انعقدت أولى جلسات مجلس الشعب بعد الثورة في يوم الاثنين 23 يناير 2012 م، وقد بدا المشهد في البداية مرتبكا ومضطربا وعلت الأصوات والاعتراضات هنا وهناك واعتبر بعض المراقبين والمحللين أن تلك عيوب في المجلس نتيجة نقص خبرة غالبية الأعضاء بالعمل النيابي وحداثته بالنسبة لهم، وكانت السمة السائدة هي كثرة اللحى لدى الرجال وغلبة الحجاب لدى النساء القليلات في المجلس.
ومن سمات هذا المجلس أنه غير سابق التجهيز وغير معلب، حيث لم تتحدد أسماء الناجحين مسبقا في مقرات الحزب الوطني أو مقرات أمن الدولة، ولم تستبعد فيه أو منه تيارات بعينها لعدم رضا السلطة عنها أو تخوفها منها، ولم يتم القبض على بعض المرشحين قبل الانتخابات لإثنائهم عن الترشح، ولم يعتقل مؤيدي بعض المرشحين المغضوب عليهم، ولم يمنع الناخبين من الوصول إلى لجان الانتخابات. مجلس جديد لم يظهر فيه كمال الشاذلي بكرشه الممتلئ وزغرته التحذيرية للأعضاء الذين يعرف نقاط ضعفهم وفسادهم ويضغط عليهم منها، ولم يظهر فيه أحمد عز ليحرك بإشارة من إصبعه قطيعا من أعضاء الحزب الوطني ليقول نعم أو لا حسب الحاجة (حاجة مبارك وأبنائه ورجال أعماله)، ولم يظهر فيه فتحي سرور كناظر مدرسة يتحكم في تلاميذ فاقدي الأهلية، ولم يظهر فيه نواب مخدرات أو مهربي آثار أو ناهبي أراضي الدولة.
اختلفت الآراء في الجلسة الأولى وعلت الأصوات لدرجة الشجار، وكانت الحركة داخل القاعة أكثر مما ينبغي وبدا الأمر وكأنه يخرج عن السيطرة في بعض الأحيان، ولكن مع هذا تمت الجلسة وتم حلف اليمين واختيار رئيس المجلس ووكيليه.
كان رئيس الجلسة يدرك أن دوره ليس هو نفس الدور الأبوي المتسلط الذي كان يمارسه رفعت المحجوب أو فتحي سرور فهؤلاء كانوا يحكمون أعضاء جاءوا بقرارات حكومية وتزكيات ومساعدات أمن الدولة والحزب الوطني، أما الأعضاء في هذه المرة فقد اختارهم الشعب فعلا، ولهذا فهم يمثلون المصريين بكل تبايناتهم وتناقضاتهم وحسناتهم وعيوبهم، ولهذا لم يشأ رئيس الجلسة أن يمارس هذا الدور التسلطي كي يضبط الجلسة ضبطا تعسفيا قهريا بل ترك قدرا من الحرية بدا مزعجا للبعض في البداية ولكن اتضح أنه مقصود ومحمود في مثل تلك الظروف الثورية.
صحيح أن البعض اعترض أثناء القسم على العبارة التي تنص على احترام الدستور والقانون حيث لم يوضع الدستور بعد، فكيف يقسم على احترام دستور لا يعرفه وقانون لم تتضح ملامحه بعد!!!... وهذا كان أحد أخطاء الفترة الانتقالية التي قلبت موازين الأمور فجعلت الانتخابات قبل الدستور.
صحيح أن كثيرين من رموز الثورة وشبابها غابوا عن هذا المجلس، ولكن هذا لا يعيبهم ولا يعيب المجلس فلكل مؤسسة آلياتها وطرق اختيار أعضائها، وكل ميسر لما خلق له، ومن لم يتيسر له دخول المجلس فأمامه ساحة العمل الوطني مفتوحة في كل مكان على مصراعيها، وهذا المجلس ليس أبديا، وإن كان ثمة تيارات سياسية لم يسعفها الحظ هذه المرة للتمثيل المتكافئ في البرلمان فعليها أن تصحح أخطاءها وتلتحم بالشارع وتهتم بالناس وتنزل من أبراجها ومن شاشات تليفزيونياتها إلى ساحة الحياة اليومية كي تكتسب ثقة الناس ومحبتها.
صحيح أن بعض الأعضاء السلفيين خرجوا عن نص القسم وأضافوا له عبارة "ما لم يخالف شرع الله"، وصحيح أن مشادات حدثت بين ممثلي تيارات سياسية مختلفة، وصحيح أن التناغم والتوافق كان غائبا عن المشهد، ولكن الأمر في مجمله يعكس حالة من الشغف للحرية والتعبير عن الرأي سادت أثناء وبعد الثورة، حالة من التحرر من السلطة الأبوية للرئيس وللقائد وللزعيم وتستبدلها بسلطة الرأي وسلطة الشعب، وغالبا ستسود هذه الروح جلسات المجلس القادمة. ربما تثور منازعات وخلافات وتحدث اشتباكات في الشهور القادمة ولكنها في النهاية تعكس روح التنافس والرغبة في التأثير والتغيير.
لم يعد هناك مجلس للقطيع يحركه شخص بكرشه أو بإصبعه ليقول نعم فيعلو صوت المنصة كذبا وبهتانا بكلمة "موافقة"، ولم يعد هناك مجلس يتسلى أعضاؤه ب"قزقزة" اللب والفول السوداني، ولم يعد هناك مجلس يمرر للحكومة خطاياها ويبلع لها تجاوزاتها، ولم يعد هناك مجلس يسبح بحمد الرئيس أيا كان الرئيس، ولو فعل ذلك لأسقطه الناس في أول فرصة انتخابية، ولم يعد هناك مجلس يبصم على الميزانية بشكل أعمى، ويمدد قانون الطوارئ بطريقة غبية.
قد يمض وقت قبل أن يتآلف أعضاء المجلس وتتشكل تحالفاته وتنتظم آلياته وتنشط لجانه ويتضح دوره المؤثر، ولكن في النهاية هو مجلس ولد طبيعيا من رحم الشعب المصري فيه كل حسنات وعيوب هذا الشعب، وقد لا يعجب البعض تشكيلته وهيئته وأدائه، ولكن في النهاية هو صوت الشعب الذي يتجدد كل دورة انتخابية كما تتجدد خلايا الجسد وتلك هي سنة الحياة وقواعد الديموقراطية.
واقرأ أيضاً:
سيكولوجية السلطة/ احتمالات تحالف الإسلاميين داخل البرلمان وخارجه/ مللت السذاجة.. سئمت الغباء/ "العسكري" يتعجل الصدام مع الإسلاميين