعلى الأصوات في صناديق انتخاب البقاء، أو لنجاحها في زيادة الدخل القومي بناء عن توصيات البنك الدولي للنمل أو للذباب أو للفيلة أو للفهود أو حتى للقرود والسحالي، (وكلها من الأحياء التي قاومت الانقراض)، ولكنها بقيت لأنها استطاعت أن تحل شفرة البقاء بآليات الصراع البيولوجية المتاحة من أول الحصول على المواد الأساسية لاستمرار الحياة، حتى التكافل مع الطبيعة المحيطة والأحياء الأخرى الأذكى تآمريا.
قال شيخي: وما علاقة ذلك بكل ما جرى ويجرى، من أول انتفاضة شباب 25 يناير التي ألحقتك ولو لهذه الفترة القصيرة بمدرسة الديمقراطية؟
قلت له: لقد انتهت المساحة المتاحة للمقال تقريبا، ولم يبق ما يسمح إلا بالخطوط العريضة للمقال القادم.
قال: فما هي خطوطك العريضة لكي أطمئن عليك حتى الأسبوع القادم؟
قلت: أنا أتصور أن الثورة إبداع حيوي: هي حمل ناجح فولادة واعدة، ومثل كل إبداع هي معرضة لإجهاض محتمل، الثورة تعلن ولادتها باندفاعية إفاقة جماعية، ثم تتطور بقدر ما أعدّ لها قبلها، وأيضا بقدر ما يستطيع مبدعوها أن يحافظوا على توجهها حتى تكتمل. الإبداع الذي هو حمل طبيعي حتى لو كان سفاحا يظل مشروع ثورة رائعة، ثم إنه حتى لو تم الوضع طبيعيا دون مضاعفات، فلا بد من رعاية الطفل لينمو حتى يصبح ثورة يافعة قادرة محيطة؟
قال شيخي: وما علاقة ذلك بالتفكير التآمري؟
قلت: التفكير الحريص على البقاء يلزمنا أن نتساءل: يا ترى ماذا جرى هكذا فجأة لشعوب المنطقة العربية ليفيقوا حتى يبدوا وكأنهم هكذا مرة واحدة انتظموا في سلسلة متتابعة مذهلة من انتفاضات تهدف إلى أن تطيح بحكام كانوا ظلمة طوال عقود (أو قرون)، وظلوا ظلمة حتى تاريخه؟ هل هي صلاة جماعة تستجيب لأذان "حي على الحرية"؟ أم أنها أنفلونزا الطيور الثائرة تنتقل عبر موجات الأثير لتصيب ناس المنطقة بأعراض تشبه الثورة؟ وحتى لو صح هذا الاحتمال الأخير فعلينا أن نعرف أننا نستطيع أن نحولها من خلال التعرض للإصابة إلى تخليق مناعة تطورية مناسبة، ومن ثمَّ: إلى ثورة حقيقية ممتدة.
قال شيخي:.... إياك إياك أن تشوه ما جرى بأن تعزوه إلى عوامل خارجية كما زعم البعض، هؤلاء الشباب لا جدال في نقائهم وتلقائيتهم
قلت: من حقنا أن نفرح لهبوط درجة حرارة الظلم، واختفاء طفح بثور التعذيب، ونحن نترحم على أرواح شهدائنا معترفين بالجميل، متعاهدين على الاستمرار، ولكن علينا أساسا أن نرعى طفل الإبداع الجماعي حتى تنمو الانبعاثه إلى ثورة. إن المرض النفسي يمكن أن يحل محل الإبداع الثوري ما لم تستثمر الخطوات الأولى للإبداع في الحفاظ على التوجه حتى يكتمل، مظاهر المرض قد تتفاقم بالتداوي بالديمقراطية القديمة التي انتهى عمرها الافتراضي أو بالديمقراطية المغشوشة المستوردة حديثا، باهظة الثمن، كما قد تظهر أعراض التسمم بالأفكار الدوائية المسمومة تسليما، والمسرطنة تبعية؟
قال: وهل سوف تدرس طرق الوقاية من كل هذا في معهدك الجديد؟
قلت: لست متأكدا، لكنك أنت الذي علمتنا ألا نيأس وألا نستسلم.
واقرأ أيضاً:
كشف الطيش.. في مسألة الجيش/ المرشحون للرئاسة بين الكاريزما والضمير2/ قنا: البحث عن.. جملة مفيدة/ أهم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة/ هنا والآن.. الثورة تكون إزاي؟؟