نحن البشر كائنات عجيبة، نحتاج إلى نهايات واضحة كحاجتنا إلى بدايات جميلة، بل ربما أكثر، فالنهايات ليست مجرد تفصيل ثانوي نلقيه على هامش الحياة، بل هي الشرط النفسي الضروري الذي يسمح لنا أن نقلب الصفحة بسلام، وأن نضع النقطة الأخيرة في آخر السطر، ونمضي إلى سطر جديد، دون أن نظل معلقين بحبال الماضي كأوراق خريف تأبى السقوط من شجرة ميتة!
ورغم أهمية النهايات، لكن الحياة لا تمنحنا دائماً ترف وجودها، فكثير من العلاقات لا تنتهي كما ينبغي لها أن تنتهي، فتجدها تنتهي فجأة كحبل مشدود انقطع من المنتصف، أو تتلاشى ببطء قاتل كشمعة تذوب قطرة قطرة، أو تغرق في بحر من سوء التفاهم الذي لم يجد من يشرحه أو يوضحه، فنظل نعيش في فراغ موحش، نوهم أنفسنا أن المشهد الأخير لم يُكتب بعد، وأن الباب الموارب قد يُفتح على مصراعيه في أي لحظة، ونعيش أسرى وهم أن «المياه ستعود لمجاريها» يوماً ما، بينما النهر في الحقيقة قد جف منذ زمن بعيد ولم يبق منه إلا الطين اليابس!
أتذكر صديقاً عزيزاً ظل سنوات طويلة مؤلمة يتغذى على وهم العودة المستحيلة، يعيش على فتات الذكريات، يراجع الرسائل القديمة مرة تلو الأخرى حتى حفظها عن ظهر قلب، يفسر الصمت الطويل على أنه انتظار صامت وليس موتاً محققاً، يحلل كل إشارة عابرة وكأنها رسالة مشفرة من الحبيب الغائب، حتى صادف محبوبته القديمة مصادفة في مكان عام، وحينها فقط اكتشف بصدمة مروعة أنها لم تعد تلك الصورة المثلى التي رسمها في خياله لسنوات، بل تحولت إلى شخص غريب تماماً، بل ربما مثير للشفقة أكثر من الاشتياق، فكانت صدمة قاسية كالصفعة، لكنها حررته أخيراً من سجنه الوهمي، لأنه لأول مرة رأى النهاية الحقيقية بعينيه، لا بخياله الملتاع!
المشكلة في قصصنا أننا حين لا نحصل على نهاية واقعية ملموسة، نشرع في كتابة نهايات من وحي خيالنا ثم نصدقها ونعيش أسرى لها، فنظل نعلق حياتنا على خيوط واهية من الاحتمالات، ونمدد المشهد الأخير إلى ما لا نهاية، ونؤجل البداية الجديدة التي تنتظرنا وتستحق أن نحياها بحق، كل ذلك لأننا نخاف من كلمة «النهاية» ونهرب من مواجهتها، غير مدركين أن النهايات المؤلمة الواضحة أفضل ألف مرة من الأوهام المريحة الغامضة، وجرح صريح يُرى بالعين ويُسمى باسمه الحقيقي، خير من نزيف داخلي صامت لا يتوقف أبداً، فالإنسان الذي يظل عالقاً في منطقة رمادية، في نصف علاقة ونصف فراق، يكتشف بعد سنوات ضائعة أنه لم يعش لا طعم الحب الحقيقي ولا مرارة الفقد الصريح، بل ضاع عمره في المنتصف، في اللاشيء!
إن حاجتنا الماسة للنهايات الواقعية الصريحة ليست قسوة منا ولا رغبة في الألم، بل هي رحمة بأنفسنا وبمن نحب، فالنهاية الواضحة مهما كانت موجعة تسمح لنا أن نغلق الباب القديم باحترام وكرامة، ونفتح باباً جديداً بثقة وأمل، أما النهايات المعلقة في الهواء، فهي اللصوص الحقيقيون الذين يسرقون منا أعماراً كاملة في حين قد نكون ننتظر من لا يستحق دقيقة واحدة من انتظارنا!
في النهاية، لا أحد مهما كان غالياً يستحق أن تُسجن حياتك في زنزانة غيابه أو في متاهة أوهامك عنه، والنقطة التي تضعها بيدك اليوم في نهاية السطر، قد تكون هي الحرف الأول في كلمة جديدة، وفصل جديد من حياتك أجمل بكثير مما تتخيل، فقط تشجع وضَع تلك النقطة... ودع الحياة تتكفّل بما يلي.
واقرأ أيضًا:
المتحف التعليمي.. للأخطاء! / حياتنا على الـ«Autopilot»!