رغم اختلاف الظروف الجغرافية والأمنية بين الضفة الغربية التي تعاني من الاجتياحات الإسرائيلية الدائمة، والاقتحامات المستمرة، والاعتقالات المتكررة، وعمليات القتل المقصودة، وتنشط فيها خلايا التجسس والعمالة، ويزرع فيها العدو آلاف الكاميرات الثابتة والجوالة، والمجسات الحساسة وغيرها من أدوات ووسائل التجسس والمراقبة والمتابعة، بما فيها الأقمار الاصطناعية الإسرائيلية والأمريكية، التي تغطي سماء فلسطين والمنطقة، وتستطيع الوصول إلى أضيق الأماكن وأبعدها، وتصور وتحدد المواقع وتضبط الاحداثيات، فلا يجد العدو صعوبةً في ضبط أمنه وتنفيذ أهدافه، حيث يجد حريته الكاملة في العمل في مناحي الضفة الغربية كلها، وينشط فيها أمنياً وعسكرياً، ويجد العون الكافي لمهامه، والتسهيل الكامل لأعماله.
بينما الأمر في قطاع غزة الذي يرفل بالعزة، وينعم بالحرية، ويعيش الكرامة ويتمتع بالسيادة، ويفرض معادلاته ويستطيع الرد والمبادرة، ويعد ويفي، ويهدد وينفذ، يختلف كلياً، حيث لا يستطيع العدو النزول على الأرض، واجتياح المناطق وتنفيذ مهام أمنية فيها، فالمغامرة كبيرة، والكلفة جداً عالية، وقد جرب حظه أكثر من مرةٍ وفشل، بل ومني بخسائر كثيرة، ولحقت به فضائح كبيرة، ولهذا فهو لا يغامر من جديد، ولا يضع نفسه مرةً أخرى أمام معارك خسارة ونتائج معروفة مسبقاً.
إلا أن الضفة الغربية تتميز عن قطاع غزة بكبر مساحتها، وكثرة بلداتها وقراها، وغناها بالجبال والوديان، والبساتين والحقول، وغير ذلك الكثير مما حبتهم إياها جغرافيا المنطقة وطبيعة الأرض، ما يمكنهم من حفر أنفاقٍ حصينة، وبناء ملاجئ وكهوفٍ صغيرة، يستطيعون الاحتماء بها والاختباء فيها، وهو أمرٌ لا أراه على شعبنا صعباً أو مستحيلاً، كما لا أظنه عن مقاومتنا غائباً أو مستبعداً، فلربما عندها ما لا يعرف العدو وأعوانه، وحفرت وبنت ما ينفعها في أوقات العسرة وأزمنة الملاحقة والمطاردة.
الضفة الغربية اليوم على وجه الخصوص، وشعبنا الفلسطيني كله عموماً، وأمتنا العربية والإسلامية بصورةٍ عامةٍ في حال نجح أبطالنا الأسرى المحررون بتجاوز الحدود والوصول إلى أراضٍ عربية، مطالبة بالعمل على حماية أبنائها بكل السبل الممكنة، والحيلولة دون اعتقالهم أو قتلهم، فالأمر هذه المرة يختلف كلياً عن أي ملاحقةٍ أو مطاردةٍ سابقةٍ لأيٍ من أبطالنا الذين نفذوا عملياتٍ عسكرية، وأفلتوا من بين أيدي العدو وتمكنوا من الفرار والتواري عن الأنظار، وإن كانوا جميعاً استشهدوا في المواجهات، أو ضيق عليهم بالمؤامرات وتمكن العدو منهم فاعتقلهم، وانتهت قصتهم بالشهادة أو الاعتقال.
أما هذه المرة، فنحن أمام حدثٍ جللٍ مختلف كلياً عن الحوادث السابقة، والمطاردات الكثيرة التي عشناها وذقنا مرارتها، وشعرنا بالغصة والحسرة بالخسارة فيها، وقد كنا نأمل في حينها حمايتهم والاجتهاد في إخفائهم، إلا أن قدرات العدو وأعوانه، وأدواته القذرة ووسائله الحديثة، مكنته من تحديد أماكنهم والوصول إليهم، ومع ذلك فقد أبى أكثر رجالنا الأماجد إلا الصمود والمواجهة، والقتال والاشتباك حتى الشهادة.
فأبطالنا الستة فهم يختلفون عن غيرهم، ولا يشبهون سواهم ممن سبقهم في المطاردة، رغم أن سجلهم النضالي الحافل يشبه غيرهم، فقد قاموا بعملياتٍ عسكريةٍ تتشابه مع عمليات إخوانهم ممن سبقوهم أو خلفوهم، إلا أنهم بفرارهم من السجن الخزنة "جلبوع"، المصنف بأنه الأحدث والأكثر تحصيناً، والمجهز تقنياً وآلياً، قد مرغوا أنف العدو ولطخوا سمعته، وألحقوا به هزيمة أمنية جديدة موجعة ومؤلمة، جاءت مباشرةً بعد النيل من قناصهم القاتل، ونجحوا في فرارهم الأسطوري وهروبهم الناجح في "التعليم" على العدو، وتسجيل نصرٍ جديدٍ موجعٍ ومؤلمٍ عليه.
ربما أبطالنا الشجعان يفضلون الشهادة على الاعتقال، وكما خططوا للهروب ونجحوا فيه، فإنهم بلا شك قد خططوا للمواجهة والاشتباك، وأعدو العدة لعملياتٍ نوعية ومواجهاتٍ مباشرة، ولكننا أمام مخططاتهم التي لا نعرفها، وبرامجهم التي لا ندركها، ينبغي أن نكمل معهم الانتصار، وأن ننجز وإياهم المعركة، ونثبت النتيجة الرائعة التي حققوها، لا واحد - صفر، بل ربما ألف – صفر، وأن نحول دون الوصول إليهم وإعادة اعتقالهم أو قتلهم، والعدو لا يتوانى عن استخدام كل الوسائل الممكنة والمتاحة له، بالاعتماد على قدراته أو بالتعاون مع غيره، علماً أنه أعمى دون غيره، وعاجزٌ بمفرده، وضعيفٌ بكل آلياته ومعداته، وبغير العملاء والمتعاونين معه فإنه سيفشل وسيعجز.
ينبغي أن ينصب كل تفكيرنا اليوم على سبل حمايتهم ووسائل إخفائهم، وطرق استنقاذهم وإخراجهم الآمن من الضفة الغربية إن تعذر بقاؤهم فيها لأسباب أمنية، ولعل مقاومتنا الوطنية تتمتع برصيدٍ كبيرٍ من الخبرة والتجربة في التخفي والتواري، فقد نجحت على مدى أكثر من خمسة أعوامٍ في إخفاء الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وتمكنت من الاحتفاظ به سليماً آمناً وباطمئنانٍ كاملٍ، رغم الجهود الأمنية والعسكرية الإسرائيلية التي بذلت، والإمكانيات الضخمة التي وضعتها الدول الصديقة والحليفة، القريبة والبعيدة، في خدمتها وتحت تصرفها، إلا أن المقاومة الفلسطينية تخطت الصعاب، وتحدت الاحتلال، وتمكنت من الاحتفاظ بشاليط أسيراً حتى يوم مبادلته بأسرانا الأبطال.
يا شعبنا الفلسطيني العظيم، هذه المعركة التي نخوضها اليوم هي أم المعارك، وهي من أعظم الحروب وأشدها، التي لن يتردد العدو في سبيل استعادة كرامته وتعويض خسارته، من أن يقوم بكل ما هو أسوأ وأبشع، وأكثر خطورةً ووحشيةً، فتعالوا بنا جميعاً، شعباً ومقاومةً، إلى جانب استفادتنا من تجربتنا الرائدة في الاحتفاظ بالجندي الإسرائيلي شاليط لسنواتٍ، أن نعيد مجد أسالفنا، ونكرر تجربة آبائنا، الذين حموا في الثورة العربية الكبرى أبطال فلسطين الأماجد، ورجالها الشجعان، فأعموا عيون الإنجليز عنهم، وضللوهم وتوهوهم، ونجحوا ببعض الحيل البسيطة في حماية المقاومين وتأمين استمرار مقاومتهم، علنا ننجح في حماية عيوننا، والحفاظ على فلذات أكبادنا، والدفاع عن مهجة قلوبنا الأحرار.
بيروت في 8/9/2021
واقرأ أيضا:
السياسةُ الأمريكيةُ الجديدةُ في الشرقِ الأوسطِ حقيقةٌ أم سرابٌ / الانتصارُ للقدسِ ممنوعٌ والحربُ من أجلِها محرمةٌ