لا يكتب كاتبٌ نصاً إلا وهو يتمنى الخلود لنصه؟ وحديثي لا ينصرف إلا للكاتب الجاد والنص الرصين، أياً كان نوعه وفنه وبابه. قد يتساءل أحدُكم: من أين جاء هذا التعلق بالخلود؟ البدايات هي منجم الأسرار، فلنعد إذن إلى الطبيعة الإنسانية الأولى. ألم يخرج الإنسانُ الأولُ من الجنة طمعاً في الخلود الأبدي، كما جاء في الكتاب الخالد العزيز: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) ((الأعراف: 20)). إذن، الخلود الكتابي ابن الخلود الوجودي.
هذه نتيجة جيدة، وهذه النتيجة تقودنا إلى سؤال: ما أسرار خلود بعض النصوص؟ ما الكتاب الأكثر خلوداً أو لنقل: «الخالد» خلوداً مطلقاً؟ إنه الكتاب: (ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ((البقرة: 1-2))، فهو الخالد خلوداً مطلقاً مؤبداً، المتعالي على الزمان والمكان، وعليه فإنه يسعنا استنتاجُ بعض أسرار الخلود الكتابي من الكتاب العزيز، مع وجوب مراعاة الفارق الجوهري البنيوي بين: النصين الإلهي والبشري، من نواحٍ عدة. في ضوء هذه الحقيقة الساطعة، نشتق بعض أسرار الخلود للنص البشري، ونجعلها في توصيفات مكثفة:
- السر الأول يكمن في كون النص الخالد قادراً على إحداث تأثير كبير مستمر؛ في أجيال متعاقبة، دون أن يأتي نصٌ يُغني عنه أو يسدُّ مسدَّه. وهذا السرُ مركَّبٌ، حيث يتضمن خلطة من الأسرار في النص المنجز؛ من جهة: الموضوع، العنوان، المنهج، المقاربة، الهيكلة، ومن جهة الأسلوب وروح النص أيضاً.
- وأما السر الثاني فنابعٌ من كون النص الخالد متوِّجاً لجهود من سبقه، ممن كتب في هذا الفن، وضامِّاً بين صفحاته أفكاراً مُلهمة؛ تبعث على الإبداع، وإنتاج نصوص رصينة جديدة، فالنص الخالد هو خط إنتاج نصوص متينة.
- وثمة سرٌ ثالثٌ للنص الخالد، يتمثل في اتسام النص بالدقة المتناهية في الفكرة، والبراعة الفائقة في الصياغة، وهو ما يومئ إلى تلبس صاحبه بالصدق والإخلاص والتكوين والمعايشة الطويلة في الحقل والتمرس على الصنعة والمراجعة والتدقيق، فيكون بذلك نصاً مُحكماً! والنص المحكم لا يعني أنه خالٍ تماماً من: العيوب والضعف والسلبيات والثغرات، فهو في النهاية جهد بشري، يلحقه ما يلحق البشر.
- وهنالك سرٌ رابعٌ، حيث يتصف النصُ الخالد بكون الكاتب لا يكتب لنفسه، وإنما يكتب لقارئه، فيجيء الأسلوب فصيحاً مبيناً مريحاً، سهلاً لا وعراً، حاراً لا بارداً، طازجاً لا بائتاً، بخلاف من ينتصر لذاته الكتابية على مكتوبه، فيغرِّب ويشرِّق، ويورِّي ويعقِّد، ليقال: كاتبٌ عميقٌ، إذ حينها يقول قارئُه: لا ناقة لي في هذا النص ولا جُمل!
لا تتضح أسرار الخلود الكتابي إلا بالمثال. ولعلي أضع مثالين اثنين، مثالاً يعبر عن التراث العربي الإسلامي القديم، ومثالاً يعبر عن تراثنا الحديث، لنؤسس الدليل على استمرار وجود مثل هذه النصوص الخالدة في كل زمان ومكان. وهي أمثلة اجتهادية، قد تشاطرونني الرأي، وقد يكون لكم رأيٌ آخرُ حيالها، غير أن العبرة بعموم التوصيف، إذ هو بيت القصيد، لا بخصوص التمثيل، الذي أورده للتوضيح من جهة، وللدلالة على نصوص تأسيسية في بابها من جهة ثانية.
مثال من التراث العربي الإسلامي القديم: حينما تروم القراءة على سبيل المثال في «إعجاز القرآن»، فإنه يسعك أن تتجاوز مثلاً: الجاحظ، الواسطي، الرماني، الباقلاني رحمهم الله جميعاً، بيد أنه لا يسعك البتة تجاوز عبدالقاهر الجرجاني- رحمه الله- في «دلائل الإعجاز» ، وهذا النص قد يغنيك عن نصوص جاءت بعدة كنصوص الخطابي وفخر الدين الرازي وابن أبي الأصبع والرافعي رحمهم الله جميعاً، حيث خلَّف العلاِّمة الجرجاني نصاً متوِّجاً غير مسبوق ولا ملحوق! نعم، كتاب الدلائل هو كتاب مدهش بكل معاني الإدهاش، وهو ملهمٌ لعشرات الباحثين والمتخصصين، ولا يزال منجمُه بِكراً، على كثرة المؤلفات والأبحاث التي اُستخرجت من كنوزه الثمينة ونُظمت من درره البديعة. هذه هي الكتابة العالية الخالدة، فلينظر أحدنا في تكوين الجرجاني وأداوته ومنهجه وإخلاصه في المقروء وصدقه في المكتوب، وإتقانه ومراجعته وتدقيقه.
وأما المثال من التراث العربي الإسلامي الحديث، فأشير إلى كتاب «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام»، فأنت حينما تروم القراءة في تاريخ الفلسفة والأفكار التأسيسية الكبرى في الفكر العربي الإسلامي، فإنك لا تطيق تجاوز هذا السفر الذي كتبه العلَّامة علي سامي النشار رحمه الله، الذي جاء في ثلاثة مجلدات ذات طابع تراكمي تحاشدي متقن. وقد وضعه العلامة خريج كامبريدج في مباحث متسلسلة، مع الرجوع إلى المراجع الأصلية والعزو الدقيق بالمرجع والصفحة، وقد سبقه سِفره الخالد البديع: «مناهج البحث عند مفكري الإسلام – واكتشاف المنهج العلمي في العالَم الإسلامي». ذكرتُ لصديق زارني في المِشكاة - الأستاذ يوسف الشتيوي- طرفاً من أسباب خلود النصوص، وطرحتُ له هذه الأمثلة من النصوص الرفيعة، وقلتُ له: العلامة النشار هو أستاذ لأجيال متعاقبة من العلماء والباحثين والمفكرين الرصان، وحدث أن كان بين أيدينا عدة كتب حديثة رصينة، فقلتُ له جازماً: ليس ثمة نصٌ متينٌ في بابه لم يُفِد من النشار، وللتدليل على ذلك فتحتُ ثلاثة من هذه الكتب دون أن أراجعها في وقت قريب أو أطلع على مراجعها، فإذا بالنشار يقف شامخًا في صفحاتها.. هذه هي الكتابة المتقنة الصادقة المؤثرة الملهمة الخالدة!
واقرأ أيضا:
هل التعليم العام لا يزال حيا؟ / تراثك يخصبك وتراث غيرك يعقمك