يوماً بعد آخر يزداد المجتمع الإسرائيلي كله تطرفاً وعنصرية، وعنفاً ويمينية، ويوغل أكثر في الإرهاب والتشدد، ويمضي في مفاهيم العدوانية والعنصرية، وتتعمق لديه مشاعر الحقد والكراهية، وممارسات البغي والسادية، ويتصلب في مواقفه ويعاند في سياسته، وتزداد مطالبه الأمنية، وتتعاظم مطامعه التوسعية، وتنفتح شهيته على الاستيطان أكثر، ويتطلع إلى الأماكن المقدسة والتلال والربا العالية، يصادر العزيز منها والكبير، ويسلب أصحابها الغالي والنفيس، ويطمع في بيوت الفلسطينيين ومزارعهم، ويسعى لطردهم والحلول مكانهم، في الوقت الذي تزداد فيه قبضته الأمنية، وتتنوع وسائله القمعية، فيقتل ويعتقل، ويغلق ويحاصر، ويمنع ويصادر، في صيرورةٍ من الظلم والعدوان لا تفتر ولا تنتهي.
يجاهر الإسرائيليون، حكومةً وشعباً، ساسةً وعسكراً، وأحزاباً وتكتلاتٍ، يميناً ويساراً، بمواقفهم المتطرفة، ويتفاخرون بتشددهم وتصلبهم، واتفاقهم ووحدتهم، ولا يترددون في التعبير عنها بمختلف الوسائل والسبل، ولا يشعرون إبان ذلك بأي خوفٍ أو حرجٍ من المجتمع الدولي، الذي يتابع سياستهم ويسكت عن جرائمهم، ويتفهم تطرفهم ويستنكر الغاضبين منهم والمعارضين لهم، ويرفض تصنيف أفعالهم بالإرهاب، أو سياستهم بالعنصرية، ويؤيد شطب القرارات الدولية التي تصف الصهيونية بالعنصرية، وتساوي بينها وبين مفهوم الإرهاب، بينما يدين المطالبين بحقوقهم، والساعين لاستعادة أرضهم، وتحرير بلادهم، وعودة أبنائهم.
يؤمن الإسرائيليون أن سياستهم ناجحة، وقيادتهم حكيمة، ومواقفهم ثابتة، وأنهم أمناء على إرث أنبيائهم وملوكهم، وصادقون في الدفاع عن حقوقهم، ومخلصون في الدعوة إلى التمسك بمعتقداتهم، ويرون أنهم يخوضون مع الفلسطينيين معركة مصيرٍ ووجودٍ، لا أنصاف حلولٍ فيها ولا مساومة معهم عليها، بل يجب أن ينتصروا عليهم فيها، ويثبتوا وجودهم ويحفظوا شعبهم، ويدافعوا عن كيانهم ويحموا مصالحهم، ويخرجوا غيرهم ويجتثوه من جذوره، ويشطبوا هويته، ويسلبوه ثقافته وحضارته، وإلا فإن مصير كيانهم إلى زوال، ومستقبل شعبهم إلى رحيل، وحالتهم إلى تفكك وضياع، وشتاتٍ جديدٍ وتيهٍ آخر.
وفي المقابل يجنح تيارٌ من الفلسطينيين، أغلبهم من أهل السلطة والحكم، ومن المقربين منهم والموالين لهم، ومن بعض النخب الثقافية الخاصة، المنسلخة عن شعبها والغريبة عن أهلها، من السياسيين والإعلاميين وغيرهم من أصحاب رؤوس المال والتجارة، ومن رجال الأعمال وأرباب الاقتصاد، الذين يخشون في مجموعهم على مصالحهم ويخافون على منافعهم، ويعتقدون أن بقاءها مكفولٌ ببقاء الاحتلال، وسلامتها مضمونة برضا الكيان، وأن السلام مع إسرائيل هو الحل، والاعتراف بها هو المدخل إلى نيل بعض الحقوق وبناء الدولة على جزءٍ من أرضها التاريخية، ويؤمنون أن قتال إسرائيل غير مجدي، ومقاومتها لا تحرر أرضاً ولا تعيد شعباً، ولا تقوى على هزيمتها، ولا تقود إلى النصر المنشود والعودة المأمولة، ولا تحقق الغاية الوطنية والمراد الشعبي.
يستنكر هذا الفريق الفلسطيني المقاومة العسكرية، ويرفض أشكالها المسلحة، ويصف بعضها بأنها عبثية وصبيانية، وأنها تضر ولا تنفع، وتسيئ إلى الشعب الفلسطيني وتشوه صورته، لهذا فهو يحاربها ويضيق على المؤمنين بها، ولا يعيبه أن يعتقل المقاومين ويحاكمهم، أو يقتلهم ويعذبهم، إذ أنه يحترم الاتفاقيات ويقدسها، ويقدر ظروف العدو ويؤمن بها، ويقدس التنسيق الأمني ويبدي استعداده للتعاون مع أمن العدو لضبط المقاومة، وإحباط عملياتها، وإفشال مخططاتها، ويساعد في ملاحقة أبنائها ومطاردة عناصرها، إيماناً منه أن المقاومة العسكرية غير ذات جدوى، وأنها ليست الطريق الأسلم ولا النهج الأفضل لتحقيق الأهداف الشعبية الوطنية المرجوة.
يتعمد هذا الفريق أن يظهر أمام الإسرائيليين لينه وضعفه، وانكساره وانهياره، ووسطيته واعتداله، فيستخذي له ويتوسل إليه، ويسلم له ويعترف به، ويقبل بشروطه ويخضع لسياسته، وينفذ تعاليمه ويلتزم بتوجيهاته، ويطيعه ولا يخالفه، ويعمل على خدمته ويتنافس في استرضائه، ويضمن أمنه ويعمل على حماية شعبه وسلامة مستوطنيه، فلا يقبل المساس بهم أو التعرض لهم، ويبادر لزيارة قادته ومسؤوليه، ويخف لاستقبالهم، ويبش لهم ويبتسم حفاوةً بهم، ويتبادل الهدايا معهم، ويلتقط الصور التذكارية بصحبتهم، ولا يتردد في شكرهم أو اظهار الامتنان لهم، رغم أن العدو جافٌ معهم وشديدٌ عليهم، ويمعن في الإساءة إليهم ويتعمد إحراجهم وتشويه صورهم، ويصر على نشر تفاصيل الحوارات ولو كانت مسيئة، وكشف حقيقتها ولو كانت فضيحة.
لا يبالي العدو الإسرائيلي في التصعيد في مواقفه، والإصرار على سياسته، والمضي في تنفيذ مخططاته وإنجاز مشاريعه، ولعله بسياسته هذه يحقق ما يريد، ويكسب أكثر مما يتوقع، في الوقت الذي لا يقدم فيه للفلسطينيين تنازلاً، ولا يمنحهم من حقوقهم شيئاً، فضلاً عن أنه يجد من شعبه من يؤيده ويشجعه، ويثق به ويصدقه، إذ يشعر شعبهم أن قيادته تحسن تمثيله والتعبير عنه، وتتمسك بحقوقه ولا تفرط فيها، وتظهر أمام الفلسطينيين عزةً وصلابةً ولا تتنازل عنها.
الحقيقة الساطعة التي يجب أن نعترف بها، أن العدو بتطرفه يكسب، وبتشدده تتفق أحزابه، وتتحد قواه، ويطمئن شعبه وينسجم خطابه، ويحافظ على مكتسباته ويخطط للمزيد منها، بينما يضعف الفلسطينيون ويدب الخلاف بينهم، وتتفرق قواه وتتشتت جهوده، وتسوء سمعته وتتشوه قضيته، ويبرر بسلوكه لبعض الأنظمة العربية أن تحذوا حذوهم، وأن تطبع مع العدو وتعترف به مثلهم، وهو الأمر الذي جعل مهمة مواجهة التطبيع صعبة، وواجب التصدري له والحد منه عسيراً.
أما الفريق الفلسطيني الذي يصف نفسه بالاعتدال ويتغنى بالوسطية، فقد استمرأ الدور واستعذب الإهانة، ورضي أن يكون محط تهكمٍ وسخريةٍ، وموضوع ابتزازٍ ومساومة، وقَبِلَ بالتسول والسؤال، وارتضى الفتات والفضلات، وصم أذنيه عن صوت شعبه المستنكر الرافض، الثائر المعارض، واتهم الناقمين الغاضبين، وصب جام غضبه عليهم، فضيق عليهم واعتقلهم، وراقبهم وحاسبهم، وتوعدهم وهددهم، ورفض أن تعلو أصواتهم أو أن تتسع دائرتهم، بينما سمح للأبواق المؤيدة والضمائر الميتة، والحناجر المستأجرة والمنابر المشوهة، أن تمدح وتشيد، وتشكر وتحمد، وتصف الزيارات بالفتح، والاعتدال بالعقل، والخضوع للشروط حكمة، والتنازل عن الحقوق عقلانية، والاجتماع برجالات العدو ثقة وشجاعة.
بيروت في 3/1/2022
واقرأ أيضاً:
الأسرى يوحدون صفوفَ الشعبِ ويجمعونَ كلمةَ الأمةِ / الفلسطينيون مسؤولون عن صورتهم ومحاسبون على قضيتهم