تدعي قوى وشخصيات ليبرالية ويسارية وشيعية وقبطية في مصر أن أموالا تأتي السلفيين من السعودية ودول الخليج، ويذهبون بعيدا في هذه الإدعاءات إلى الحد الذي يجعلهم يقدرونها بالمليارات. جاء ذلك في إطار الاتهامات التي لم تعد تتوقف، منذ قيام الثورة، والحديث عن بروز قوة الإسلاميين في مقابل إحساس الآخرين بتواضع حجمهم في الشارع، والأثر المتوقع للفارق بين القوتين على المعركة الانتخابية القادمة.
لكن في المقابل يتشكك طيف كبير من الإسلاميين في مصادر تمويل القوى المناوئة لهم خاصة في أعقاب تصريحات السفيرة الأمريكية (آن باترسون) بأن بلادها أنفقت منذ ثورة الـ 25 من يناير حتى يونيو الماضي 40 مليون دولار "لدعم الديمقراطية في مصر"! بل وأفادت بأن 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية، وأنه تم تخصيص 65 مليون دولار أخرى لهذا الشأن.
وبعد هذا التصريح بأيام أعلنت السفارة الأمريكية عبر موقعها على شبكة الإنترنت عن فتح الباب للراغبين من منظمات المجتمع المدني للحصول على المنح بموجب برنامج مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط (مابى) الذي يتولى تنظيمه "مكتب شئون الشرق الأدنى" بالخارجية الأمريكية، والذي يهدف –حسب بيان للوزارة– إلى دعم أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
قضية "التمويل" تأخذ حيزا كبيرا من مساحة الاتهام بين التيارات السياسية المختلفة، وذلك لأسباب عديدة، فإذا كانت هذه الاتهامات تهدف فيما تهدف إلى مخاطبة الرأي العام ورجل الشارع ولو كانت معنية بالجوانب القانونية والتشريعات فإنه من الجدير بالمتلقي حسن النظر والمنطقية والمناقشة الهادئة للتصريحات والإفادات التي تخرج من هنا وهناك.
الدليل الذي يستند إليه الإسلاميون لم يعد يرقى إليه الشك خاصة وهو بمثابة إعلان رسمي أمريكي، والحكوميون الأمريكيون حينما يتكلمون عن أموال صرفت فهم يعلمون تماما أنهم يتكلمون فيما يتعلق بميزانية محددة لهم وبشكل دقيق مع الأخذ في الحسبان وجود أجهزة رقابية ودافع للضرائب، وحيث يعلم الجميع أن واشنطن آخر من يمكن أن يفكر في مد يد العون للإسلاميين فإن هذه الأموال لا شك تذهب إلى مناوئيهم من بين القوى العلمانية.
وبينما اعترفت واشنطن بتقديم الأموال لمن وصفتهم "بشركائنا المصريين الوطنيين الذين عملوا معنا في كل لحظة"، حسب بيان رسمي أصدرته السفارة الأمريكية في القاهرة، كذب السفير السعودي، أحمد القطان، ما تردد من شائعات بأن الإسلاميين يتلقون أمولا من حكومة بلاده، وخلال زيارة تاريخية للبابا شنودة بمقر الكنيسة، هي الأولى من نوعها، أكد السفير عدم صحة ما يردده البعض من قيام السعودية بتقديم دعم مالي للسلفيين أو أي تيار إسلامي آخر، حتى قال انه لا صحة لرغبة المملكة في نشر الفكر الوهابي بمصر.
السفير السعودي صادق فيما أدلى به، لا شك، ليس لأن الحكوميين العرب هناك ما يلزمهم بالصدق في تصريحاتهم كنظرائهم الغربيين لكن لدلائل أخرى، فأي مطلع على توجهات السعودية الخارجية وأوجه الإنفاق المالي لدعم سياساتها يدرك مدى استحالة أن يكون تمويل الإسلاميين في مصر ضمن هذه الأجندة، خاصة في ظل العداء الذي يكنه نظام آل سعود للإسلاميين، والحرب القائمة بينهما ليس في السعودية وحدها بل في العديد من دول العالم، وأيضا كون الرياض شريك رئيسي لواشنطن وحلفائها فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، ولها جهود معلومة في هذا الشأن، سواء أمنية بتعقب الإسلاميين واستهدافهم، أو مالية بالاستجابة لطلبات واشنطن بإغلاق مؤسسات خيرية بذريعة أنها تمول إرهابيين، هذا على المستوى الخارجي.
داخليا، بينما تنتشر مقاطع فيديو على شبكة الإنترنت كانت قد سجلت لأحزاب ليبرالية تتبع شخصيات معروفة من هذا التيار، وهم يجمعون النساء الفقيرات من الأحياء الشعبية لعمل توكيلات هذه الأحزاب مقابل 50 جنيها للتوكيل الواحد، وجدنا في المقابل المقاطع التي سجلت للسلفيين وهم يدعون الناس للخروج في المظاهرات المليونية التي حشدوا لها يوم 29 يوليو الماضي، أحد هذه الفيديوهات لداعية سلفي شهير وهو يحث مستمعيه بأحد مدن الدلتا على الخروج الجماعي، ويخبرهم بأن هناك أتوبيسات سوف تنقلهم إلى القاهرة مقابل أجرة 20 جنيه يدفعها الواحد منهم، ويؤكد عليهم أن مبلغ الـ (20 جنيه) هي لأجرة الأتوبيس فقط، وأنه سيكون على كل فرد منهم أن يتحمل نفقة طعامه وما يحتاجه في الرحلة.
هذا الفيديو أخذته القوى العلمانية حجة لها في الدعاية ضد الإسلاميين، ولكي يقولوا للناس انظروا كيف يحشد السلفيون، ونحن هنا نستحضره لنكذب ما زعموا من أن الإسلاميين كانوا يوزعون الأموال على من حضر مليونيتهم في ميدان "التحرير" من خارج القاهرة.
ومن التساؤلات التي تطرح نفسها في هذا الشأن، أين هذه الأموال التي يدعوا أنها تتوالى على الإسلاميين من الخارج، وهم حتى الآن ـ وبعد ما يزيد عن 6 أشهر من عمر الثورة ـ لا يملكون صحيفة واحدة، بل وأغلب القنوات الفضائية التي يملكها بعضهم تعد من أفقر القنوات التليفزيونية الموجودة وأقلها تجهيزا وإمكانيات، حتى أنها كثيرا ما تفشل في توفير مرتبات من يعملون بها على قلتها مقارنة بأجور من يعملون في القنوات الأخرى.
وبينما سمع الجميع بالأنباء التي قالت إن قياديا ليبراليا قدم فيلا له في "السيدة زينب" هدية لقوى ليبرالية أخرى موجودة على الساحة، أعرف قياديا إسلاميا كبيرا، ينتمي لأحد أكبر الجماعات الإسلامية في مصر، كان وما يزال كلما حضر إلى القاهرة ـ حيث تضطره الظروف إلى ذلك كثيرا منذ قيام الثورة ـ وليس له مكان للإقامة فيها، ولم تستطع جماعاته أن توفره له، فكان يلجأ للمبيت عند المعارف والأصدقاء من أبناء الجماعة إلى أن ينتهي من المهمة التي جاء لها، وهي إما مهمة إعلامية أو سياسية، صاحبت الظهور السياسي للإسلاميين في أعقاب الثورة.
في تعليق له ساخر على شائعات التمويل التي ورد اسمه فيها يقول الداعية السلفي الدكتور ياسر برهامي: "كتبوا أن تمويل الدعوة السلفية 46 مليار دولار" أتى بهم ياسر برهامي مِن دول الخليج..!. ثم تابع حاكيا ما حدث معه بأحد مرات الاعتقال في عهد النظام السابق، يقول: أتذكر أول سؤال سؤلته في التحقيقات التي تمت معي بجهاز أمن الدولة عام 2002: جاء لكم مبلغ في تاريخ معين مِن الخارج وأنتم رفضتم استلامه وقمتم بإرجاعه.. ما القصة؟ فأجاب: القصة أن هناك مبلغ 17 ألف جنيه مِن أحد الجمعيات وبعض الإخوة استلمها، أدركنا ذلك وبادرنا فورًا بمعاقبته ورددنا هذا المبلغ.
مؤكدا أن جماعته تنفق على تنقلات شيوخها ومؤتمراتهم والكتيبات التي يوزعونها مِن القائمين بها أنفسهم "وهي دائمًا في أضيق الحدود"؛ على حد قوله، لأنها بتكلفة بسيطة، والقائمين من أهل المكان هم مَن يتولون ذلك، وأضاف بل "نحن نُتهم دائمًا بأننا متخلفين بسبب قلة النفقات".
ما سبق يدفعنا إلى القول: أنه لو جاز للإسلاميين اتهام التيارات الأخرى بتلقي الأموال من الخارج فإنه لا يحق لهذه التيارات اتهام الإسلاميين اللهم إلا إذا استحلوا الكذب وغيره في سبيل التشويه.
واقرأ أيضاً:
فرصة للتصالح الاجتماعي/ وصايا "فوق دستورية".. كأننا نُستعبد من جديد/ 50 % & 50 %، ... فماذا يتبقى لنا؟/ تشكيل الوعي المصري الكوني الجديد (الحرية)