العيد والغربة والاغتراب.
دوما ما يشعر المغترب بمشاعر حزن مبررة، لها مسوغاتها المعروفة، وقتما يمر مثلا على مناسبة اجتماعية وجدانية مثل الأعياد، أظن أن هذا شعور إنساني طبيعي.
مغتربٌ عبَّر لي عن هذا الأمر أن هؤلاء المغتربين بعد صلاة العيد مباشرة تُثار شجونهم، ويمرون باكتئاب وحزن وفقدان كبير في طاقاتهم، وعلى الأرجح يمر عليهم أول أيام العيد كما يمر على من أُرهق من كثرة المسير. إما بسبب عدم معرفة الدخول في النوم، أو بكثرته خلال هذه المناسبة، وهذا لست بصدده هنا، لوجود مسوغات إنسانية طبيعية لهذه التجربة القاسية نوعا ما.
لكن ثمة الكثيرين ممن نعرف يمرون بحالة من الحزن غير المبرر خلال المناسبات الاجتماعية (السعيدة المفرحة بالتحديد)، وبمعزل عن الردود النفسية المعروفة لذلك، يقولون مثلا أن هذا راجع إلى المقارنة مع الآخرين، أو الذكريات المؤلمة التي تطفو على رؤوسهم فتفسد فرحتهم، (فتجدهم مثلا بعد صلاة العيد يذهبون لزيارة المقابر!) أو ربما الضغط الاجتماعي الذي يتعرضون له حينها، والكلام في ذلك واسع.
لكن الكثيرين ممن قابلتهم ويمرون بهذه التجربة يعود السبب الرئيسي والأعظم لذلك هو ميل هذه الشخصيات لفلسفة ومنطقة كل شيء يدور حولهم، يريدون ردود مقنعة على تساؤلات من نوع:
لماذا يحتفل الناس بهذه الطريقة في أفراحهم؟
وهل يجب علينا الاحتفال أصلا؟
هل من المنطق أن نمر بكل هذه المراسيم في الاحتفال؟
يقولون:
يجب علينا وضع حدا لهذه المهازل غير المنطقية.
ما أريد أن أقوله لهؤلاء أن المناسبات الاجتماعية جزء من التراث الإنساني التاريخي، يجب تقبله كما هو دون فلسفات فارغة.
ببساطة الناس يحتفلون في أفراحهم هكذا. لكن أنت يا صديقي البائس لا تحب هذه المظاهر، وتريد لها تفسيرات تتماشى مع تركيبتك النفسية والبيولوجية.
فقط تقبل، استمتع، امتزج، تعايش.
أرجوك كف عن التفكير الزائد في أمور لا علاقة لها بتغيير الواقع، كل ما تفعله هو إرهاق ذهنك الضعيف في محاولة بائسة يائسة لتفسير كل شيء بطريقة تناسب تركيبتك النفسية.
المشكلة ليست في المناسبات، الإشكالية في عدم تقبلك للمظاهر المتعارف عليها إنسانيا في مجتمعك.
المشكلة في شعورك بالاغتراب! بينما أنت لم تغادر سريرك العتيق.
جرب أن تمتزج بالمجتمع، افرح كما يفرح الناس، وافعل ما يفعلون.
هذه ليست طقوسا دينية تعبدية فرضها الرب لتغالي وتتحوط في تفسيراتها.
والله حتى الأمور التعبدية يا صديقي لن تستطع أن تجد لها تفسيرا مقنعا. لكن أنت نفسك تفعلها كما هي بتسليم وسعادة دون إرهاق!
هل تريد أن تمر بتجربة الحج ومراسيمها!؟ هل تمتلك تفسيرات لتلك الطقوس التعبدية؟
بينما أنت هناك تملؤك الطاقة والسعادة والحيوية، تدور حول البيت، وتسعى بين الصفا والمروة، ترمي الجمرات، دون بحث عن تفسيرات مقنعة، لكن وقتها أنت سعيد، سعيد جدا، وكذلك كل من حولك، حتى إخواننا أصحاب الديانات الأخرى يمرون بتجاربهم الدينية بسعادة وهناء.
وإن كنت تُرجع يا صديقي رفضك النفساني لمظاهر الاحتفال لأمور تتعلق بالدِّين فأنت واهم مُضَلَّل، فقط أنت تحاول أن تقف في المنطقة الآمنة لك التي لا تخوض فيها ممارساتك النفسية الشاذة الخاطئة.
كن على يقين أن الله ترك لنا مساحة واسعة نتصرف فيها كما نشاء ما لم نقترف إثما بيناً أو قطيعة.
قال لآدم في الجنة "حيث شئتما"
الحرام معروف، كلنا نعرفه، واللمم استثناه الله، وترك لنا أن نلُم من الدنيا. ومظاهر الاحتفال في مجتمعاتنا ليس بها كبير، وإن كان بها شيء خاطئ فلا يعدو كونه لَمَم! والله أعلى وأعلم.
فقط كف عن نزوعك نحو الكمال الطوباوي المزيف، كف عن فكرة أنك الشخص الوحيد الأوحد الذي يمتلك تفسيرا ونظرية في المسألة.
وإن لم تقتنع هنا بفكرة أن مظاهر الاحتفال جزء من التراث الإنساني المتعارف عليه، والذي ركّبه الله فينا نحن البشر، فأرجوك لا تفسد فرحة الآخرين.
افعلها من أجلهم، لا تكن مغتربا في أهلك، قابعا في سريرك العتيق، لا تكن أناني.
فقط تقبل، استمتع، امتزج، تعايش.
افرح يا حزين.
واقرأ أيضًا:
سحر الدعاء: لماذا لا يستجيب الله لدعائنا؟ / نظرية المسيح