تتقافز مؤشرات انتشار عدوى الفيروس التاجي مجتاحة العالم كله دون تمييز وبسرعة مذهلة، وفي نفس الوقت تتقافز نتائج مجهودات علماء الطب والصيدلة في اكتشاف علاج ناجع لهذا الفيروس..... رغم الصدمة التي أظنها أصابت كثيرين في قدرة العلم الحديث والتقدم التكنولوجي المعاصر على مواجهة كائن لا يرى بالمجهر العادي !! فما حدث يظهر بوضوح أن الدول الأكثر تقدما وثراءًا لم تكن مستعدة لمجابهة كارثة كهذه إلا أن الاستعداد القبلي شيء والقدرة على المواجهة شيء آخر..... فصحيح أن الإنسان لم يكن مستعدا لكنه –متفائلا- بسرعة سيستطيع لأن جهودا علمية حثيثة في كل مكان تبذل وتسابق الزمن لتخليص العالم من الفيروس.
ومن الأهمية بمكان أن نتأمل تأثيرات الجائحة الحاصلة والمتوقعة على قطاع الصحة العقلية والعاملين فيها، فعلى الرغم من أن تأثيرات الفيروس التاجي على الصحة العقلية لم تتم دراستها بشكل منهجي، إلا أنه من المتوقع أن يكون لجائحة الفيروس التاجي تأثيرات متتالية، خاصة بناءً على ردود الفعل العامة الحالية، لأن جائحة التاجي أثارت ورسخت الخوف على المستوى المجتمعي، وأما على المستوى الفردي، فقد يؤدي ذلك -حسب التهيئة الفردية- إلى تفاقم القلق والوسوسة والرهاب وحتى الأعراض الشبيهة بالذهان وكذلك يؤدي إلى مشاكل عقلية غير محددة (كمشاكل المزاج، ومشاكل النوم، والسلوكات الشبيهة بالرهاب، والأعراض الشبيهة بالهلع)...إلخ.
ويتمتع الأطباء النفسانيون بموقع فريد لمساعدة مرضاهم والمجتمع الأكبر على فهم التأثير المحتمل للفيروس ومساعدة المرضى والعائلات والمجتمع على التعامل مع هذا التهديد الأخير، وإن لاحظت في الأيام الأخيرة نوعا من فقدان الثقة في المؤسسات الطبية وفي القدرات الحقيقية للعلم الحديث وليس الأطباء النفسانيون إلا جزءًا من تلك المؤسسات.... يجب علينا القيام بدورنا في الدعم والإرشاد لكل من يستحق ذلك منا ومجتمعاتنا تستحق.
من الطبيعي والمتوقع هذه الأيام في عيادات الطب النفساني أن تظهر آثار تهديدات الأمراض المعدية في صورة القلق و/أو الهلع: القلق بشأن الإصابة بالعدوى، وبشأن مرض آخرين مهمين، وفرط القلق عند ظهور الأعراض ذات الصلة - حتى ولو كانت طفيفة-. ولا شك أن عدم وجود علاج نهائي للفيروس التاجي يؤدي إلى تفاقم القلق بسهولة، لكن في معظم الحالات، لا تصل أعراض القلق هذه إلى العتبات التشخيصية لاضطراب نفسي رسمي أو مكتمل المعايير، ومع ذلك، سيستفيد المراجع من الطمأنة والتعليم...... ويصبح أفضل حالا بالتأكيد وأقدر على مجابهة التحدي الجاثم فوق صدور الجميع، من الذين يتلكئون في طلب المساعدة المتخصصة نفسانيا رغم تأثير مخاوفهم ومعاناتهم المعيقة على حياتهم.
وأما تأثير جائحة التاجي على المهيئين لحدوث اضطرابات نفسية أو من يعانون أصلا من اضطرابات نفسية وعلى ذويهم فشأن مختلف، فإنه بلا شك أمرٌ يحتاج إلى دراسة أيضًا، فهناك التأثير العام الذي يدفع المرضى لعدم حضور جلسات العلاج النفساني خوفا من العدوى، وهناك من يؤجلون مواعيد فحصهم للمرة الأولى ومنهم من لا يعطي موعدا فيقول بعد انتهاء الظروف الحالية وطبعا هذا ليس موعدا فلا هو ولا نحن ولا أحد غير الله يعرف متى، والواقع أنني بدأت أسمع تعليقات من ذوي مرضى و.ت.غ.ق (وسواس التلوث الغسيل القهري) مثل طبعا هذه أيامه !! أصبح يعتبر نفسه انتصر ... إلخ.... وهناك من يقول كلنا أصبحنا موسوسين في الواقع هناك فرق جوهري بين المريض بالوسواس القهري، وبين من ربما يفعل نفس أفعال المريض اليوم لكنه سوي.... وقد عبر عن ذلك شيخ المدونين على مجانين د. صادق السامرائي في مدونته كورونا والوسوسة المأمونة...... وموقع يوتيوب مليئ الآن بمقاطع فيديو لطريقة غسل اليدين إذا رأيناها في زمن غير الذي نعيش في مقاطع غسيل قهري لمرضى و.ت.غ.ق.
وسأبدأ بتدوين بعض ملاحظاتي الخاصة بتأثير الجائحة على المسار المرضي لحالات وسواس قهري معروفة... فقد أتتني مريضة وسواس قهري قديمة (لم تكمل الع.س.م) منتكسة بعد هدأة ... بعرْض وسواس قهري تحاشي الصينيين ولاحقا عممت التحاشي إلى الآسيويين كان ذلك مبكرا أواخر 2019 .... ومريضٌ قديم آخر جاء بعرض تحاشي العاملين في السياحة... ثم أخرى انتكست لأن عددا من العمال المصريين العائدين من أوروبا هم من نفس قريتها .... ومرضى آخرون في الأيام الأخيرة يقررون عدم التعامل مع أي من أعضاء الفريق الطبي المتعاملين مع الحالات بما في ذلك أعضاء الأسرة... وجاءني آخر كان قد عولج سلوكيا ومعرفيا من و.ت.غ.ق وتدرب على منع الانتكاس وكان سؤاله منطقيا ومحرجا يا دكتور رأيت بعض فيديوهات غسيل اليدين اتقاءا لعدوى كورونا فوجدت أنني في عز مرضي كنت أفعل أقل، أنا الآن إذا استمرأت فعل ما كنت أفعل ألن أنتكس كما علمتني ؟؟ واضحة جدا آثار الجائحة فالخوف من كورونا أو كوفيد19 هو الجوهر الضام لكل الانتكاسات.
ولما كانت معالجة المعلومات في مرضى الوسواس القهري أسيرة تحيزات معرفية معينة مثل تهويل التهديد والمسؤولية وطلب اليقين ول.ت.ش(لا تحمل الشك)، فسيؤدي هذا إلى زيادة الحساسية للرعب المرتبط بالتهديدات الوبائية ويزيد من زعزعة الاستقرار للمرضى ومن ضعفهم الوظيفي.... وتتفاقم بسهولة مخاطر التنظيف والتطهير والغسيل في مرضى الوسواس القهري في أوقات خطر الأوبئة المعدية. وهم معرضون بشكل خاص إلى مضاعفات التنظيف المفرط الجلد الجاف والمتشقق، والتهاب الجلد التأتبي وغير ذلك من المضاعفات. كذلك فإن الإفراط في استخدام المنظفات والمطهرت السامة يمكن أن يؤدي إلى إصابات استنشاق... وهؤلاء المرضى بالتالي هم حاليا بحاجة إلى من ينتبه لهم ولمشاكلهم ومضاعفاتها المحتملة في هذه الجائحة سواء من النفسانيين أو أطباء الجلدية أو على الأقل من الأهل والمحيطين.
في الواقع أن العرض المرضي المشار إليه أعلاه أي التحاشي والإفراط في طقوس الغسيل بعد التعرض لشخص موصوم بالكورونا يحدث الآن يوميا من غير المرضى أي الأسوياء بصورة ملحوظة ولعل ما يفسر ذلك جزئيا هو أن إحدى الظواهر المجتمعية أثناء الجوائح والأوبئة هي ظاهرة الوصم حيث يوصم مجتمعيا كل ذي علاقة بسبب الجائحة أي الفيروس التاجي في أيامنا هذه.... ومن المعروف في و.ت.غ.ق ارتباط وساوس التلوث العقلية بذوي الوصمات الاجتماعية (كالشواذ، الأجانب، ذوي دين معين أو دين مخالف، المدمنين، المرضى النفسانيين، المطلقين ..إلخ) ويمكن أن تكون وساوس التلوث هنا تلامسية (يحدث التلوث باللمس) أو غير تلامسية (عقلية حيث يحدث التلوث دون لمس ربما بالرؤية أو حتى السمع ! وذلك من خلال التفكير السحري)... بينما متشابهة تكون قهور التحاشي والغسيل أي الأفعال المحيدة للوساوس.... لكن النقطة المهمة هنا هي أن المريض يفرط في استجابته القهرية للخطر (المتوهم أو غير الداهم) ... بينما السوي نفسيا لا يفعل ذلك، والواقع الذي يربك الأمور أيامنا هذه هو كون وصمة التاجي في الأصل لا تنتج من فراغ !! فالخطر واقعي ! ولذلك فإن الشخص السوي يفعل نفس الأفعال ولكنها ليست مرضية.
الواقع أن بعضا من قهور الموسوسين أصبح مطلوبا أن تكون سلوكا بشريا عاما في هذه الجائحة لكن ذلك يبقى على المستوى الظاهري فقط بمعنى آخر أنها ظاهرة كالأفعال المرضية (بميلها للإسراف والتكرار والتدقيق..إلخ) لكنها ليست مرضية لأن الخطر حقيقي وليس وسواسيا ..... فمريض الوسواس أثناء غسيل يديه يفعل نفس الشكل لكن الخطر يكون متخيلا أو مهولا بإسراف أو غير موجود حالا على الأقل... فهل الفيروس التاجي متخيل ؟ أو مهول أمره ؟ ناهيك عن وجوده !! الواقع أنه خطرٌ موجود ومؤكد والأخطر منه هو عدم الفهم الكامل لطرق الإصابة فنحن علميا ما زلنا نتفهم...... وفي الفيديو أدناه ما يبدو دعابة هو في واقع الأمر منطقي هذه الأيام.
ليس فقط مرضى الوسواس القهري بالطبع هم من سيؤدي الوضع الحالي إلى انتكاسهم وشدة أعراضهم، ذلك أن القيود المفروضة حاليا على كل الفعاليات البشرية وكذلك التداعيات العاجلة والآجلة لذلك الوضع تمثل كربا عاما يعيش فيه الجميع لكن المرضى النفسانيين بشكل عام أكثر حساسية للكرب وأكثر عرضة للانتكاس وظهور أعراض الاضطراب النفسي سواء كان اضطراب قلق أو اكتئاب أو حتى الحالات الذهانية... إلخ، وهذا يعني باختصار أنه ستزيد الجائحة من أعداد انتكاسات المرضى السابقين كما ستظهر حالات جديدة بشكل أعلى من المعدلات المعتادة للاضطرابات النفسية، وهذا الافتراض يحتاج إلى دراسة لإثباته عمليا.
ورغم الانطباع القاتم الذي يغلب اتخاذه من الأخبار الحالية عن سرعة انتشار الفيروس وأعداد الموتى بالآلاف إلا أنني أجد لدي تطلعا لما الذي سيكون بعد اندحار الوباء ؟ وبعد أن ينتصر الإنسان على الوباء -وعل يتعلم- من محنته هذه التي وضعت كل منجزات الحضارة الإنسانية حتى اللحظة على المحك وأخضعتها لأصعب اختبار... من المؤكد أن كثيرا من العلاقات سيتغير وكثيرا من القوانين ومن العلوم والتطبيقات، لكن أكثر ما يعنيني هو ماذا سيتغير في الطب النفساني ؟ هل مثلا ستضاف عبارة مثل (ما عدا في وقت الأوبئة) ضمن شروط تشخيص اضطراب الوسواس القهري .... لقد ذكرت أعلاه أن مريض الوسواس أثناء غسل يديه يفعل ما نفعله الآن لكن الخطر يكون متخيلا أو مهولا بإسراف أو غير موجود حالا على الأقل .. ففي حالة مريض الوسواس القهري و.ت.غ.ق نجد الشك في الأفعال والأشياء المحسوسة المرئية والشك في المدركات الداخلية أو الحالات الداخلية (الدواخل)، إضافة إلى السعي للخلاص من أثر الملوث 100% واضطراب التفكير بشكل سحري فيما يتعلق بانتقال الملوث بصورة غير علمية.... لكن وكما هو في حالتنا الآن ماذا عن تميز الفيروس التاجي حتى الآن بنقص المعلومات حول طرق انتشاره ؟ أو على الأقل كون المعلومات تتراكم ببطء وتتطور وتتغير ما تزال ؟؟ فنحن لسنا على علم كامل بخصائص العدو بما يجعلنا عرضة للتخيل والتهويل لخطر قد يكون غير موجود حالا على الأقل، بما يعني أن عامل الشك قائم فينا ورغبتنا كذلك في الوصول إلى معلومات مؤكدة ونهائية وكذلك سعينا إلى الخلاص من احتمال العدوى بالتاجي 100% حالة قائمة وفي الحالة نفسها التي يفيق العلم الحديث فيها من ضربة موجعة أصابت ثقتنا فيه، هناك كثير يجعلنا أكثر قابلية للتفكير السحري عن طريقة الانتشار.... إذن ما هو الفرق بيننا وبين المريض ؟؟ كم نشبه المرضى ونحن نوسوس بشكل غير مرضي من أجل اتقاء ومكافحة الفيروس؟....
يبدو كما رأى أننا سنضطر إلى تطبيع السلوكات القهرية
من المنطقي التساؤل كذلك ماذا سيحدث للعلاجات الجماعية ؟ وهل سيصبح الحفاظ على التباعد الاجتماعي ممكنا أثناء العلاج الجمعي ؟ ماذا عن الأطفال بشكل عام وتأثرهم بالحظر المفروض على كافة الأنشطة الجماعية ؟ وهو ما كتب عنه المهدي في مقاله العناية بالأطفال أثناء جائحة كورونا وماذا عن الأثر المتوقع مثلا لبقاء مرضى اضطراب الشخصية في البيوت ؟ يمكننا بسهولة أن نتوقع ازديادا في حالات العنف المنزلي أو الأسري، ناهيك عن المرضى بل من المتوقع حتى في الأسر العادية أن يفجر قضاء ساعات أطول في البيت مشكلات بين أفراد الأسرة كانت خامدة أو حتى غير موجودة ..... من المهم التساؤل عن الآثار النفسية المتوقعة للموقع الحالي لليد البشرية ونحن نعلم الإنسان طفلا وراشدا أن يبعد يده التي يغسلها ليل نهار عن وجهه وعينه وأنفه ؟؟؟ رأيي الشخصي أن ذلك ستكون له آثار نفسانية مؤكدة وتحتاج إلى دراسة وقد أشار د. صادق السامرائي لذلك حين كتب عندما تقتلني يداي!! كذلك من المهم التساؤل عن إلى أي مدى زمني يمكن أن يتحمل الإنسان المعاصر سويا كان أو مريضا استمرار أوضاع الحظر الحالية، ليس الإنسان فقط وإنما غالبية مؤسساته التي توقفت تماما كم ستتحمل قبل أن تنهار ؟ .... وكيف ستكون تأثيرات ذلك وتأثيرات عواقبه الاقتصادية ... وكلها أسئلة لا يوجد ردٌ علمي عليها إلا التوقعات لكن المنطقي والمتوقع هو تأثيرات كارثية وممتدة الأثر. وربما تأثيراتها على الصحة العقلية ستكون أسوأ من التأثير المباشر للجائحة عليها كما رأى د. سداد جواد التميمي في تواصل خاص بيننا.
وأتسائل قبل ختام مدونتي هذه يا ترى كيف سيؤثر هذا الوباء الملوث الذي اجتاح العالم على استراتيجيات وفنيات العلاج السلوكي المعرفي هل مثلا سيصبح المعالج السلوكي المعرفي أقل جرأة مع مريضه في علاج و.ت.غ.ق.. إلى أي حد سيستطيع إقناع مريضه بإهمال سلوكيات التأمين الخاصة بالنظافة ؟ إن طقوسا بعينها كان يستهين بها المعالج السلوكي المعرفي ويقلل من جدواها وحتمية فعلها بالتالي بالنسبة للمريض، نفس هذه السلوكيات أصبحت الآن توصيات منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة على مستوى العالم !.... لكنني أنبه رغم ذلك إلى أن الخوف العام من الإصابة بمرض مثير ومبهم مثلما هو الحال اليوم عالميا قد يؤدي إلى تفاقم السلوكيات السلبية عند بعض المهيئين ومنهم مرضى الوسواس ومرضى الشخصية القسرية وربما غيرهم من الناس.
واقرأ أيضًا:
مدونات مجانين: منديلي القماش / الفيروس التاجي كورونا مشاعر أخرى !