استعادة الصحة النفسية لضحايا الحرب على غزة2
في هذا الصدد يرى البعض أن العلاج النفساني في غزة نوع من الرفاهية في ظل استمرار الحرب؟
واقعيا هذا صحيح، إذ أن العلاج النفساني يستلزم أن يتم في جو يتسم بالأمان حتى يستعيد الضحية حالة من الاستقرار ويبدأ المعالج في مساعدته على التعافي من آثار الصدمات النفسية التي تعرض لها، وهذا الوضع غير متاح، إذ أن الضحية تحت التهديد طول الوقت، والمعالج النفسي أيضا لا يملك الأمان لنفسه ولا للضحية. ومع ذلك يقوم بعض المعالجين بواجبهم – قدر المتاح والمستطاع – تجاه الضحايا.
هل هناك ما يسمى بـ "أمراض النزوح" التي خلفها استمرار العدوان الإسرائيلي؟
نعم، لأن النزوح خاصة إذا تكرر أكثر من مرة – وهذا الحال مع أهل غزة – يعني أن يترك الإنسان بيته وممتلكاته ومصادر رزقه، والبيئة التي نشأ فيها وينتقل إلى مكان آخر لا يعرف عنه شيئا، ومطلوب منه أن يتكيف مع هذا المكان الجديد فيبحث فيه عن مأوى وعن مصدر للرزق والعيش وعن أناس يألفهم ويألفونه، وحتى لو نجح في ذلك فإنه سرعان ما يجبر على النزوح إلى مكان آخر لعله يجد فيه بعض الأمان، وهكذا مع تكرار النزوح يفقد الناس شعورهم بالأمان ويصبحون في حالة قلق شديد على حياتهم وعلى أولادهم وعلى لقمة عيشهم، ولا يشعرون بالارتباط بالمكان أو بالناس فهم سرعان ما يتركون كل هذا قهرا وقسرا.
ما هي تداعيات الحرب النفسية على الطواقم الطبية والعاملين في المجال الصحي.. وكيف يمكن مساعدة الأطقم الطبية على تجاوز تلك التداعيات؟
يتعرض العاملين في القطاع الصحي لضغوط هائلة فهم يرون جثث الموتى الممزقة، ويرون الجرحى ويحاولون مساعدتهم بلا إمكانيات أو بإمكانيات قليلة جدا، وهم غير آمنين على أنفسهم أو على أسرهم، وكثيرا ما كانوا يفاجؤون بزوجاتهم أو أبنائهم أو أقاربهم بين أيديهم موتى أو جرحى. ولهذا يحتاج العاملين في القطاع الصحي دعما نفسيا واجتماعيا لكي يستطيعوا تقديم الخدمة الطبية في هذه الظروف بالغة الصعوبة، ولكن مرة أخرى من سيدعمهم وكيف سيدعمهم، والجميع تحت ضغط هائل. وهناك جهود للدعم الخارجي من مؤسسات طبية أو إغاثية من خارج غزة تتواصل مع الأطقم الطبية ومع بعض المنكوبين وتقدم لهم الدعم والمساندة عن طريق الوسائط الإلكترونية.
كيف استخدمت إسرائيل الحرب النفسية ضد الفلسطينيين وهل نجحت في تحقيق ذلك؟
بالطبع استخدمت إسرائيل كل وسائل التخويف والترويع والضغط النفسي لأقصى درجاته ضد الفلسطينيين في غزة بهدف التخلي عن المقاومة، وبهدف النزوح من غزة وإخلائها لليهود، ولكن الفلسطينيين صمدوا أمام كل هذه الضغوط التي لا يتحملها بشر وما زالوا يقاومون ببسالة، بل واستطاعوا أن يهزموا إسرائيل إعلاميا عن طريق توثيق جرائمها وبثها صوتا وصورة لكل أنحاء العالم عن طريق الإعلام التقليدي ومنصات التواصل الاجتماعي مما أحدث تحولا كبيرا في الرأي العام العالمي وتعاطفا كبيرا من شعوب العالم وإدانة لإسرائيل في كل المحافل الدولية.
كيف يمكن حماية الأطفال المعرضين للحرب والحد من الآثار السلبية على حالتهم النفسية؟
سنتحدث عن وسائل العلاج المختلفة اللازمة لاضطراب كرب ما بعد الصدمة والاضطرابات النفسية الأخرى التي تعرض لها أطفال فلسطين ومازالوا يتعرضون، ثم نشير إلى الصعوبات الموجودة في المجتمع الفلسطيني والتي ربما تعوق الكثير من هذه الوسائل العلاجية في النهاية، ونقترح بعض الحلول المتاحة للتغلب على هذه الصعوبات (أو بعضها) كلما أمكن ذلك.
أ ) احتياجات لازمة للعلاج:
1- استعادة الأمان: وذلك بنقل الطفل إلى مكان يشعر فيه بالأمان والطمأنينة بعيداً عن مكان الحادث (وإن كان هذا غير متاح في كثير من الأحيان).
2- استعادة القدرة على التعامل مع عواقب الحدث الصادم: من خلال مساعدته على معرفة ما حدث له ولأسرته بشكل يحتمله وعيه مع إيجاد بدائل مناسبة لإقامته ورعايته وعودته إلى مدرسته.
3- استعادة شبكة الدعم والمساندة: من خلال إحاطته بمن تبقى من أفراد أسرته وأقاربه، وجمعيات الدعم والمساندة في المجتمع.
4- إمكانية استيعاب الخبرة الصادمة: في البناء المعرفي البسيط للطفل من خلال إعطاء تفسير ومعنى لما حدث.
ب) العلاج الدوائي:
هناك بعض الأدوية التي ثبتت فاعليتها في علاج هذا الاضطراب ومنها مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات مثل الإميبرامين (تفرانيل) والأميتريبتيلين (تريبتزول) ونبدأ بجرعات صغيرة منها للأطفال: 1مجم/كجم من وزن الطفل ونزيد بالتدريج حتى تتحسن الحالة مع مراعاة أن لا نتجاوز 3مجم/كجم من وزن الطفل يومياً. ويراعى في استخدام هذه الأدوية الاطمئنان على قلب الطفل بواسطة الفحص الإكلينيكي وعمل رسم القلب خاصة إذا زادت الجرعة، وهناك مجموعة من الأدوية الأحدث وهي مانعات استرداد السيروتونين الانتقائية (م.ا.س.ا) (SSRIS) مثل الفلوكستين والسيتالوبرام والسيرترالين والباروكستين والفلوفوكسامين وغيرهما، وهذه المجموعة تتميز بأن أعراضها الجانبية أقل وتقبلها أفضل.
وتوجد بعض الأدوية المساعدة نذكر منها مضادات القلق مثل ألبرازولام (زاناكس) ومضادات الصرع مثل كاربامازيبين (تيجريتول) وفالبروات الصوديوم (ديباكين) (Kaplan & Sadock 1994)، ويمكن استخدام البروبرانولول (إندرال) بجرعات بسيطة في حالة زيادة ضربات القلب أو وجود المظاهر الجسمانية للقلق (التعرق والرعشة وعدم الاستقرار)، وهذا يجعلنا نطالب الهيئات الدولية بتوفير مثل هذه الأدوية لهذا الاضطراب الذي يكاد يصيب كل الأطفال في فلسطين, إضافة إلى توفير الخبرات اللازمة لتشخيصه وعلاجه سواء من الداخل أو الخارج.
ج) العلاج النفساني:
الفكرة الأساسية في العلاج النفساني تتلخص في إزالة الضغط النفسي الواقع على الطفل (وذلك بإبعاده عن مصادر الخطر والتهديد بقدر الإمكان) ثم مساعدته على التنفيس عما تراكم بداخله من مشاعر وذكريات أثناء وقوع الحدث، ويتم هذا بشكل تدريجي في جو آمن ومدعم حتى يستطيع الطفل في النهاية استيعاب آثار الصدمة وتجاوزها. ويلي ذلك تعليم الطفل مهارات مواجهة الأحداث حتى تزداد مناعته في مواجهة أحداث مماثلة. ويمكن أن يتم ذلك من خلال جلسات علاج فردي للطفل أو علاج أسري يضم أفراد الأسرة الموجودين مع الطفل أو علاج جمعي يضم الطفل المصاب مع أطفال آخرين واجهوا أحداثا مشابهة أو علاج جمعي يضم أسر الأطفال المصابين... وهكذا.
والعلاج النفساني (الفردي أو العائلي أو الجمعي) غالباً ما يأخذ الوجهة التدعيمية للطفل ولأسرته ويقوم على أساس العلاج المعرفي السلوكي الذي يساعد على استيعاب الحدث في البناء المعرفي من خلال إعطائه معنى لما حدث ثم التغلب على الآثار السلوكية الناتجة من خلال تمارين الاسترخاء أو التعرض التدريجي لمثيرات القلق مع تقليل الحساسية أو التعرض الفيضاني في وجود دعم ومساندة.
د) العلاج الاجتماعي والديني:
وذلك بتنشيط شبكة الدعم الاجتماعي (أو ما تبقى منها) بدءً بالأسرة (أو بعض أفرادها الموجودين) ثم العائلة الكبيرة ثم المدرسة ثم المسجد أو الكنيسة ثم جمعيات المساندة الأهلية. وقد ثبت من الأحداث دور الرموز والقيادات الدينية في مساعدة الصغار والكبار على استيعاب الأحداث الدامية والتعامل معها بشكل تكيفي من خلال إعطاء المعنى الإيجابي لها من وجهة النظر الدينية الأعمق إضافة إلى أثر المفاهيم والأخلاقيات والممارسات الدينية على تماسك الأسرة والعائلة والمجتمع تحت مظلة التكافل الاجتماعي والتراحم والتلاحم.
هـ) العلاج الدولي:
محاولة تنشيط دور الهيئات الدولية ذات الصلة بالطفولة مثل اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية والهلال الأحمر والصليب الأحمر ومنظمات حقوق الطفل وحقوق الإنسان، بهدف توفير الحماية والدعم والعلاج في الأوقات التي يعجز المجتمع الفلسطيني فيها (والمجتمع العربي أيضا) عن تقديم مثل هذه الأشياء بسبب السحق الإسرائيلي المستمر لإمكانات هذا الشعب الأعزل إضافة إلى التهديد الأمريكي المستمر لكل من تسول له نفسه تقديم يد المساعدة للشعب الفلسطيني خاصة من الأثرياء العرب.
و) البرامج التدريبية:
نظراً لنقص الخدمات الطبية عموماً والنفسية بوجه خاص في المجتمع الفلسطيني ونقص الكوادر المدربة على التعامل مع مثل هذه الحالات رغم كثرتها في الأطفال والكبار فإن ذلك يستلزم تدريب عدد كاف من الأطباء والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين وأعضاء هيئة التمريض والمدرسين والمرشدين الدينيين على اكتشاف هذه الحالات والتعامل معها بشكل جيد . ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال عدد من المحاضرات وورش العمل حول هذا الاضطراب المنتشر في المجتمع الفلسطيني. كما يمكن طباعة كتيبات مبسطة توزع على المستشفيات والمدارس ودور العبادة تبين كيفية مساعدة من تعرضوا للأحداث الصادمة وتأثروا بها (وهم كثير).
كما يمكن أن تقوم النقابات الطبية في العالم العربي وفي العالم بشكل عام بدور إيجابي في ذلك الأمر مستعينة بمستشارين في الطب النفساني والعلاج النفساني وبمنظمة أطباء بلا حدود وبمنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف وذلك لخرق الحصار الصهيوني الأمريكي حول الشعب الفلسطيني وتوصيل الخدمات النفسية والصحية الضرورية له في هذه الظروف شديدة القسوة.
ذ) العون الإلكتروني:
في حالة استمرار الحصار الإسرائيلي (المدعوم أمريكياً والمسكوت عنه عالمياً) للشعب الفلسطيني وفي حالة استحالة توصيل الخدمات الصحية والنفسية المشار إليها سابقاً (وهو أمر وارد وقائم فعلا) فإنه يبقى أن تتم المساعدة من خلال وسائل الاتصال الحديثة وعلى رأسها الإنترنت وذلك لمساعدة أطباء الرعاية الأساسية وهيئات التمريض والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين على تشخيص مثل هذه الحالات وعلاجها ورعايتها وأيضاً لمساعدة الأطفال وأسرهم من خلال تقديم العون والمشورة من متخصصين مقيمين خارج الحدود ويمكن أيضاً عمل خطوط تليفون ساخنة تعمل على مدار الساعة لتقديم الدعم والمساعدة للأطفال المصابين وأسرهم. أو تقديم البرامج التدريبية عن بعد للمتعاملين مع هذه الحالات وخاصة الآباء والمدرسين وأطباء الرعاية الأساسية.
ح) العلاج الإنساني:
إذا كان ما يحدث للأطفال في فلسطين كل يوم يمثل جريمة بشعة وغير مسبوقة تقوم بها وتتستر عليها مجموعة من العنصريين المتطرفين فإن ذلك يستوجب وقوف حكماء العالم وقفة شريفة ونبيلة في وجههم قبل فوات الأوان، لأن ما يحدث -كما بينا- يزرع بذورا هائلة للعنف والكراهية والتطرف لا يعلم مداها أحد، وربما يدفع العالم في حالة سكوته ثمنا باهظا مثل الثمن الذي دفعته الإنسانية جراء السكوت على عنصرية هتلر وفاشية موسوليني. فالحركة الصهيونية حالة مرضية أصابت العالم المعاصر كفيروس تغلغل في مراكز القوة والتأثير فجعلها تتجه نحو التدمير الذاتي للكيان البشري، ومن هنا وجبت وقفة العقلاء من البشر من كل الأجناس (وهم موجودون والحمد لله) وقفة موضوعية متحررة من النزعات العنصرية والانتهازية السياسية لمجموعة المتطرفين والمغامرين المؤيدين للكيان الإسرائيلي العنصري المتطرف والساكتين على انتهاكاته لكل الحقوق والأعراف والقوانين. وإلى أن يحدث هذا فلا أقل من أن يمد كل الخيرين في العالم أيديهم الرحيمة ليمسحوا دمعة الطفل الفلسطيني ويعيدوا إليه الإحساس بالأمن والسلام في حضن أسرته ومجتمعه كبقية أطفال العالم.
واقرأ أيضًا:
الصهيونية على الشيزلونج النفساني! / الصيام.. أوله في النفس وآخره عند الله1