ربما تكون عميلا لمصر

 لو سألت أيا ممن يتمسكون بالتزام اليأس شعارا وموقفا، لو سألته بعد أن يطلق أحكامه أو تنهداته أو مصمصته أو نار سمومه، وهو يتجشأ يأسا معلنا بيقين شائك: أن الحركة خابت، والثورة فشلت، والأمل اختفى، والبلد أفلست، والتعليم منهار أصلا، والفقر زاحف، وداعش تنتشر، والكهرباء لا صلاح لها، والطاقة ستنفذ، والنيل سوف يجف، لو سألته: "إذن ماذا؟" لانبرى ينحو باللائمة على كل العهود، من أول فساد الملك فاروق، وإقطاع لملوم، مرورا بديكتاتورية عبد الناصر، وانتهازية السادات، وطنبلة (تطنيش) مبارك، وخيبة المراحل الانتقالية المتتالية، بما فيها خيانة الإخوان، وأنت تبحث في كل استجاباته عن إجابة سؤالك: "إذن ماذا؟" فلا تجدها، لكنك تجد أنه أجاب عن أسباب اليأس أو مبرراته أو المسئولين عنه، فهو لا يسمح أصلا لهذا السؤال "إذن ماذا؟" أن يخطر على باله، ولا يصدق أنك تعنيه فعلا وأنت تسأله، وهو يبرر هذا وذاك أنه "ما دام هو شخصيا غير مسئول عن أسباب اليأس فهو ليس مُلزما بالإجابة، وطبعا لن تواصل فتسأله: فما فائدة يأسه هذا إذا لم يدفعه لاتخاذ موقف يخفف من بعض أسباب يأسه!!
 
 أتقمصه وأنا أبحث عما يجنيه من هذا اليأس فتأتيني الإجابة على لسان حاله كالتالي:
 إنني إذ نزلت بمستوى كل الآمال إلى الصفر فسوف أحقق راحتي حين لا أتوقع أي شيء طيب من أي أحد جاد، وإذا سارت الأمور إلى أسوأ بإذن الله!! فسوف أبدو لنفسي وللأقربين: "أبو العُرِّيف"، وكلما زادت الأمور سوءا سوف يحق لي أن أصيح بهؤلاء البـُلْه الحالمين: "ألم أقل لكم سوف تخرب"!! (مش قلتلكو هتخرب!!) 
 وهكذا يتصور هذا اليائس أبو العُرِّيف أنه ارتاح حين أمات كل أمل يخطر على باله، حتى لا يحبط إذا لم يتحقق، ويبدو مسترخيا مرتاحا ناظرا من فوق إلى كل ما يجري مسترخيا رائق البال وكأنه بلغ مراده، وهو ما أسميته مرارا "رفاهية اليأس" (بالسلامة!) 
 
 البدء من موقف اليأس يعتبر قاعدة لانطلاق صواريخ السخط، والرفض، والتعجيز، والحديث عن اللاجدوى، والعدمية، والفناء، واتهام سعد زغلول أنه قال "مفيش فايدة".
 
 لكن الخطوة التالية لهذا الموقف ليست واحدة من كل أهل اليأس ومسوِّقيه، فاليأس أنواع:
 دعنا نبدأ بما أسميه "اليائس الطيب"، أو "يأس الغلابة"، فاليائس الغلبان هو الذي تنازل عن حق الأمل والرجاء – من أصله – لكثرة ما خاب أمله وأجهض رجاؤه أولا بأول مهما بدت الأمور غير ذلك في أول الأمر، هذا اليائس الطيب وهو في عز يأسه، وحتى لو كان تلفظ بكل عبارات السخط والغم الأزلي السابق ذكرها، إلا أنه قد يجيب على السؤال الذي طرحته "إذن ماذا؟" سوف يجيب بأنه: "مافيش غير ربنا يفرجها بفضله"، والمتحذلق منهم قد يرزعك بيتا الشعر الشهيرين:
 "ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا وعند الله منها المخرج
 ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج"
 
 ونفس المعنى يقوله العامة في مثلهم السائر "ما ضاقت إلا لما فرجت" وأيضا "يحلها حلال". هذا هو اليائس الطيب، وهو طيب بالمعنى الإيجابي غالبا، لأنه لا يغلق الباب نهائيا أمام الفرج، لكن لو أن الحل اقتصر عند مثل هذا التسليم لرب الخلق، لأصبح مبررا للتواكل وليس حافزا للاستعانة بالله ليوفقنا في صراعنا ضد الركون إلى اليأس الخامد، وكأن هذا النوع (يأس الغلابة) ينقسم إلى قسمين فرعيين: اليأس العاشم، واليأس المتواكل.
 
 أما اليأس الساخط الساخر الحقود: فهو الذي أوردنا بعض صفاته في بداية المقال، وجواب هذا اليائس إذا ما كررت عليه السؤال "إذن ماذا؟" هو جواب جاهز حاد مسنون، فهو لن يتردد في أن يحسم الإجابة بأنه: وأنا مالي يا أخي، هل أنا السبب؟ ألقِ هذا السؤال على سبب المصيبة وحاكمهم واعدمهم أو اسجنهم ثم تعالى وأنا أجيبك" (وهو يضيف في سره عادة: "ياغبي")، فإذا قلتَ له "لكن هذا لن يحل ما نحن فيه، وبالتالي سوف تظل أسباب يأسك قائمة، وقد تزيد من حدته وأنت منتظر نتائج تحديد المسئولية أو أحكام المحاكم، وقد يترتب على ذلك مجرد التمادي فيما نحن فيه مما أيأسك هكذا"، وسوف تجده غالبا جاهزا بالإجابة أنه: "يترتب ما يترتب، وأنا مالي، ألا يكفي أنني أرى المصيبة وأعلن أسبابها، ونتائجها بما في ذلك يأسي لعل أحدا ينتبه"، فإذا قلت له: "ألم تفكر أن تكون أنت هذا "الأحد" الذي ينتبه، فتبدأ بأي قدر بما قد يسهم في تخفيف كل المصائب التي أيأستك هكذا"، فإنه غالبا ما سوف يجيب: "يعني انت عايزهم يخربوها، وبتاطلبني أنا أصلحها؟"، فإذا أكدت له أنك لا تطالبه شخصيا بالتصحيح وإنما تسأله عن فائدة يأسه في احتمال التصحيح، فالأرجح أنه سيتركك وهو يشفق عليك (دون نفسه طبعا)، وقد يتهمك بينه وبين نفسه أنك أعمى، أو أبله، أو حتى عميل، ولن يعلن ذلك، لكنك تستطيع أن تخمن ما دار بذهنه، فتسأل نفسك: عميل لمن يا ترى؟ 
 وقد تخطر على بالك إجابة تليق تفسيرا لوجهة نظره:  "ربما تكون عميلا لمصر" 
 
 اقرأ أيضا:
وسوسة تآمرية مفيدة حول فيروس سي / التطرف في الموقف شرف .. والتعصب جمود / نجيب محفوظ: كيف أحبَّ الله وأحبَّ الموت كدْحًا إليه