"لم تأت مصر من فراغ، ولم تكن وليدة صدفة أو مجرد لحظة إبداع، ولكنها كانت بناءا فلسفيا جعل من الوطن فكرة ينتصر بها الفرد على هشاشته وعمره الموقوت ويتصالح بها مع حتمية نهايته من خلال دوام واستمرار هذا الوطن – مصر" (مايكل رايس – صنع مصر).
حين قامت ثورة يوليو 1952 في مصر تناما تيار عروبي قومي محاولا تجاوز حدود الذات المصرية إلى الأفق العربي الأوسع بحثا عن هوية (أو ربما زعامة) عربية، واختفى اسم مصر إبان مشروع الوحدة مع سورية (وما بعده) لتصبح الجمهورية العربية المتحدة. ثم حدثت نكسة 1967 وسبقها وتبعها أحداث كانت كلها تشير إلى فشل المشروع القومي العربي، وأن المجتمع المصري تحت تأثير الهزيمة يبحث عن هوية أكثر صلابة وتماسكا وحبذا لو كانت أكثر عمقا واتساعا.
ومن هنا بدأت الحركات الإسلامية تنشط في السبعينيات منادية بهوية إسلامية وقد لاقى هذا النداء قبولا عند قطاعات كبيرة من المصريين المحبطين، وهذا يمكن تفسيره نفسيا واجتماعيا بأن المجتمعات في لحظات الضعف والاهتزاز تحاول الرجوع إلى أقرب مرحلة صلبة وقوية في تاريخها لكي تعيد لنفسها الثبات والعزة التاريخية وتستمد منها عوامل القوة والانطلاق. وتزامنا مع انتعاش الهوية الإسلامية كانت الهوية القبطية تتنامى لدى مسيحيي مصر حيث اتجهوا نحو الكنيسة والتفوا حول قياداتها الروحية يستلهمون منهم الفكر والوجدان والحركة.
وفي نفس التوقيت كان ثمة تيار مصري محدود العدد ولكنه قوي الظهور إعلاميا ينادي بالعودة للهوية المصرية الفرعونية القديمة على اعتبار أن الحضارة المصرية هي الحضارة الإنسانية الأم التي ألهمت وما زالت تلهم كل الحضارات الإنسانية ومن هنا ينبهر بها العالم كله وبالتالي تصبح هذه الحضارة منطلقا إنسانيا وعالميا للنهضة المصرية الحديثة.
والهوية –كما يقول صمويل هنتجتون– "هي إدراك الفرد أو الجماعة لذاتها، وهي نتاج للوعي بالذات، وبأننا كأفراد ومجتمع نمتلك صفات واضحة تميزنا عن غيرنا". ويضيف هنتجتون مؤكدا على أهمية مسألة الهوية بقوله "إن هويتنا تحدد اختياراتنا وبالتالي مستقبلنا". وبناءا على ذلك يتضح أن خيارات الهوية في المجتمع المصري لم تنضج بعد ولم تتأكد، أو على الأقل لم تحسم ولم يحدث عليها توافق يسمح بانطلاق عجلة البناء، إذ مازال المصريين في حالة اشتباك وصراع حول الأسس والمفاهيم، بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الاعتقاد والفكر، بين تصورات النخبة العلمية المثقفة وتصورات أنصاف المتعلمين والعامة والبسطاء، بين النظام البائد الذي مازال يتشبث بالسلطة والثروة والتأثير والنظام الجديد الذي لم تتحدد ملامحه بعد ولم تتثبت أقدامه على الأرض.
وما يدور الآن من جدل بين التيارات الإسلامية والتيارات الليبرالية أو العلمانية يمثل في أحد أهم جوانبه صراعا على الهوية، ويعلن بوضوح أننا مازلنا حتى هذه اللحظة في حالة غموض حول هذه المسألة، وهذا ليس عيبا أو خطرا، ولكن العيب والخطر أن تمتد هذه الحالة من غموض أو قلق الهوية لفترات طويلة إذ يستحيل معها البناء ويستحيل معها الحركة نحو المستقبل، فالهوية هي التي تحدد الخيارات وتحدد المستقبل وتحدد لحظة البدء وسرعة الانطلاق ووجهته.
والصراع حول الدستور يعكس هذه الأزمة فالتيار الإسلامي يرى أن الأمر محسوما إذ هو صاحب الأغلبية البرلمانية بشقيها الشعب والشورى وبالتالي يبدو منطقيا أنه مفوض من الشعب في وضع دستور يعكس هوية الأغلبية المصرية التي اختارته، كما يستند هذا المنطق إلى تغلغل المفاهيم والمشاعر والسلوكيات الدينية في المجتمع المصري بشكل يجعل مسألة الهوية وكأنها محسومة لصالح الهوية الإسلامية نظرا لوجود أغلبية مسلمة كبيرة، وأن هذا لا يتعارض مع الهوية المسيحية لدى الأقباط حيث تسمح الهوية الإسلامية الرحبة بالتعايش مع الأديان الأخرى بشكل جيد أثبتته مراحل التاريخ، كما أن هناك مساحات التقاء واسعة بين الديانات تجعل المتدينين ينطلقون من أرضية مشتركة حتى لو اختلفت بعض التفاصيل.
وأصحاب الهوية الدينية ينظرون إلى المنادين بالعودة للهوية الفرعونية على أنهم مجموعة من الدراويش الحالمين، وأنهم لا يدركون تغيرات الزمان والمكان، وأن الحضارة المصرية القديمة -رغم عظمتها وروعتها- فهي حضارة متحفية تصلح للعبرة والإلهام الثقافي والحضاري، ولكنها لا تملك تحريك مفاتيح الحياة اليومية في المجتمع المصري الذي تشبع بتعاليم الديانتين الإسلامية والمسيحية، وأن هؤلاء الدراويش ينظرون برومانسية إلى التاريخ الفرعوني على أنه تاريخ ملائكي كله إنجازات حضارية ولا يرون صراعاته وسقطاته.
أما الليبراليون والحداثيون فيرون في صراع المتدينين مع الفرعونيين عبثا يجسد حالة من الانكفاء على الذات لدى الطرفين وأن ذلك يبعدهما عن الدخول إلى عالم المستقبل بأبجديات الحياة الحديثة، وأن الزمن قد تجاوز الجميع في مصر، وما لم يفق المصريون فسوف يجدون أنفسهم خارج إطار التاريخ الإنساني الحديث.
وما زال الصراع دائرا بين أصحاب الاعتقاد الذين يتمترسون خلف ثوابتهم ويرفضون التغيير ويحتمون بالتأييد الشعبي، وبين أصحاب الفكر الذين يرغبون في تغيير منظومات الحياة المصرية طبقا لمعايير النمو والتطور في المجتمعات الحديثة وهم يمارسون نشاطهم من خلال المنظومة الإعلامية والثقافية في برج عال يبعدهم عن التيار الشعبي العام، والناس في النهاية قد يملون هؤلاء وهؤلاء ويعيشون هوية تكاملية فطرية تجمع كل الطبقات الثقافية والدينية والحضارية بشكل إبداعي شعبي، أو يخرجون للمطالبة مرة أخرى بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
واقرأ أيضاً:
ماذا نحن فاعلون؟/ لقد وقع الإخوان في الفخ/ مرشحو الرئاسة والبيئة/ عمر سليمان.. السيناريو الأسود/ ظاهرة "ولاد ابواسماعيل"