علمتني الخبرة الذاتية في العلاج النفسي لعبة نفسية أطلقت عليها مصطلح "ماذا لو"، والتي كثيراً ما طبقتها فيما بعد كمعالج في جلسات العلاج الجماعي. فإذا ما هاجمك شخص هجوماً هدّاماً، بدلاً من أن تبادله الهجوم، فما عليك سوى أن تلعب لعبة "ماذا لو". ووفقاً لهذه اللعبة تسأل نفسك سؤالاً، "ماذا لو أن ما قاله فيه شيء من الصواب؟" "ماذا عليّ إذن أن أفعل لأصلح ذلك العيب؟" فائدة هذه اللعبة أنها تحول الهجوم الهدام ليصبح نقداً بناءً، ومن ثم فهي لعبة نفسية تحافظ أولاً على كيان الشخص من الهدم نتيجة للإنتقاد، بل وتدفعه نحو البناء والتعديل ليصل - لانقول للكمال - ولكن لما هو أفضل مما هو موجود عليه الآن.
وحتى تأتي هذه اللعبة النفسية بثمارها، فإن كنت تحب لنفسك أن تكون في أفضل صورة ممكنة فيجب أن تنصت للآخر حتى لو كان هو يسعى بهجومه لهدمك وتدميرك. فالإنصات هنا لا يعني إتّباع الآخر وتصديقه فيما يقول؛ ولكن تعني التفكر فيما يقال وأخذ التدابير اللازمة. إن "ماذا لو" قاعدة تساعد الشخص على تقبل ذاته على ما هي عليه مع تقوية الدافع لديه لاتخاذ إجراءات موضوعية للتعديل والتطور.
هذه اللعبة تُستخدم على وجه الخصوص في المجموعات العلاجية خاصة مجموعات تطوير الذات ومجموعات علاج الإدمان، ولا يجب أن تستخدم بالمرة مع مرضى الوسواس القهري أو المرضى الذهانيين. فهؤلاء المرضى تتحول "ماذا لو" لتصير لديهم "الواقع الفعلي المعاش". فمريض الوسواس الذي يخشى من النجاسة مثلاً تتحول لديه "ماذا لو" صارت ملابسي نجسة عند دخولي الحمام، إلى "بالفعل" صارت ملابسي نجسة، ومن ثم يدخل في مجموعة من الإجراءات لتطهير نفسه من النجاسة. بالمثل نجد مريض البرانويا يقول "ماذا لو" كان الناس يضطهدوني، لتتحول إلى "بالفعل" الناس تضطهدني، ومن ثم يدخل في مجموعة إجراءات لحماية نفسه من الاضطهاد قد تصل إلى حد الهجوم البدني على الآخر الذي يظن أنه يضطهده. إن التشبيه المناسب لقاعدة "ماذا لو" هو الطب الوقائي الذي يستخدم إجراءات "وقائية" كالأمصال مثلاً لتجنب واقع غير موجود يمكن له أن يوجد.
إذا كانت لعبة "ماذا لو" تساعد الشخص على تطور الشخصية، فيجب في المقابل أن نعلمه أيضاً كيف يقول رأيه في الآخر دون أن يهدمه، فيكون الرأي هنا بهدف مساعدة الآخر على بناء نفسه للأفضل. وهذا ما يسمى بـ "الفيدباك" أو "التغذية المرتجعة". وتتمثل الصورة المثالية للفيدباك بتحقق ثلاثة شروط وهي:
(1) أن تذكر للشخص ميزاته أولاً،
(2) ثم تذكر مالم يعجبك في سلوكه،
(3) وأخيراً تذكر له ما كنت تتمنى أن يفعله، أو بلغة أخرى أن تعطي له بدائل واقتراحات للتغيير.
كثيراً ما يُختصر الفيدباك إلى الشرط الثاني فقط لأنه أهم النقاط الثلاثة جمعياً وهي وصف السلوك وليس ذات الشخص. فعندما تصف الشخص بصفة غير مرغوبة فأنت هنا تسبه؛ وسوف يتحول الآخر تلقائياً إلى الهجوم عليك ليكيل لك أضعاف أضعاف الهجوم والسباب.
بينما إذا قمت بوصف سلوك الآخر فأنت هنا تنتقده نقداً قد يتقبله دون عدائية، مما يساعد على تبادل الحوار للوصول إلى نتائج إيجابية. فهناك فارق شاسع بين أن تقول لشخص أنت سافل، وأن تقول له:
(1) أنت إنسان مهذب،
(2) ولكن تصرفك هذا غير لائق
(3) كنت أتمنى عليك أن تستئذن أولاً.
بالتأكيد إذا استخدمنا فنيات الفيدباك فسوف تجنبنا الكثير من العداء وسوء العلاقات مع الآخر. للأسف أننا لم نتربى في مجتمعاتنا على هذا؛ ولذلك فكثيراً ما تتحول مناقشاتنا وخلافتنا في الرأي إلى شجار وعدواة لا تنتهي.
أعتقد أننا في حاجة ماسة لممارسة لعبة "ماذا لو" على المستويين والمجتمعي في مصر خاصة والمجتمعات العربية ودول العالم الثالث عامة. فمع افتراض أننا كلنا مصريون ولا نضمر السوء لبعضنا البعض، ونتمنى جميعاً لمصر الأفضل، إلاّ أننا نتحاور فيما بيننا بطريقة هدامة. وبدلاً من الاستفادة من النقد لاتخاذ التدابير والإجراءات الوقائية وفقاً لقاعدة "ماذا لو" نجد الأمر يتحول لدى البعض ليصير "واقعاً فعلياً". فيعيشون واقعاً تآمرياً يدفعهم للهجوم الشرس على الآخر الذي يرونه عدواً، لينتهي الحال بالبلاد إلى معسكرات كل معسكر يتهم الآخر ويسعى إلى إقصائه؛ إن لم يكن بقتله فبتكفيره أو تخوينه.
مثالاً مبسطاً لكيفية إستخدام لعبة "ماذا لو"؛ عندما نجد مثلاً أصواتاً تقول "دعمكم لعودة القسم السياسي والديني بجهاز الأمن الوطني لنشاطهما سيعيد الدولة البوليسية"، أو "فض إعتصام رابعة بالقوة هو جريمة قتل للمعتصمين الأبرياء"، ونسمع أيضاً أصواتاً تقول "دعمكم للسيسي سيعيد حكم العسكر".
باستخدام قاعدة "ماذا لو" فسيقف المعسكر الداعم للشرطة ليعيد على نفسه الأمر كالآتي "ماذا لو كان رأيهم صحيح؟ ما هي إذن الإجراءات التي يجب علينا أن نتخذها لدعم عمل جهاز الأمن الوطني مع ضمان عدم عودته للبطش كما كان عليه الحال من قبل"، "ما هي الإجراءات التي يجب علينا أن نتخذها لفض اعتصام الإخوان مع ضمان الحفاظ على حياة المعتصمين".
والحال كذلك مع المعسكر المؤيد للجيش فيمكنه أن يعيد الأمر على نفسه فيقول "ما هي الإجراءات التي يجب علينا أن نتخذها لدعم الجيش مع ضمان عدم عودة حكم العسكر". إن استخدام قاعدة "ماذا لو" لا تعني التوحد بالآخر والتخلي عن هويتك، ولا تعني أن تترك معسكرك الذي تنتمي إليه فكرياً أو حزبياً. إن استخدام قاعدة "ماذا لو" تساعدنا على التوافق مع الآخر والوسطية وعدم التطرف في التفكير والسلوك.
إذا ما تحقق أيضاً التزام الأطراف المتصارعة بشروط الفيدبالك فلن نجد أيضاً أوصافاً تتهم ذوات الأشخاص، كأن يقال مثلاً "التيار الثالث هو طابور خامس وممول من الآخر"، "البرادعي عميل"، فهذا اتهام وهجوم وسباب وستكون النتيجة الطبيعية له هي تبادل الاتهامات بين الطرفين، مما يؤدي إلى استهلاك للطاقة وإضاعة للوقت على المستويين الشخصي والمجتمعي. أما إذا ترفعوا على الرد، فقد تلصق التهمة بهم لتصبح مع مرور واقعاً وأمر يصعب تغييره في عقول الكثيريين (مثال على ذلك ما حدث مع البرادعي وحملات تشويهه منذ أيام نظام مبارك، ومن بعده الإخوان، وما زال التشويه مستمراً حتى صار الاتهام واقعاً وحقيقة في عقول الكثيريين).
إن قاعدة "ماذا لو" تساعدنا أيضاً على الوصول لإجراءات وقائية درءاً لأخطار محتملة، ولهذا يمكن استخدامها على المستوى الفردي لعمل ما يمكن أن نطلق عليه "حلولاً معلّبة" أو "حلولاً سابقة التجهيز". ويعني ذلك ببساطة – وكلنا يفعل ذلك – أن يجلس الشخص ليتخيل كل السيناريوهات الممكنة ويضع حلولا لها، وما عليه سوى أن يمد يده ليجذب الحل المناسب سابق التجهيز من علبته إذا ما حدث أي من السيناريوهات التي تم تخيل حدوثها من قبل.
لهذا فالشخص الذي يضع سيناريو واحد فقط للأحداث يكون عرضة للهزائم والصدمات والأزمات التي قد تعصف بوجوده. وما ينطبق على الأشخاص في هذا الشأن ينطبق بالضرورة على الحكومات، فكل حكومة على سبيل المثال لديها مخزون استراتيجي من الغذاء الذي يكفي الدولة فترة كافية بحيث لا تقع مجاعة أو ما شابه تحت أي ظرف. ففكرة إنشاء السد العالي هي نموذجاً حي للحلول المعلبة الذي يحمل حلاً لسيناريو وقوع شر الجفاف لسنوات. كلما كان لدى الدولة عدد لا نهائي من السيناريوهات، كلما كان لديها عدد لا نهائي من الحلول المعلبة، وكلما كانت في مأمن من شرور وأزمات قد تقع في المستقبل القريب والبعيد.
أعتقد أن أمريكا وإسرائيل من أفضل الدول التي تستخدم أسلوب الحلول المعلبة في الإدارة، فالولايات المتحدة مثلاً لم تصنع ثورات الربيع العربي، ولكن قادتها ومفكرينها حتما قالوا يوماً "ماذا لو قامت ثورة في مصر" "ماذا علينا أن نفعل من إجراءات حتى لا نفقد مصالحنا في المنطقة". فقامت أمريكا بدراسة بدائل الحكم في مصر، وتواصلت مع هذه البدائل، ولما وقعت الواقعة كانت أمريكا هي الحاضرة بالبديل الممثل في جماعة الإخوان وبوسائل تمكينها من الحكم.
أعتقد أن الإدارة الأمريكية بمجرد صعود الإخوان قد فكرت بالضرورة في سيناريو "ماذا لو سقط الإخوان"، ولهذا بدأت في الإجراءات الوقائية وتواصلت مع التيار السلفي. ولكن حمداً لله أنها لم تتساءل ماذا لو سقط الإخوان "الآن"؟. لقد تصورت أنه أمام حكم الإخوان فترتي حكم على الأقل، وهذه مدة كافية لتنفذ مخططاتها في المنطقة.
وبقيام ثورة الثلاثين من يونيو كانت الضربة مفاجئة للولايات المتحدة، تماماً كما كانت حرب أكتوبر وعبور خط برليف. لقد كانت ثورة بعيدة عن التوقعات والسيناريوهات المحتملة وبعيدة عن "ماذا لو"، لهذا جاءت تصريحات الإدارة الأمريكية متضاربة وبدا المسئولون الأمريكيون كمن يتخبطه الشيطان من المس.
أقول في النهاية أنه إذا كان لدينا الإرادة الجادة في مصر كأفراد وهيئات وحكومات ورؤساء أن نتقدم للأمام وأن نكون أمة ذات شأن بين الأمم فعلينا أن نتمسك بقاعدة "ماذا لو"، كما علينا أن نتعلم آداب الحوار.
4/8/2013
اقرأ أيضاً:
ثورة... ثورة.... حتى النصر / مبروك لمصر، ولكن المعركة طويلة / خبر مبارك المكذوب / حكاوي القهاوي / لعبة أمريكا