جُنَّ جنون الإسرائيليين "اليهود"، وأصابتهم هستيريا شديدة، وانتابهم قلقٌ كبيرٌ، خشية تغير السياسة العامة الأوروبية التقليدية تجاه يهود أوروبا على وجه الخصوص، وتجاه رعايا ومستوطني الدولة العبرية على وجه العموم، الذين التزموا منذ منتصف القرن العشرين الماضي تماماً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، على مدى أكثر من سبعين عتاماً وحتى أيامنا هذه، بتعويض ضحايا "الهولوكوست" المحرقة اليهودية الذين قتلوا في أفران "النازية" وتعويض أبنائهم الناجين منها، واستعادة ممتلكاتهم وحقوقهم التي كانت لهم، والحفاظ على ما بقي من مؤسساتهم، وترميم ما دمر منها وخرب، خاصةً المعابد والمقابر اليهودية، والآثار والمزارات الدينية المقدسة التي كانت لهم في الدول الأوروبية.
هبت المؤسسات السياسية والقانونية الإسرائيلية وهيئات حقوق "اليهود" في مختلف أنحاء العالم، ومعهم المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية المحلية والعالمية لكبرى، والعديد من القادة والمسؤولين السياسيين الأوروبيين السابقين، للتصدي للتغيير العام في لخطاب الرسمي الأوروبي تجاه الكيان الصهيوني بصورةٍ عامةٍ ومواجهته، خاصةً تلك المتعلقة بالتراجع الرسمي عما التزمت به الحكومات الأوروبية المتعاقبة على مدى السبعين عاماً الماضية، التي اعترفت بمسؤولية بلادها عن المحرقة، واعترافها بــــ"الجريمة" التي ارتكبتها النازية، وتعهدت بتعويض اليهود عموماً عما أصابهم وفقدوا، وإمداد الكيان الصهيوني خصوصاً الذي هاجر إليه الناجون من المحرقة وأبناؤهم، بكل ما يحتاجون إليه من سلاحٍ ومعداتٍ وتقنياتٍ وأموالٍ.
استمرأ الإسرائيليون العملية وأعجبوا بها، وحافظوا عليها ونظموا عملها، وأجبروا الحكومات الأوروبية على الالتزام بها، وإلا عدتهم شركاء في الجريمة، وأعداء للسامية، وقد درت عليهم هذه السياسة أمولاً طائلة لا تتنتهي، وعطاءاتٍ مادية ومعنوية لا تتوقف، ودعماً سياسياً بلا حدود، واستجلبت لهم تعاطفاً دولياً كبيراً ساعدهم في إنشاء كيانهم وتثبيته، مكنهم من الحصول على أحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً، وأجبرت الحكومات الأوروبية على دعم سياستهم، والوقوف معهم وتأييدهم ضد الدول العربية التي تعاديهم وتقاتلهم، وتسعى إلى تدمير كيانهم وشطب وجودهم في الأرض العربية التي احتلوها وأقاموا فيها كيانهم.
لكن المزاج الأوروبي العام تغير، إذ تبدلت الجيال وتعاقبت، وغاب الذين عاصروا لحرب العالمية الثانية والتزموا باتفاقياتها، وظهرت أجيالٌ جديدةٌ أخرى، ضاقت ذرعاً بالابتزازات الإسرائيلية، واشتكت من الضغوط والمكامع اليهودية، وبدأت تشعر بأنها تدفع من جيوبها ومن قوت أبنائها ضريبةً لليهود الذين أفسدوا في بلادهم، وأساؤوا إلى شعوبهم، وشعرت الأجيال الأوروبية الشابة تحديداً، أنها تدفع ضريبة جريمة لم ترتكبها، وتلتم بلادها بعقوباتٍ لا تنتهي، وتضطر حكوماتها إلى تأييد الكيان الصهيوني في سياسته العدوانية تجاه شعبٍ أعزلٍ احتلت أرضه وطردته من دياره، وما زالت تمارس العنف والعنصرية ضده.
ليست بولندا هي الدولة الأوروبية الأولى، ولا أظن أنها ستكون الدولة الأخيرة التي تتحرر من الابتزاز الإسرائيلي، وتتخلص من الأطماع الإسرائيلية التي لا تنتهي، وتنجو بنفسها من سياستهم التي أضرت بالمنطقة وألحقت الأذى بمصالحهم، فالأوروبيون الذين يجاورون المنطقة العربية، وتقع بلادهم شمال أوطان ملايين المهاجرين العرب والمسلمين إليهم، يريدون سلاماً في المنطقة يحقق مصالحهم، ويجلب الأمن لهم، ويحقق العدالة والمساواة لشعوب المنطقة الأصليين ويضمن حقوقهم التاريخية فيها، إلا أن الكيان الصهيوني يفسد عليهم ويضر بهم، ويضغط عليهم ويبتزهم، ويريد أن يبقيهم أسرى الماضي وعبيد الخطيئة، التي لم يغفرها الاعتراف ولم يشطبها من سجلاتهم التوبة والندم، والتعويض والمزيد من الدعم.
لا نقلل من حجم التشريع البولندي الجديد، الذي لا أظن أنه سيتوقف عندها، بل ستحذو حذوها الكثير من الدول الأوروبية الأخرى، ولعل من أسباب هذا التغيير في الساسية الأوروبية تجاه الكيان الصهيوني، الحرب العدوانية الأخيرة التي شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وسياستها العدوانية ضد أهلنا في مدينة القدس وحي الشيخ جراح وغيره، وممارساتها العنصرية ضد المصلين الفلسطينيين في المسجد الأقصى المبارك، الذي دأبت جموع المستوطنين على اقتحام باحاته وانتهاك قدسيته، حيث ارتفعت أصواتٌ أوروبية معارضة وأخرى تنتقد الحكومة الإسرائيلية وتدينها، وتحملها مسؤولية تفجر العنف في المنطقة واحتمال تدحرجها إلى حربٍ شاملةٍ تضر بأمن الجميع، وتعرض مصالح أوروبا للخطر.
إنها فرصةٌ كبيرةٌ تسنح لأمتنا العربية والإسلامية، للتأثير على قادة أوروبا لتغيير سياساتهم والتخلي عن الكيان الصهيوني الذي يسيئ إليه ويضر بهم، ولكن هذه المهمة تتطلب عملاً دؤوباً وجهوداً صادقةً، وسلوكاً حسناً ومثالاً مشجعاً، وعرضاً للقضية الفلسطينية جيداً، وبياناً للسياسات الإسرائيلية فاضحاً، فهل نستغل الظرف ونعيد قضيتنا الفلسطينية إلى أروقة العدالة الدولية، رغم أنها ظلمتنا كثيراً ولم تنصرنا قديماً، لكن السياسة تتغير والمصالح تتبدل، والمنافع تتقدم والمصالح تسود، والغلبة لمن انتهز الفرصة واستغل المرحلة، وأحسن العمل وأجاد فن السياسة وحافظ على الثوابت وتمسك بالأرض والحقوق.
بيروت في 18/3/2021
واقرأ أيضا:
حربُ أكتوبرَ المجيدةُ ومعركةُ سيفِ القدسِ العظيمةُ / نزار بنات ليس الأولُ فهل هو الأخيرُ