الفرق بين الأشخاص العاديين والمبدعين الذين يصنعون التغيير أن الشخص العادي يسير في الحياة على طريقة "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"، لا يفكر بالتجديد أو مراجعة الأوضاع القائمة، ولا يفكر في احتمالات أخرى يمكن أن تحقق الأهداف بفعالية أفضل، يعكف على الصورة الجامدة ويغفل عن الروح، لا يملك الجرأة للخروج عن الأنماط المألوفة..
هذه العقلية تترجم نفسها في كافة ميادين الحياة بدءً من الأعمال البيتية الصغيرة وانتهاءً بالأفكار الكبيرة التي تتعلق بالحضارة البشرية جمعاء..
يحكى أن فتاةً كانت إذا أرادت قلي السمك قطعت رأسه فسئلت لماذا تفعلين هذا قالت لأن أمي كانت تفعله، فسألوا الأم لماذا تقطعين رأس السمكة فأجابت لأن أمي كانت تفعل هكذا، فذهبوا إلى الجدة الطاعنة في السن وسألوها لماذا كنت تقطعين رأس السمكة فقالت لأنني فيما مضى كنت لا أملك سوى إناء صغير لا يتسع للسمكة كلها فكنت أضطر إلى قطع رأسها حتى يسعها الإناء..
هذه القصة تلخص فلسفة الحياة.. فالعجوز حين لجأت إلى هذه الفكرة كان عملها مبرراً لأن له سبباً وظيفياً، لكنها خلفت من بعدها خلفاً أضاعوا الفكرة واتبعوا الشكل حرفياً دون أن يعملوا عقولهم ليروا إن كان ما يناسب ظروف العجوز يناسب ظروفهم أم أنه بات بالإمكان اللجوء إلى خيارات أفضل، وبقيت حالة الصنمية والتقليد ساريةً عبر الأجيال حتى جاء من أعمل فكره فسأل لماذا؟؟
سؤال "لماذا" هو الذي يخرج الإنسان من التقليد إلى التفكير ويتيح له أفقاً أوسع وزوايا جديدةً للنظر، نحن بحاجة إلى ترويض أنفسنا على طرح الأسئلة تجاه المألوفات في حياتنا والبحث عن البدائل الأخرى الممكنة لتحقيق نتائج أفضل، المبدعون هم الذين يتقنون فن التساؤل، ما ينبغي أن نأخذ أياً من الأمور كمسلمات، بل ينبغي أن نتساءل دائماً بغض النظر عن الإجابة. التعود على طرح الأسئلة في حد ذاته كفيل بأن يخرجنا من حالة الجمود والتقليد الأعمى ويدفعنا نحو الإبداع والتجديد، حتى وإن كانت الأسئلة غايةً في الغرابة فإن طرحها مفيد لتجنب أن يقتل إلف الأشياء ملكة التفكر فينا.
نحن نشأنا في مجتمعاتنا فوجدنا أوضاعاً قائمةً فتعايشنا معها دون أن نفكر كيف نشأت هذه الأوضاع وهل هناك إمكانية لتطويرها.
لماذا يجب أن يذهب الطفل إلى المدرسة وعمره ستة أعوام، لماذا لا يذهب وعمره ثلاثة أعوام أو ثمانية أعوام -أعيد التأكيد بأنني لست مهتماً بالإجابة وإن كان الوضع الحالي هو الأفضل أم لا ولكنني مهتم فقط بمبدأ طرح الأسئلة-.
لماذا يتكون النظام السياسي من وزارات ومجالس نيابية ورؤساء، ألا توجد إمكانية للبحث في صيغ أفضل للحكم تكون قادرةً على تحقيق درجة أكبر من العدل والشفافية، ألا يمكن أن تكون هناك وسائل أفضل من وسيلة الانتخابات لاختيار الرئيس، لماذا لا يتم مثلاً تشكيل لجان تنبثق من كل حي من شخصياته الفاعلة وتكوين مجلس منها، وتتجمع مجالس الأحياء لتشكل مجلساً للمدينة، وتتجمع مجالس المدن وتنتخب مجلساً للحكماء على مستوى الدولة وينتخب هذا المجلس بدوره لجنةً لإدارة الدولة فيكون الرئيس قد مر بمراحل عديدة من الغربلة والتمحيص.
لماذا يقوم أساس الحياة السياسية على تشكيل الأحزاب، ألا توجد وسيلة أفضل للتعبير عن التنوع الفكري والسياسي وتجنب سلبيات الأحزاب المتمثلة في كونها لا تمثل كافة شرائح المجتمع، وفي كون الأحزاب أقل مرونةً في حركتها من الأفراد؟؟
لماذا لا تلغى فكرة الأحزاب الحالية ويتم البحث في صيغ أكثر تطوراً وتحقيقاً للحرية والعدالة مثل أن تحل فكرة المبادرات الشعبية محل فكرة الأحزاب، ففي ظل القفزة الهائلة في وسائل الإعلام التفاعلي يمكن لأي مجموعة من الشباب أن يجتمعوا على هدف محدد يتولد من نبض الشارع وأحداث الساعة ويعملوا على التحشيد وتشكيل رأي عام لتحقيق هذا الهدف فإذا تحقق انتهت هذه المبادرة الشبابية بانتهاء وظيفتها، وبذلك يكون الحراك المجتمعي أكثر مرونةً ونتجنب سلبيات الأحزاب التي تتحول مع مرور الوقت إلى غاية في حد ذاتها بعد أن كانت وسيلةً وتصبح معيقاً لتحقيق الأهداف الوطنية بعد أن كانت خادماً لهذه الأهداف.
هل لا تزال هناك جدوى للتعليم الجامعي التقليدي في ظل القفزة الهائلة في وسائل الاتصالات ولماذا لا يتم الاستغناء عنه كلياً لصالح التعليم الالكتروني؟، ولماذا لا يتم مراجعة كل أساليب التعليم وإعادة ترتيب الأولويات في ظل اختراع محركات البحث العملاقة التي لم يعد معها الحفظ بذات الأهمية التي كان عليها لأن الإنسان يستطيع أن يستحضر أي معلومة يريدها في أي وقت بسهولة ويسر بمجرد تذكر كلمة واحدة من هذه المعلومة، لماذا لا يتم التركيز في ظل هذا الوضع الجديد على مهارات البحث والجوانب الفكرية والتأملية أكثر من الحفظ، وهل لا يزال أسلوب التلقين صالحاً؟ لماذا لا يتم نسف هذا الأسلوب برمته وتحول مؤسساتنا التعليمية نحو أسلوب التعلم الذاتي وتحول وظيفة المعلم إلى حث تلاميذه على البحث والقراءة بدل إيصال المعلومة المباشرة لهم.
هل لا تزال الشهادات الجامعية مقياساً صالحاً للتفاضل في الوقت الذي يمكن أن يحصل فيه أي شخص على شهادة جامعية بالحد الأدنى من الجهد دون اندماج مع مجال دراسته فلا يتعدى تعامله مع المؤسسة التي يعمل فيها بعد تخرجه عن كونه وظيفةً للمعاش، بينما يمكن أن يكون هناك شخص آخر لم يدرس في هذا التخصص ولكن قد توفرت فيه الدافعية والرغبة والاجتهاد الذاتي فصار بإمكانه أن يخدم في مجال عمله أفضل من ذلك المتخصص.
هل لا يزال أسلوبنا الإعلامي قادراً على إقناع الجماهير في زمن الفضاءات المفتوحة التي صار بإمكان الجماهير أن تستمع وتشاهد وتقرأ لما لا يعد ولا يحصى من المنابر الإعلامية الأخرى، وهل يصح في ظل هذه المعطيات أن نتعامل مع الجمهور بسذاجة كما لو كنا وحدنا في الساحة، ألسنا بحاجة إلى مراجعة منظومتنا الفكرية والإعلامية برمتها لنكون قادرين على البقاء والمنافسة في هذا الزمان.
لماذا تبنى المساكن على هذا الشكل الذي وجدنا عليه آباءنا، لماذا لا تكون المباني دائريةً بدل أن تكون مربعةً ولماذا لا تكون النوافذ مثلثةً بدل ما هي رباعية، ولماذا نستعمل أحجار الطوب في البناء، لماذا لا نستعمل الخشب مثلاً.... ولماذا لا نفكر في إعمار الصحراء والسكن تحت الماء، ولماذا يجب أن تكون البيوت ثابتةً في مكانها فإذا فكر شخص في الانتقال من مدينة إلى مدينة كان عليه أن يبيع بيته ويشتري بيتاً آخر أو يستأجره، لماذا لا نفكر في بناء بيوت فخمة متنقلة فيصير بإمكان الإنسان أن ينقل بيته عبر المدن والبلدان كما ينقل حقيبة سفره.
لماذا ننظر إلى أمريكا بأنها عدوة، أما من سبيل للبحث عن نقاط التقاء؟؟، لماذا نمارس الكفاح المسلح ضد إسرائيل، هل هو هدف في ذاته، أم أنه وسيلة يمكن إعادة النظر فيها والبحث عن وسائل جماهيرية وسلمية أكثر فاعليةً وأقل تكلفةً لتحقيق الهدف.
لماذا لا نزال نصدر صحفاً وكتباً ورقيةً، وهل لها ما يبرر وجودها في حين أن الانترنت يتيح لمتصفحه مطالعة وتنزيل ملايين الصحف والكتب مجاناً، هل من ميزات موضوعية للصحف والكتب الورقية أم أن تعلقنا بها هو تعلق بالماضي وحسب.
وبعد، فهذه مجرد أمثلة طرحتها لا أقصدها لذاتها بل أقصد أن نعود أنفسنا على طرح الأسئلة الجديدة دائماً في كافة المجالات وألا نأخذ الأوضاع القائمة على أنها مسلمات، وأن نفرق بين الهدف والوسيلة، فالهدف ثابت لا يتغير لكن الوسيلة فإننا يجب أن نتحلى بالحد الأقصى من المرونة ونكون مستعدين لإعادة النظر فيها بين كل فترة وأخرى دون أن ننسى أنها مجرد وسيلة.
المجتمعات المتقدمة لم تتقدم إلا لأنها ترحب بالأفكار الجديدة وتدرسها بعناية بينما تشيع عندنا ثقافة "اللي بنعرفه أحسن من اللي بنعرفوش" فيظل فينا الجبن والمهابة وافتقاد روح المبادرة.
يتضح الفرق بين طريقة التفكير الغربية والشرقية في الثورات العربية، فأمريكا ومثلها إسرائيل التي ظلت تدعم حسني مبارك لمدة ثلاثين عاماً بمجرد أن رأت بوادر سقوطه لم تبك على أطلاله بل سارعت لإعادة التفكير والبحث في البدائل الممكنة في الواقع الجديد، ولم تجد حرجاً في الاتصال بالقوى الشعبية الصاعدة حتى لو كانوا ألد أعدائهم مثل الإخوان المسلمين، أما نحن فإننا نظل مائة عام نبكي على اللبن المسكوب ولا نفكر في التأقلم مع المعطيات الجديدة دون التخلي عن مبادئنا بطبيعة الحال.
من المؤشرات المحزنة في بلادنا أنك إذا طرحت فكرةً جديدةً على إحدى المؤسسات أو الشخصيات فإنه يرفضها حتى قبل أن يناقشها وما ذلك إلا لأنه تربى منذ منشئه ألا يقلب النظر ويبحث في زوايا جديدة وربما اختلق لك المبررات والمعاذير لتسفيه الفكرة ولكن السبب الحقيقي والعميق هو الروح التقليدية التي تسيطر عليه وافتقاده لروح البحث والتجديد.
نجد في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم درساً في الخروج عن المألوفات والبحث عن حلول إبداعية، فحين اختلف سادة قريش أي قبيلة يكون لها شرف وضع الحجر الأسود وكاد هذا الاختلاف يصل إلى حد الاقتتال ثم اتفقوا أن يحتكموا إلى أول من يدخل عليهم، فإذا به محمد وكان هذا قبل بعثته، فاحتكموا إليه وطلبوا منه الرأي، فنشر ثوبه على الأرض ثم وضع الحجر عليه وطلب من كل سيد من سادات قريش أن يمسك بالثوب من أحد الأطراف، حتى إذا رفعوه مجتمعين أخذ الحجر منهم ووضعه مكانه، وبذلك جنب قومه ويلات حرب بفكرة بسيطة قوامها الخروج عن المألوف والبحث في بدائل جديدة.
كانت مشكلة قريش وهم يوشكون على الاقتتال أنهم يفكرون بالأسلوب التقليدي فهم لا يتصورون غير الصدام أسلوباً للحسم، لكن حكمة محمد أبصرت خياراً آخر غير الصراع الصفري فهناك إمكانية ليخرج الجميع الرابحين وليس بضرورة أن يكون ربح فريق على حساب الفرق الأخرى.
وفي هذا الموقف درس للجماعات البشرية التي تقوم حياتها السياسية على أساس من الصراع والتصادم، ولو خرجوا من التفكير التقليدي وبحثوا في بدائل جديدة لكان بالإمكان التوصل إلى إرادة مشتركة بين جميع البشر يربح فيها الجميع ولا يخسر فيها أحد.
القرآن يغرس فينا روح الخروج عن المألوف، فعدا الآيات التي تذم اتباع الآباء فكرياً وهي أزيد من أربعين آيةً "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"، واتباع الآباء رمز للتقليد والجمود على الأوضاع القائمة، فإنه كثيراً ما يلفت أنظارنا إلى الظواهر الطبيعية من حولنا، وهي ظواهر من شدة ما ألفناها فقدنا روح الإثارة تجاهها وغفلنا عنها لكن القرآن يعيدنا إلى حالة اليقظة الفكرية والشاعرية فيذكرنا بنعمة الليل لباساً والنهار معاشاً والجبال أوتاداً والنوم سباتاً وأنه خلقنا أزواجاً، ويحفز خيالنا على تصور إن كانت حياتنا ليلاً بلا نهار أو نهاراً بلا ليل، والانتباه للظواهر الأكثر قرباً منا هو الذي يحرر عقولنا من أسر المألوفات ويستفزها للبقاء في حالة دائمة من التفكر والبحث.
في الوقت الذي نطمح إلى مجرد أن نعود أنفسنا على الاستماع للأفكار الجديدة لا رفضها قبل مناقشتها، فإن هناك من تقدم خطوةً أكبر إلى الأمام مثل ألبرت آينشتاين الذي لم يكن يفكر في الممكنات وحسب بل كان يفكر حتى في المستحيلات ويرى أنه بالإمكان أن تتحول إلى ممكنات يوماً ما وأن تشق طريقها على أرض الواقع، وكان يحلم بأن يركب شعاعاً من الضوء.
هذه العقلية هي التي تنتج الاختراعات والاكتشافات العظيمة، وهي وحدها التي تساهم في تقدم البشرية.... والله أعلم.
واقرأ أيضًا على مجانين:
انفصال الأيديولوجيا عن الواقع