الدين المشوّه والحاجة إلى ثورة تربوية فقهية

 فشلت العلمانية في تهميش حركية الإيمان وكذلك فئ إنكار حضور الله في وعي البشر كيانا محوريا جوهريا لازما ليكون «الإنسان إنسانا». ومع ذلك فيبدو أنها قد نجحت في التخلص من وصاية السلطة الدينية واحتكارها التحكم في حياة البشر نيابة عن الله سبحانه وتعالى، لكن يبدو أنها وهي تتخلص من هذه السلطة، كادت تتخلص من الدين والإيمان معا، وكأنها ألقت السلة الخانقة الشائكة بالطفل الذي بداخلها.

 على الجانب الآخر فشلت السلطة الدينية في استعمال الدين استعمالا صحيحا، فاستخدمته غالبا لغير ما أُنزل له حفزا لحركية الإبداع كدحا إلى وجه الحق تعالى، دفعا بالإنسان نحو مزيد من الرقي والتحضر، ومازالت معظم السلطات الدينية تقدم تفسيراتها المغلقة، في الحكم وغير الحكم، لتحل محل الاستلهام المتجدد للنصوص الإلهية الباعثة على الإبداع والحياة، فكانت النتيجة أن ابتعد عامة الناس عن الإيمان الحقيقي لحساب محتكري التفسير، فالتحكم في البشر من دون الله.
 
 ■ ما العمل؟
 نحن نحتاج إلى ثورة توقف مسلسل التناقض الذي يصل إلى أولادنا طول الوقت حين نبلغهم أن الله سبحانه سيذهب بأحدنا دون الآخر إلى النار، وفي نفس الوقت يشاهدوننا ونحن نحضن بعضنا بعضا، وندعي منتهى «المواطنة»!!
 نحن نحتاج فعلا إلى ثورة فقهية /لاهوتية تربوية تحول دون هذا العبث السطحي. نحتاج أن نفتح الباب للتنقل بين الأديان، فلا نُعْدِمُ مسلما دخل المسيحية أو حتى ألْحَدَ، (بعد أن أفتى عدد من الثقات بذلك) كما نحتاج ألا نحبس مسيحية أسلمت، فكل هذه التنقلات قد تكون مراحل جهاد رائع كدحا إلى وجه الله تعالى، وهو العدل الغفور الرحيم، وبغير هذه الثورة سوف يظل أطفالنا يسخرون منا ونحن نحضن بعضنا بعضا وكل منا يجهز جهنمه للعزيز القابع في حضنه!
 
 سوف أدع جانبا الآن الأزمة الأخيرة في إمبابة فهي أزمة واردة ومكررة، إذ غالبا لن تمضي أيام أو أسابيع، ويحب واحد مصري واحدة مصرية، أو العكس، أو يختلف زوجان مسيحيان مثل كل أزواج الدنيا، أو تطلق شائعة خبيثة هنا، أو هناك، فتشتعل النار من جديد، ويعاد السيناريو نفسه وتتوزع الاتهامات من أول اتهام الأمن بأنه يلهي الناس عن مصائب أخطر، حتى اتهام الثورة المضادة بأنها تريد أن تخربها لتعود وتجلس على تلها، مرورا باتهام أيد أجنبية باللعب في الوحدة الوطنية لتفرق هذا الشعب الرحيم الصبور عن بعضه البعض.
 
 ■ لماذا يتكرر هذا السيناريو بكل هذا القبح وتلك المخاطر قبل ٢٥ يناير وبعد ٢٥ يناير؟
 نعم نحن نحضن بعضنا بعضا جدا جدا بعد كل أزمة، وترتفع الهتافات صادقة فعلا خصوصا بعد التلاحم في ميدان التحرير، لكن السيناريو يتكرر وسوف يتكرر.
 كل هذا- مرة أخرى- يدعونا ألا نكتفي بالتقليد الأعمى تحت شعار يسمى «المواطنة هي الحل»، وأيضا ألا نرضى بمجرد الهرب النعامي الأسهل (إلغاء خانة الدين من الهوية).
 إن ما لجأ إليه أغلب الشمال والغرب، مع التجاوز عن نكسة أمريكا الأصولية، هو نتيجة تنحية الدين جانبا بما شمل الكدح الإيماني إلى وجه الله. الحل الذي اضطر إليه الغرب والشمال في مواجهة السلطة الدينية أدى إلى استبعاد هذا الأصل «البيووجودي» الدافع إلى الوصل الأسمى، من الحضور في الوعي البشري المعاصر، عبر حركية الإيمان، مع التذكرة بأن الأديان على اختلافها ليست مرادفة للإيمان بشكل مباشر حتى بنص القرآن الكريم (وأعتقد أنه يوجد نص يقابله في أصول كل دين) «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ». الذي حدث أنه حين اختلطت السلطة الدينية بالسلطة السياسية والسلطة المالية، أزيح الدين الصحيح، وبالمرة الإيمان، بعيدا عن الحضور الظاهر، وعن الدفع القادر، وعن الإبداع الغامر.
 
 وقد تم ذلك بطرق مختلفة مثلما يلي:
 أولا: تم إلغاء الدين تماما باعتباره مخدرا ميتافيزيقيا معطلا (حول الفترة الستالينية والشيوعية التقليدية).
 ثانيا: سمحوا باستعمال الدين- بعض الوقت- كمسكِّن عند الحاجة، وأحيانا من باب الوقاية من القلق والتوتر وما شابه، وبمثابة احتفالية اجتماعية!
 ثالثا: اشترط أن يكون هذا الاستعمال- غالبا- بصورة شخصية تماما ويستحسن أن تكون سرية أيضا.
 أعتقد أن هذا التوجه (فيما عدا البند الأول تحريم التدين) هو الذي يروّج له عندنا حاليا تحت مسمى العلمانية، واسمها الحركي: «الدولة المدنية» واسم التدليل «المواطنة»!
 
 برغم هذا الحل السعيد فقد راح بعضهم يستعمل الدين لأغراض أخبث وإليكم بعض عينات ذلك:
 ١- استعمال الدين تبريرا للاستيلاء على أوطان الغير ولا مانع من قتل الأطفال والأبرياء وهدم البيوت استباقا (إسرائيل) ابتغاء مرضاة نصوص لم يفسرها إلا الطمع والإغارة القاتلة.
 ٢- استعمال الدين بطريقة أخفى للحصول على أصوات انتخابية بشكل أو بآخر.
 ٣- استعمال الدين تبريراً لما يسمى صراع الحضارات.
 ٤- استعمال الدين تصنيفاً للإرهابيين عند اللزوم.... إلخ
 
 أما عندنا، فعلى الرغم من أننا لم ننجح في تهميش الدين مثلهم- ربما لأسباب تاريخية وحاضرة- فإننا قزّمناه، وضيقنا عليه الخناق، وجمّدناه، وشوهناه وأضفنا إلى بعض الاستعمالات السلبية السابقة ما نتميز به مثل:
 ١- استعمال الدين كوسيلة للتربح أو الاحتكار الدنيوي جدا.
 ٢- استعمال الدين- تعسفا - لتفسير بعض العلوم والمعلومات.
 ٣- استعمال الدين كوسيلة لقهر ووأد الإبداع.
 ٤- استعمال الدين كوسيلة للاستيلاء على السلطة السياسية.
 دعونا نعترف بأنه لا الحلّ العلماني استطاع أن ينتزع الدين من الوعي البشري، وإن كان قد نجح في إبعاد السلطة الدينية ولا الحلّ التسطيحي المغترب قد نجح في أن يحقق ما أراده ربنا بإثراء عمق الوجود البشري بحركية الإيمان إلى وجهه تعالى.
 
 ■ فما العمل؟
 هذه الثورة التربوية الفقهية التي أحلم بها ربما تسمح لنا بأن‏ ‏نعيش‏ ‏أزمة‏ ‏التحدي ‏المعاصر‏، ‏ونحن‏ ‏نجدد إيماننا‏ ‏باستلهامات‏ ‏إبداعية، ‏بدلا من‏ ‏أن‏ ‏نجمد‏ ‏تديننا‏ ‏بتفسيرات‏ ‏انتهى ‏عمرها‏ ‏الافتراضي‏، ‏حيث لم تعد تسمح لنا ‏ ‏بالنهل‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مناهل‏ ‏المعرفة‏ ‏إلا في حدود وصاية فوقية ما أنزل الله بها من سلطان.
 
 إن الحياة البشرية تختلف اختلافا جذريا إذا دارت حول‏ ‏مقولة‏ «إن‏ ‏الله‏ ‏موجود»، بالداخل والخارج، من حبل الوريد إلى مطلق كرسيه تعالى، ‏أعني محورية قيمة‏ ‏التوحيد‏ ‏أصل‏ ‏الأديان‏، ‏وهي ‏مقولة‏ ‏إذا‏ ‏حضرت‏ ‏في ‏الوعي البشري ‏تجلت‏ ‏في ‏كل‏ ‏نبض‏ ‏الحياة‏ ‏اليومية‏ بعيدا عن التركيز على السلطة والحكم والمال.
 
 التساؤل الذي أنهي به هذه المقدمة يقول: إذا كان الدين والإيمان هو بكل هذا الحضور في وعينا، فما السبيل للتدريب على‏ حضور‏ ‏الله‏ ‏في ‏الوعي‏ بما يسمح بتميزنا، ويطلق إبداعنا وهو يتجلى ‏في ‏الفعل‏ ‏اليومي،‏ ‏حين يصبح‏ ‏الإسلام، ‏وغير‏ ‏الإسلام‏، ‏دينا‏، ‏وفنا، ‏ونوعية‏ ‏حياة‏، ‏ونبض‏ ‏خلايا‏، ‏وأنفاس‏ ‏طبيعة‏، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ «ربي ‏كما‏ ‏خلقتني»، دون أن تزحف السلطة الدينية مع قشور الدين لتستولي على مقاليد الأمور على حساب الإيمان والإبداع وحضور الله في الوعي البشري.
 
 الثورة التربوية الفقهية الإبداعية هي التي يمكن أن تحول دون الكذب، وتنقي الأحضان من لفح جحيم جهنم حتى تعود بالإنسان إلى ما خلقه الله به.
 
 اقرأ أيضا:
 صحوة‏ ‏التيار ‏الديني ‏وانحسار‏ ‏التيار الأخلاقي / الأديان الجديدة في مواجهة الإيمان المعرفي