نعيش منذ أكثر من عامين متنقلين بصورة دائبة بين مدريد، وجزيرة من جزر أرخبيل الكناري السبع التابعة لإسبانيا، على الرغم من أنها جغرافيًا تنتمي إلى المملكة المغربية وصحرائها الغربية وشواطئها الإفريقية.
بيتنا في جزيرة "لابالما "؛ يقع في بطن إحدى هضباتها الجبلية، فهي جزيرة بركانية ما فيها غير الشواطئ الطبيعية الصغيرة، والمئات من قمم الجبال الشاهقة، وغير الشاهقة.
تخرج إلى الشرفة، فتصطدم مباشرة بالجبل، مما يثير الحنين إلى مدريد وسهولها المترامية، وشوارعها الفسيحة، لكنك ترفع رأسك نحو السماء، فترصد هاتيك الحفنة من النجوم، التي يستحيل على المرء رؤيتها في سماء مدريد الملوثة بالدخان والكهرباء.
ومن شرفتنا -ومن خلال زاوية صغيرة بين الهضاب والأبنية- يتجلى أمام ناظريك -عن بعد- ذلك المنظر المهيب لمياه المحيط الصقيلة، تَمْخُر عُبَابَها المراكب بين الحين والحين، والشمس هناك لا تُخلف موعدها في الشروق كل فجر، والمحيط أراه- من شرفة بيتي ذاك في الطابق الثامن- ولله فيه شأن- في كل ساعة من ساعات النهار والليل، يلونه ويحركه ويقلبه كيف يشاء.
عندما دخلنا تلك الدار كان أول ما اصطدمت به ذلك الجبل.. لم أتبينه أول الأمر؛ إذ كنا قد وصلنا الجزيرة ليلاً، فانطلقنا من المطار إلى البيت رأسًا، فلما كان النهار فوجئت بالجبل في وجهي؛ مصمت.. مظلم.. بحجارته السوداء، يرتفع هكذا أمامي، وكأنه صُمم خصيصًا ليسد عليّ كُوى الحياة.
أيام مضت.. وأنا حانقة أندب حظي مع الجبل، ثم بدأت تتناهى إلى أذني أصوات غريبة؛ ديك يصيح، قطيع من الماعز يتقافز هناك.. وتترنم بعض شياهه بأصوات تتجاوب مع عزف أحد أبناء الجيران على بوق صار بالقياس إليه صوت الماعز رحمة!.
حياة تدب في ذلك الجبل، أسراب من مختلف أنواع الطيور، كانت تبني أعشاشها خلف الأعشاب الكثيفة الخضراء التي اختلطت بالتربة الحمراء، التي صففتها يد العناية الإلهية هناك، فما إن هطلت الأمطار حتى اهتزت وربت، وإذا بالجبل حُلّة قَشِيبَة من الألوان والأشكال والروائح.... وتراكضت هناك دجاجات عجبت على غبائها كيف لا تنزلق أو تتسقط!
بدا الجبل أمامي حياة زاخرة بالحياة؛ ممرات وسبل محفورة في جنباته، يطرقها الناس اليوم، كما كان أهل الجزيرة الأصليون يفعلون منذ مئات السنين، يقفون هناك في القمة، يرمقون ذلك المحيط وهو يعانق السماء، ويتفكرون في وحدتهم وعزلتهم، ويستريحون ساعة ثم يتابعون السير.. وأكثر من مرة.. صعد فتيان إلى هاتيك الذُّرى، فرموا بأنفسهم منها فرارًا من تجارب حب مريرة، أو نتائج امتحانات مخيبة للآمال!
ألِفْت ذلك الجبل حتى أصبح جزأً من حياتي في "بالما"، لقد غيرنا رأينا في الانتقال من هذا البيت الواقع في حضن ذلك الجبل؛ فشقشقة العصافير فجرًا توقظنا، وصرير الحشرات الليلية يعطينا شعورًا بالراحة، وبأن زحف المدنية لن يقتلنا، وأهم ما في هذا الجبل من حسنات أن الله كان قد عصمنا –وجيراننا- به من إعصار ضرب الجزيرة قبل أشهر فغرق نصفها، وتحطم نصفها الآخر.
ولم أكد أُجري مع جبلي هذا صلحًا، جعله (الصلح) صديقي شبه الوحيد في هذه الجزيرة.. حتى استيقظنا ذات صباح على جيش عَرِم مدمدم قبيح رهيب، من الجرّافات والجرّارات، والحفارات والشاحنات، تزحف نحونا، تزلزل الأرض من تحتنا وتملأ صفاء رؤانا بالغبار والضباب القذر.. لقد قررت المحافظة التصريح بإقامة سوق تجارية في هذا المكان، ملاصقٍ لبيتنا!! وبدأ الحفر والنقر، في قلوبنا وعقولنا، وآذاننا ووجودنا؛ فالآلات تنهش من الجبل، والحفارات تنقض على جذوره مقتلعة صخوره، قالبةً تربته، وآلات ضخمة مرعبة أخرى تمد أذرعها المخيفة تلك تنتزع شجيراته العطرية، قاتلة أزاهيره الزرقاء والأرجوانية، طاردة الماعز، مهدِّمة الحظائر التي كانت هناك، قاطعة الدرب على كل من أراد السير فيه.
سألت المهندس الذي كان يدير تلك العملية الرنانة ضد الجبل: حتى متى ستستمر أعمال الحفر هذه؟ فأجاب –وخوذة فولاذية صفراء تكاد تغطي نصف وجهه، وسماعات قد غُرِست في أذنيه، وأمام فمه لاقط للصوت، وأربعة من الهواتف المحمولة ينطق بها، مُديرًا من خلالها مشروعه الذي كان ينتزع الحياة من جبلنا.. أجاب: إنه جبل هشّ، فلا تبتئسي!، بل أكثر من ذلك، لقد أكّد بعض البحّاثة أنه لم يكن له وجود تاريخي جيولوجي كبير، وهذا يعني أنه سيسقط في الحال.
قلت له: أنا لا أستطيع الكتابة؛ فضجيج الآلات يحطم قدرة "فيكتور هوجو" نفسه على التفكير والتركيز.. فكيف بِأَمَة مسكينة مثلي، والأولاد لا يتمكنون من الدراسة، وعندنا ثانوية عامة اتخذت صاحبتها من عمليات الحفر ذريعة لترك المذاكرة! قال الرجل: لا، لا داعي لترك بيتكم والانتقال إلى حي آخر، الجبل هشّ، وسنفرغ من تحطيم هذا الجزء منه في وقت قصير.
مضت أربعة أشهر.. هشموا وجه الجبل، اقتلعوا بعض صخوره، أوقفوا سير الحياة في طبقته السطحية، رشوه بالأسمنت الرمادي القاتل، ومازالت الآلات تعمل -منذ أربعة أشهر- اثنتي عشرة ساعة متواصلة يوميًا، ولكنهم لم يستطيعوا زلزلته، ولا إزاحته، ولا تدميره، ولا دكه.. ولم يستطيعوا قتل الحياة فيه؛ فلقد بدأت مع الربيع براعم خضراء تنبثق من خلال شقوق الأسمنت، وطيور جاءت تحط هناك تغني للأمل!
مضت أربعة أشهر.. ومازال الجبل جبلاً، وما فتئ أولئك لدى سفحه كضفادع قذرة لزجة، خرجت من المستنقعات، وظّنت في نفسها القدرة على نفي الجبال، وتشويهها واقتلاعها.. إلا أن جبلنا بقي هناك يصافح تلك الحفنة من النجوم، ويشرف على مياه المحيط العجيب.. وبقي أولئك الغزاة فقاعات تفرز سموم مدنية الموت والخراب عند قدميه.
واقرأ أيضًا:
نهايات حزينة... لا بد منها! / العصبي... أطيبهم جميعاً!